الثروة اللامادية ومعيقات التنمية.. أية علاقة؟
ذ. إدريس كرم
هوية بريس – الثلاثاء 17 شتنبر 2014
صدق، وفاء، أمانة، شهامة، رجولة، حماس، غيرة، إخلاص، مبادرة، صبر، وغيرها من المبادئ التي ترتبط بالخُلق والدين والتربية والعادات؛ لو أضيفت للعمل والرأسمال والإدارة والتنمية لأنتجت أموالا طائلة، ولشغّلت آلافا من اليد العاملة في مختلف القطاعات.
نحن لا نتكلم عن العنقاء ولا عن تاريخ مضى وانقضى، ولكن نتحدث عن أنساق اجتماعية ما تزال متداولة في مجتمعنا، بالرغم من عوامل الهدم الذي تعرضت له بنياتها منذ انطلاق الغزو الفرنسي والإسباني لبلادنا بغية الاستيلاء على الأرض، وتسخير الإنسان لرفاهية المستعمر؛ يقول أدنو: (جئنا لهذا القطر عاملين لعظمة فرنسا، ونشر ذكرها وقوتها على وجه المعمور) (“محور السياستين”، ص:217)؛ بيد أن المغاربة لم يكونوا وجبة سهلة!! مما جعل الغزاة يكيِّفون مصالحهم مع المقاومة التي لاقوها والتي انطلقت من الصفات السالف ذكرها.
يقول الإعلامي خالد مشبال: “أما برنامج “ليلة القدر” فقد كان يتلقى الدعم دون أن يكون له الحق قانونيا في ذلك، كان الناس يبعثون شيكات في اسم أمينة السوسي، مع أن اسمها الرسمي هو أمينة أجانا، ولم يحدث أن ردت إحدى المؤسسات البنكية في المغرب هذه الشيكات.
كانت تتوصل بشيكات من الكتابة الخاصة للملك في اسم أمينة السوسي، فاتصلت بمن يعنيه الأمر وأخبرته بأن البرنامج لا يتوفر على حساب بنكي فأجابها: نحن لا نعرف أحدا، نعرف أمينة السوسي” (المساء، ع:2478)، ترى كم من الأموال مرت بيد هذه السيدة الفاضلة دون أن يقال لها بأنها تحتاج للمحاسبة؟ وما هو رأسمالها المادي؟
يقول العلامة المختار السوسي: كان النفاليس (وهم ممثلو القبيلة) يختارون لمدة سنة فقط، فكان كلامهم مطاع وأمرهم نافذ، وكذلك كان الفقهاء، وفي ذلك يقول في الجزء:17 من المعسول: “كان التلميذ إذا ختم القرآن في السوس يلحظ بعين التعظيم، فيسري فيه، فيتكلف أنواع الأخلاق الحميدة من لطف وتواضع واجتهاد، فترنو له العامة والخاصة، فلا يأنفوا من كلامه، ولا يستنكفوا من ملامه” (ص246)، فأين هذا من نواب البرلمان ورؤساء الجماعات وموظفي الدولة مهما علت رتبهم وزاد خطرهم؟
ويقول عن مؤتمر “ميرغت” بين ممثل الجنرال كورو، وقبايل لخصاص، واولاد جرار المتحدث باسمهم أحد الفقهاء في مقابلة لكلاوي ممثل الجنرال “كورو”:
قال لكلاوي لم نجئ إلا للمصالحة بينكم وبين الحكومة الفرانسوية، فقال له الفقيه: أي صلح بيننا ما دمت في أرضنا ووطننا؟ فقال لكلاوي: “الصلح على شروط ثلاثة:
– أن تخرجوا ماء العينين من أرضكم.
– أن تأتوا بهداياكم لتزنيت وتخضعوا للحكومة.
– أن تسلموا السلاح لها.
هذه هي الشروط التي ألقاها عليكم الجنرال الفرنساوي “كورو”، فإن اختل واحد منها فلا صلح”.
فقال له الفقيه سيدي عبد الله: “فهذا إذن عين الاحتلال لأوطاننا، والله لا نقبل واحدا منها حتى لا يبقى فينا نافخ من رجل أو امرأة” (ص:391).
تلك نماذج من الثروة اللامادية المطلوب البحث في أشكال دعمها، إن لم نقل إحياء الدارس منها لتحقيق التنمية الشاملة التي سبق أن نبهنا في دراسات سابقة منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى وجوب العناية بها، والتنويه بما فعله شباب العشرينيات من القرن الماضي حينما باغتوا الغزاة بالمطالب الإصلاحية، وتنظيم الجمعات والأحزاب، وإصدار الجرائد والمجلات، وإنشاء المدارس الحرة، من غير أن يكون لهم رأسمال مادي، وإنما كانت لهم مصداقية وقيمة ورأي محترم، يصدقه الناس ويذودون عنه بالمال والنفس، ويطبقونه أشكالا أشكالا.
فهل يستقيم هذا مع ما جاء في الإعلان عن بيان معوقات التنمية البشرية الصادرة عن جماعة محترمة من الباحثين والمفكرين الذين يريدون بذلك جرّ الدعوة الملكية للتفكير في اللامادي بالمادي، درء لما يؤدي للتفكير في التدين والتخلق، وما به أسلفنا من محددات، والخروج بالدعوة من المجال الاجتماعي إلى المجال السياسي، حتى يقع ما وقع لتقرير الخمسينية الذي كان فضيحة لمن صاغه وطبل له.
لقد خصص حوالي ثلثي البيان لبسط النقائص التي تعب منها الجميع ولم يعد لها طعم؛ شملت حوالي 30 معيقا ومعرقلا للتنمية، من قبيل هشاشة؛ مثبطة؛ ضعف؛ صعبة؛ احتكار؛ زبونية؛ مرجعين سبب كل تلك المعيقات لاختيارات المرحوم الحسن الثاني في الستينيات، والتي لم يعد النظر فيها في الخمسة عشر سنة الأخيرة، وكأن الذين كانوا في تلك السنين يبرمجون ويخططون ويعرضون ويتآمرون ويطرحون البدائل أطهار لا علاقة لهم من قريب أو بعيد مع الإخفاقات المنوه بها والأعطاب المعلن عنها، مع أن الكل يعلم من خلال التراشق بالمذكرات والاعترافات، أن الكل مدان سواء بسواء، ويجب إخضاع الجميع إلى نفس المعيار الدراسي والتعليلي.
ومع احترامنا لجميع الموقعين على البيان نستسمحهم في القول بأن المحلى لم يقل كذلك، خاصة عندما نجد البدائل المقترحة التي تتلخص في: تقييم مستقل للبرامج، ومحاربة الرشوة، وتعليق مشاريع الطاقة البديلة، وترشيد نفقات الجيش، واعتماد المسؤولية بالمحاسبة.
فهل هذه المقترحات كفيلة بإنتاج ثروة لامادية؟”.
لنقرأ وصية المرحوم محمد الخمس لتلاميذ الثانوية الإدريسية بفاس أمام المقيم العام، حيث قال: “نرجو منكم التحصيل على العلم الجديد الذي جئتم تجنون ثماره في هذه المدارس، وأن لا تضيعوا شيئا من مزايا أمتكم، وأن لا تغفلوا لحظة عن هذه الحقيقة.
إن من ضيع دينه ولغته وتقاليده العالية ضيع كلّ شيء، تعلموا وجدوا ما أمكنكم، ولكن تمسكوا بدينكم الحنيف، وراعوا تقاليدكم القومية، لتحظوا بالسعادة الأبدية” (الخطب:1946)، فهل الذي سيتبع هذه الوصية سينتحر أو يرمي نفسه في قوارب الموت أو يسهم في تخريب البلد؟
لنقرأ ما قاله “يوسجونزاك” في محاضرة بمدينة (روان) سنة 1902: “لكي ينهار المغرب ينبغي أن نعمل فيه الفأس”، وبعده بربع قرن قال أدينو: “ان المغرب شبيه ببقرة يتولى القواد حلبها دون فتور، وقد كان في وسعها سابقا أن تدافع عن نفسها، أما اليوم وقد جاء الفرنسيون فأخذوا بقرنيها بكل عنف وقوة حتى لا تبدي حراكا، فقد أصبح القواد ينعمون بها من الخيرات وفق أغراضهم” (ص:93)، ومن القواد المنظرون والمعارضون والزعماء، وهلم جرا ممن وصل للضرع أو حام حوله.
فالمطلوب اليوم ليس الحديث عن المعيقات بل الحديث عن الكيفيات، الواجب كفها ليتاح للفرد المغربي والجماعة الإحساس بنفسها وتحرير قرونها لتدافع عن مصالحها العامة والخاصة، التي افتقدتها باسم المركزية والنظام والقانون، ذلك أن النهب اليوم صار بالقانون، والسرقة بالقانون، وكل شيء يجري وفق قانون، دون أن يكون في ذلك عدل أو إصلاح.
وعليه نقول للسادة أصحاب البلاغ بكل احترام: إن المطلوب ليس هو هذا الذي دبجتم، وإن الثروة اللامادية لا يمكن أن تتخوفوا منها لأنها مبتغى الجميع، لفوائدها غير المحدودة وسهولة تداولها، وانظروا لبعض الممارسات المالية الشعبية، مثل “دارت”؛ حيث ينظمها الناس دون حاجة لمحاسبين أو خبراء ماليين؛ ولا أخالكم تجهلون أن العادات والتقاليد لا تصنع بقرارات ولا تلغى بها، وأن الاعتراف بالسيادة لا تقتضي حرسا خاصا؛ والله يتولى الصالحين.