هل الأشاعرة هم أهل السنة المحضة؟ وهل عقيدتهم هي عقيدة فحول علماء الأمة؟

28 أغسطس 2014 16:18
صناعة القدوات بين ماضي البناء وحاضر الهدم

محمد بوقنطار

هوية بريس – الخميس 28 غشت 2014

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله تعالى الذي قال سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} الأنبياء:18

والصلاة والسلام على رسوله الذي بلغ الرسالة فوفى؛ وأدى الأمانة فكفى؛ ونصح الأمة فصفى؛ وكفى به متبوعا متبعا؛ والحمد لله على نعمة الاتباع وترك الابتداع.

عندما تكلم أهل العلم المعتبرين من سلف هذه الأمة عن مفهوم التواضع بين اللغة والاصطلاح، ميزوا بين درجاته ووقفوا على اعتبار منزلة التواضع للدين من أعلى درجات التواضع، وعرفوها في هذا المقام بأنها على الحصر: «الانقياد لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والاستسلام والانقياد له بحيث لا يعارض بذوق أو حال أو قياس أو فلسفة أو كلام».

لم يفتهم أن يفرعوا عن هذا المفهوم الأصل ذكر من شذ عن هذه الخصيصة في مدارج العقيدة والفقه والسلوك والسياسة من أهل الكلام والتعصب المذهبي والمتمصوفة القبورية والمعتدين في الحكم والسياسة.

وجدير بالذكر والتنبيه أن يعرف المرء بعد بلاء أمر وخبر أن الانحراف في العقيدة كان بمنزلة أم الخبائث الذي انبنت على ثمالته كل الانحرافات التي مست الفقه والسلوك والسياسة.. وما صنم الوصاية الذي تجلد به ظهور العلماء والخطباء ونعني به «دليل الإمام والخطيب والواعظ» ببعيد عما ذكرناه آنفا، ولربما تساءل متسائل ولا أنكر عليه منكر سر العلاقة بين التوطئة بذكر التواضع وما يضاده من كبر وعناد؛ وبين مقصد الرد على دعوى أن الأشاعرة هم أهل السنة المحضة وسواد الطائفة المنصورة؛ وأن العقيدة الأشعرية هي التي تواطأت على العض عليها قلوب الأئمة وأفئدة ذوي الألباب من فحول أعلام الأمة.

ولربما كان الجواب -ولو أنكر منكر- أن الكبر هو الذي جعل البقل يغير الشكل، وهو الذي حال بين الدكتور والفيلسوف، والمنطقي والأصولي، والنحوي النحرير وإمكانية أن يقبل بأن يكون جنبا إلى جنب يعتقد بعقيدة باقي المكلفين من الذين وسعتهم حجة الإرسال والتنزيل من عوام الناس وأغمارهم من الذين صدّقوا الخبر وأطاعوا الأمر في غير معارضة وتنطع بزعم معقول أو ظن قياس أو خرافة ذوق أو بغي سياسة، من الذين فهموا من ذلك البث المتكرر المتعدد المتنوع لأسماء الله وصفاته بأنه بث يرمي إلى إحاطة القلب البشري بهالة من الإجلال والتعظيم والمحبة، بحيث تكون هذه الهالة من ذلك الخليط المتسامي قادرة على ربط المخلوق بخالقه برباط وثيق متين لا تنفصم عراه ولا ينقطع وصله ولا يقعد سبيله حتى يقول أحدهم «لن نعدم خيرا من رب يضحك».

وهذا ما لم تستطعه الفرق الضالة التي تخبطها مس الفكر اليوناني والمنطق الإغريقي وغيره من وافدات التأثير الحائف، فحولت قضية الأسماء والصفات إلى جدل ذهني وقضايا فلسفية مشكلة ناشزة، ثم بعد ذلك أفرغتها من شحناتها التعبدية التربوية الهادفة فأردتها ضحية قضايا ذهنية باردة لا حرارة فيها، سليبة لا حياة لها ولا تأثير.

ولعلنا بعد هذا نحب أن نوجه الكلام في سياق مجراه لنقرر أننا نكتب بداية لراغب على الفطرة لا عنها، ليتأمل هذا الكلام غير المركب فيوفقه الله إلى ما يحبه ويرضاه فينجيه سبحانه من التلفيق إلى التوفيق، ومن الاستصراخ بالتضليل إلى الاستنصار بالدليل، الذي رأس سنامه أن يجل العبد مولاه وينزهه سبحانه عن تهمة مخاطبة معشر المكلفين الملتزمين بميثاق العبودية بما لا معنى له في معهود لسان الأميين تعالى الله عن هذا علوا كبيرا.

ولذلك كان التسليم للقوم عند قولهم إن الأخذ بظواهر النصوص يقتضي التشبيه، وتشبيه الخالق بالمخلوق كفر بالاتفاق، يدفعنا دفعا لنتساءل: كيف يمكن أن يستسيغ مؤمن بله مسلم عاقل غياب البيان والتفصيل والاستدراك النبوي، وأن يتأخر توجيهه المغمور في ثوب التحذير عن ساعة الحاجة إليه في هذا المقام العظيم والمنعرج العقدي الخطير؟

بينما نجد النبي عليه الصلاة والسلام كما في شهادة سلمان رضي الله عنه حاضرا بجوامع الكلم وعظيم البيان حتى في أمور التخلي والخراءة وليست هذه بالاتفاق أصل أصيل ولا ركن ركين تنهدم بانهدامه عرى الدين إذا ما سكت النبي عن مثل هكذا تبيين.

ويبقى قولهم أن العقيدة الأشعرية هي عقيدة السواد الأعظم من أمة الاستجابة قول فيه ما فيه من المغالطات والمزايدات الجريئة التي لا يلامس ردف كيفها واقع كمها في حقيقة معشر المكلفين المخاطبين بالشرع، اللهم إن كان المتخرص بهذا يقصد بالسواد الأعظم عدد الملتحقين والمتحلقين تحت ظل سلطة الرسمي، فإن الواحد حينها يعدل ما يعدل في مقام الاستبداد بالرأي ومطلق الإقصاء لمخالفيه سيما في زماننا حيث الإعلام يلعب دوره المنوط به على أتم وجه وكفاية مطلوب.

وإلا كيف للجَـدِّ والجدة والمقلد والمقلدة وهم بمنطق العد والإحصاء يشكلون السواد الأعظم من أمة الدعوة والإجابة لا قليل العلماء وأقل المتكلمين والفلاسفة في دائرة التكليف ومقاصدية بلوغ الحجة عبر هبتي التنزيل والإرسال مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} بضابط قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}، أن يفهموا كلاما مركبا عده القوم أول واجب على العبيد وذلك من قبيل الكلام عن الجوهر والعرض والنظر المخصوص الذي هو النظر في الأعراض وأنها لازمة للأجسام وأنه يمتنع وجود الأجسام بدونها، وطرق إثبات حدوث الأجسام وإمكانها وإثبات حدوث الجواهر وإمكانها وإثبات حدوث الأعراض وإمكانها، وكذا إثبات أن الأعراض لازمة للأجسام فيمتنع وجود الأجسام بدونها، وقولهم ما لا يخلو من حوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها، ودون فهم هذا المنهج وتفهيمه لعوام المكلفين وعموم الناس خرط القتاد.

ولما خرج الأمر على هذه الشاكلة والمنوال اضطرب باللازم المتقدمون من السادة الأشاعرة في إيمان المقلد ومنزلته حتى رماه بعضهم بالكفر، بل دار الرمي بين النص على فسقه وعصيانه وكفره وليس هذا من بدع قولنا ولكنه تتبع مع شرف إحالة، حيث يرجع في هذا إلى «أصول الدين» للبغدادي وشرح السنوسي على «أم البراهين» وشرح «بدء الأمالي» لأبي بكر الرازي الحنفي و«التمهيد لقواعد التوحيد» لمحمود بن زيد اللامشي الماتريدي و«المسايرة» لابن همام الحنفي وشرحها «المسامرة».

وصدق ابن النفيس إذ قال: «ليس إلا مذهبان مذهب أهل الحديث أو مذهب الفلاسفة، فأما هؤلاء المتكلمون الأشاعرة والمعتزلة فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف»، ولسان الصدق هذا سيركبه الفيلسوف ابن رشد وهو يقول في كتابه «الكشف عن مناهج الأدلة عند الأشاعرة»: «ولولا النشأ على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة».

ولننتقل إلى عمدة القوم في باب المحاجة وجبر سقيم المعتقد ونعني به شريطهم الذي شرخه كثير الاستعمال، شريط سرد رسوم وأسماء فحول علماء الأمة الذين انتصروا للمذهب الأشعري والعطف بعد السرد بنبز المخالفين بالحشوية والمجسمة والمشبهة ومن ثم لعب دور رمتني بدائها وانسلت وإلا فهم المعطلة وهم المشبهة على الحق والصدق لا من أثبت ألفاظها وحقيقتها بغير تشبيه ولا تمثيل، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم في صواعقه: «ولهذا لا يأتي الرد في القرآن على هذه الفرقة التي انتصب لها هؤلاء فإنها فرقة مقدرة في الأذهان ولا وجود لها في الأعيان».

 

ولعل عادة القوم وإلفهم في فتح باب المعطوفات والاسترسال في ذكر رسوم السادة الأشاعرة، هو أسلوب تستنكفه أصول المطارحة وأدبيات المحاججة ذلك أن الرجال يعرفون بالحق لا بهم يعرف وإن كان هذا لا يمنع من القول أنهم وسائط بين الحق ومعرفته واعتناقه، لكنها وساطة لم تصنع جوهر الحق ولم تساهم في تشكيل ملحظه ولم تبلغ مطلق الدلالة عليه إن كانت كان وإن غابت غاب، لأن الحق في هذا المقام موضوع التدافع هو محض وحي يوحى ومحض قول قائل لا ينطق عن الهوى، وفي هذا استدراك على من عاند بأسلوب النسخ واللصق عند قوله تأسيسا في غير تأس «يعرف الرجال بالحق كما يعرف الحق بالرجال»، مستدلا بقولة للعلامة قاطع دابر البدعة الإمام الشاطبي وإن كان يجدر به في باب التجرد والإنصاف والأولى اجترار موقف الشاطبي في اعتصامه من التصوف والطريقة التيجانية قبل العقائد الكلامية وإن كانت قواعد الإمام مطردة في نسف الأمرين.

ومع أن الاعتقاد سيبقى قائما في كون الاسترسال في ذكر الرجال دون الوقوف على أصول مذهب ما والتعريج بذكر مسالكه وتفاصيله هو أسلوب تأباه أصول المطارحة وقواعد الإفحام بالدليل لا بالتهليل، إلا أن هذا لا يمنع في غير خصاص أو شح إعمالا لعدل «هذا بذلك وهذه بتلك»، أن نرد بالمثل فإن من ورائنا أعلاما وأئمة لو وضع الواحد منهم في الكفة المقابلة لرجح الكيل وبلغت القلوب الحناجر وخفت موازين القوم وتطايرت صحف الشبهات:

نذكر منهم الإمام الليث بن سعد إمام أهل مصر، والإمام الأوزاعي إمام أهل الشام، والإمام إسحاق بن راهويه إمام خرسان، والإمام سفيان الثوري إمام أهل العراق، والإمام المجاهد عبد الله بن المبارك، وأئمة البصرة في زمانهم: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وإمام سمرقند الحجة عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأئمة اليمن: الحفاظ معمر بن راشد الأزدي، وعبد الرزاق الصنعاني، وأئمة الحديث الجهابذة الراسخين: علي بن المديني، وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي، ويحيى بن معين، ويحيى القطان، وشعبة بن الحجاج الأزدي، وإمام الدنيا في زمانه الإمام البخاري صاحب الصحيح وصحيحه يشهد له بذلك، وتلميذه الحافظ مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح أيضا، وبقية أصحاب الكتب الستة: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وخاتمة الجهابذة إمام المسلمين في زمانه أبو الحسن الدارقطني وخليفته من بعده الخطيب البغدادي، وإمام الأئمة ابن خزيمة والإمام بن حبان، والإمام الحاكم وغيرهم كثير وكثير..

ولو استزادنا مستزيد زدناه فإنه معين لا ينقطع وصله ولا ينضب ماؤه في مقابل ما يحتج به علينا من أعيان قلة من المتكلمين والفلاسفة الذين عاد أغلبهم عن طريقته ليموت على عقيدة عجائز نيسابور.

هذا ويهمنا أن نذكر أن الإمام مالك لم يكن أشعريا بله متكلما ولا تلامذته من بعده الذين أخذوا عنه كابن القاسم وسحنون وبشر بن عمر الزهراني وكذلك الذين رووا عنه الموطأ كالإمام يحيى الليثي وأبي مصعب الزبيري ومحمد بن الحسن الشيباني، وكذلك أتباع مذهبه من الأئمة الكبار أمثال: إسماعيل بن إسحاق القاضي، والقاضي عبد الوهاب المالكي، وأبو عبد الله المشهور بابن زمنين، ومسك الختم لا الختام حافظ المغرب إمام الأندلس أبو عمر بن عبد البر رحمة الله على الجميع.

ويبقى السؤال الذي نحب أن نوقع به ذيل هذا الاسترسال في مقابل ما يزايد به علينا المزايدون عند كلامهم عن ثوابت المملكة في إشارات ماكرة ترمز من بعيد إلى كون السلفيين (أهل السنة والجماعة) يشذون عن هذه الثوابت ويشقون بذلك عصا الطاعة وهم من هم؟

هم الذين تعلمنا في دورهم أن الرد في كل أمور الدين لا يكون إلا لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما تعلمنا منهم حفظ الأمن والمحافظة على استقرار البلاد..

سؤالي هو: لماذا لم يتم استيعاب الحياة التدينية لإمام دار الهجرة عقيدة وفقها وسلوكا؟

أم تراه -وحاشاه- كان سيء السلوك فاسد العقيدة صحيح الفقه فقط؟

والأشاعرة لا يعظمون العقل كما يتوهم البعض وإنما الصواب أن القوم يعظمون أدلتهم وقواعدهم، ولذلك لما عظموا هذه الأدلة بدعوى أن العقل دل عليها في الاعتقاد خذلهم الله في المنهج والنبوات والكرامات فصدقوا الخزعبلات وارتموا في محاضن ظلم الشرك باسم التصوف ومقامات الإحسان.

والعجيب أن تجد الأشاعرة يفعلون هذا وهم الذين يحرصون على نفي الشبيه عن الله تعالى في صفاته وأفعاله بينما شقهم الصوفي مولع بتشبيه الله بخلقه من خلال حكاياتهم ومناماتهم التي تتسفل في جعل الخالق كما لو كان مخلوقا مثلهم يخالطهم ويجالسهم ويحادثهم يقظة لا مناما.

والغرض من ذكر هذا الكلام محاولة إيجاد تفسير لظاهرة استفحال عبادة القبور في صفوف الأشاعرة بعد تفشي الصوفية فيهم بالاطراد حيث لا تكاد تجد أشعريا إلا وهو معتنق لطرق من طرق التصوف والقبورية، ولعل هذا يجد مسوغه في كون من بنى عقيدته على علم المنطق الأرسطي الوثني عوقب جزاء وفاقا بتفشي وثنية عبادة المقبورين من الأقطاب والأبدال وذيل الأرباب من دون الله طويل الذيل مرسل المعطوفات.

وقد صرح الرازي بأن فلاسفة اليونان كانوا يستمدون الفيوض من القبور وأهلها إذا اعترتهم مشكلة من المشكلات، وكان الفلاسفة من تلاميذ أرسطو إذا دهمتهم نازلة ذهبوا إلى قبره للحصول على المدد والفيض وهكذا كانوا يعبدون القبور وأهلها.

فما أشبه ذلك بهذا الذي نراه في صفوف المتمشعرين الجدد حيث يتنازل القوم عن كبرهم وعنادهم السالف ذكره في مقام الاعتقاد، ليتجاوز هذه المرة ذلك الدكتور والأصولي والنحوي النحرير في تسفله السلوكي عتبة التواضع ليمعر ناصيته بذلٍّ وإنابة أمام أعتاب المقبورين وأديرة الأحياء من شيوخ التصوف القبوري ليأخذ الورد عن جاهل لا يعرف من العلم رسما ولا اسما، وربما احتاج عند زيارته لكي يحشر يمينه في جيبه فيدفع النفيس في مهر سبحة صك الغفران وبطاقة الجنان؛ قيل أن حبات عقدها تعدل ما تعدل في العد والأجر والثواب، وكفى بهذا الضلال في الفرع دليلا على اعوجاج الأصل كما قيل «لا يستقيم الظل والعود أعوج»نسأل الله العفو والمعافاة.

 

[email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M