الأسرة حصن الأجيال القادمة.. نموذجان مشرقان للتربية الأسرية
إبراهيم بيدون
هوية بريس – الإثنين 27 أكتوبر 2014
الأسرة؛ الحصن الأخير من حصون الأمة التي لا زالت ثابتة عند الكثير من المجتمعات الإسلامية في وجه حملة التغريب والعلمنة التي خاضتها ضد أمتنا القوى الامبريالية منذ نهايات القرن التاسع عشر.
إذ يعمل الغرب وبكل الوسائل وعلى رأسها الهيئات الأممية والقوانين الدولية وضرورة الانخراط في النظام العالمي الجديد الذي فصلوا له قوانين ومبادئ وأفكارا حسب أهوائهم وما يخدم مصالحهم، والتي بالضرورة هي حرب ظاهرة على أمة الإسلام والمسلمين؛ يعمل هذا الغرب على نقل نموذجه المتفسخ والمستمر في الانسلاخ من الآدمية والنزول في درك البهيمية والحيوانية للأسرة؛ إذ بعد تفكيكه لأواصر القربى والعلاقات الأسرية الممتدة؛ عمل على تحطيم وخلخلة مفهوم الأسرة المترابطة، وهي النواة الصلبة للمجتمعات والعلاقات الإنسانية بين بني الجلدة واللسان الواحد..
فمن انتكاسة انسحاب الأبناء من حضن الأسرة بمجرد تجاوز سن القصور القانوني خصوصا عند الفتيات؛ إلى زواج الأصدقاء، إلى التعايش مع الشذوذ.. ما وَلـَّد المطالبة بزواج المثليين؛ وهو ما كسر المفهوم التقليدي للأسرة المكونة من زوج (ذكر) وزوجة (أنثى)، ثم لم تقف الانتكاسة عند هذا الحد؛ بل زين لهم الشيطان زواج الإنسان بالحيوان.. وكل هذا الشذوذ والخلل سيؤدي بلا شك إلى مزيد من الانحراف لتدمير البشرية جمعاء، لأنها تسير خلاف السنن الكونية بله السنن الإلهية.
وأمام هذا الجنوح المارد للغرب العلماني ومن تبعهم من بني جلدتنا في خلخلة مفهوم الأسرة وتدمير بنيات المجتمع المتماسك والمتخلق، وجب على المسلم أن يتمسك بقيمه ومفاهيمه وأحكام دينه، وقول ربّه سبحانه: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21].
فرغم اختلاف الجنسين (ذكر وأنثى) جعل الحق سبحانه الزوجة (الأنثى) من نفس الزوج (الذكر)، فهذه هي المثلية التي يجب تحققها، وهي التوافق الروحي والعاطفي..
كما تجب العناية الجيدة بدور وتكاليف مؤسسة الأسرة والتي على رأسها الاهتمام بمستقبل الابن وتهيئة الظروف الملائمة لتنشئته على تحقيق معالي الأمور والسلوك الحسن؛ وفي هذا الأمر نجد نماذج مشرقة كثيرة في تاريخ أمتنا الإسلامية، أسوق إليكم نموذجين من مغربنا الحبيب في القرن العشرين، الأول لعناية الوالد، والثاني من عناية الأم.
النموذج الأول: شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي
يقول الأستاذ عبد القادر الصحراوي:
«وعندما اشتد عوده (عام 1318)، وأصبح في حوالي الثامنة عشرة من عمره؛ قرر والده -الذي كانت أغلى أمنياته أن يرى ابنه عالما كبيرا-؛ أن يصحبه بنفسه إلى فاس، وأن يسهر بنفسه على توجيهه، وأن يأخذ بيده في هذه المرحلة الأولى من مراحل طلبه العلم، حتى يشق طريقه، وحتى يتمكن، وحتى يصبح مستقبله العلمي مضمونا لا خوف عليه.
وهكذا ترك والد الفقيد زوجته وأولاده بمدغرة، وهاجر صحبة ابنه محمد إلى فاس، حيث دخل الطالب جامعة القرويين، وسكن صحبة والده في حجرة بمدرسة الصفارين.
ومكث الوالد إلى جانب ابنه تسع سنوات، يرعاه وينظم له دروسه، ويراجعها معه، ويحثه على الطلب ويساعده عليه بجميع الوسائل الممكنة.
وفي يوم من الأيام، وكانت أقدام الطالب قد رسخت في العلم، وحبه قد تمكن من قلبه، دخل عليه والده الحجرة التي كانا يسكنانها معا بالمدرسة، ولكن الطالب الذي كان منهمكا في كتاب بين يديه، لم يشعر بدخول والده، وتعمد والده أن لا يزعجه عن كتابه، فالتزم الصمت، وظل ينتظر، ولكن انهماك الطالب في كتابه قد طال.
إذ ذاك اطمأن الوالد، وودع ابنه، ورجع إلى مدغرة ليقول لهم عبارته: «لقد غرست غرسا، ومكثت بجانبه زمنا أسقيه، والآن قد تمكن الغرس، وانتهت مهمتي، وها أنا ذا أعود» («شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي» (ص:14-15)).
وعلق على ذلك الشيخ حماد القباج في كتابه «حياة شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي؛ العالم المفكر والمصلح المناضل» (ص:41-42) بعدما ساق ما نقلناه عن الصحراوي بقوله: «إنه مثال جميل ونموذج مؤثر للأب الواعي، الذي بلغ من النضج العقلي ما يجعله يدرك أن الولد أرضية خصبة يمكن زرعها بما يجعل منه إنسانا صالحا متفوقا طموحا، وأن الولد رأسمال مهم؛ يمكن استثماره في تجارة تذر على الوطن والأمة والإنسانية أرباحا طائلة في سوق القيم الفاضلة ومكارم الأخلاق ومعالي الأمور» اهـ.
قلت: ولا أغفل هنا أن أشيد بالأهلية والكفاءة والمسؤولية التي كانت تتمتع بها والدة الشيخ بن العربي العلوي؛ التي تركها زوجها بمدغرة تسع سنوات تكفلت فيها برعاية إخوته الآخرين؛ وهي مثال لكثير من أمهاتنا الصالحات الصابرات.
النموذج الثاني: علامة سوس المختار السوسي
وهو يسوق التراجم في كتابه «المعسول»، وعند ترجمته لوالدته «رقية بنت محمد بن العربي الأدوزية» في الجزء الثالث (ص:39-40) بعدما ذكر أنها كانت أول معلمة من النساء في إلغ.. وأنه لا يجمل به تجاوزها لأنها امرأة، وأن ليس من عهده احتقار المرأة، بل لها الإكرام بالترجمة حتى هي.. قال المختار السوسي رحمه الله:
«أول ما أعلنه عن والدتي هذه: أنها هي التي سمعت منها بادئ ذي بدء تمجيد العلم وأهله، وإكبار تلك الوجهة، فكان كل مناها أن تراني يوما ما ممن تطلعوا من تلك الثنية، وممن يداعبون الأقلام، ويناغون الدفاتر، فبذلك كانت تناغيني، وذلك هو محور دعواتها حولي، أفأكفر لها هذه النعمة اليوم ومن يؤنسني إلا كلمات من العلوم أزاولها تمطقا أستحلي لوكها بذوقي..»
وكان والدها عالم جزولة في عصره يهم أن يدفع بها إلى الدراسة الواسعة في ميدان العلوم بعد أن أتقنت حفظ كتاب الله؛ لكن قدر الله خطبتها وزواجها، قال المختار: «بعد أن أتقنت حفظ كتاب الله.. وقد جاءت بلوحتها (لوحة حفظ القرآن) بين يديها يوم زفت من دارها إلى دار زوجها.
وفي سحر يوم عاشوراء نحو 1323هـ أيقظتني فناولتني كأسا مملوءة ماء، فقالت: إن هذا الماء ماء زمزم الذي هو لما شرب له، وهذا سحر يوم عظيم وهو مظنة الاستجابة، فاجرع منه وانو في قلبك أن يرزقك الله العلم الذي أتمناه لك دائما، فأفرغت الماء في حلقي بنيتها هي التي تدري ما تطلب وما تنوي إذ ذاك؛ ثم استلقيت ثانيا في مضجعي، وأنا حينذاك -ولا أكذب القارئ- لا نية لي ولا أقصد بشربي لما قدمته لي بسرعة إلا أن أرجع إلى الاستمتاع بنومتي لا غير» اهـ.
قلت: وأنعم بمثل هؤلاء النساء، وهؤلاء الأمهات..
امرأة تزف إلى زوجها بلوحها وقد ختمت حفظ كتاب الله عز وجل.
وأم تناغي ولدها وتلاعبه بتوصيته على أن ينهل من حياض العلم، وأن ينافس أقرانه في تحصيله..
وامرأة أمازيغية عاشت عناية أسرتها الكبرى والصغرى بالعلم الشرعي، فكانت ممن لهن نصيب، فرحمها الله ورحم والدها وزوجها وابنها..
وهي مثال للأم الواعية بأهمية التنشئة منذ الصغر على معالي الأمور، وتهيئة قادة الأمة الحقيقيين، إذ بعد أن اشتد عود ولدها في السن والعلم كان أحد علماء المغرب وممن قاد الحركة الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي، ولاقى في ذلك صنوفا من الإذاية لم تثنه عن الاستمرار في ما ربته عليه أمه؛ فبالعلم (والسلطان تبع له) يحرص حياض الأمة من خطر العدو، ويصان الدين والدنيا معا.