مقرئ القرآن بين واجب صيانة النفس وآفة تضييع الناس له
أبو عمران عبد الغني ادراعو
هوية بريس – السبت 15 نونبر 2014
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه
وبعد،
إقراء القرآن من المهام العظيمة التي لها تاريخ أصيل وعظيم وشريف، اختار الله لها ابتداء أفضل ملائكته جبريل عليه السلام ثم أفضل رسله محمدا صلى الله عليه وسلم، “وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ“.
ثم اختار لحمله أفضل الخلق بعد نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وهم صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم، “وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ“، ليدلك ذلك على عظم هذه المهمة الربانية.
الحديث عن فضلها معلوم في كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمقرئ القرآن خير مُشْتَغِل بخير مُشْتَغَلِ به “خيركم من تعلم القرآن وعلمه“.
وقد تعرضت هذه المهمة العظيمة الشريفة لانتحال المبطليين وتسلط الجاهلين و توافد الطفيليين.
ولست أظنه تخفى أخبار الطلبة (بتسكين اللام في اللهجة الدارجة) ومخازيهم وجشعهم وتقحمهم الرذائل وامتهان كلام الله تعالى في المجالس والتلاعب به وبأدائه وبمعانيه.
حتى لم تعد لهم قيمة ولا وقار ولا هيبة عند الناس.
وأخبارهم صارت حديث المجالس وفاكهته، وقد فضحها عنهم جماهير ممن كان معهم فمن الله عليه بالتوبة والإنابة إليه.
وقد عاشت كثير من البلدان على وقع هذه المخازي رَدَحا من الدهر، ولا تزال بقية باقية من ذلك هداهم الله تعالى.
لكن بمن الله وفضله تعالى ثم بجهود المخلصين من أهل القرآن والدين السوي والسنة المشرفة والفهم السليم انطلقت بوادر الإصلاح وسواعد البناء تصلح ما أفسده أولئك، بإحياء تدارس القرآن الكريم على هدي سلفنا رضوان الله عليهم. فبدأت علاقة الناس عموما ولله الحمد بالقرآن الكريم وأهله تتحسن وتنتقل من حسن إلى أحسن.
فيا قارئ القرآن الكريم، ها أنت في مصاف الوراثة تنهل منها بحظ -جعله الله وافرا-، فاجعل أخذك له على ما أمر سبحانه وتعالى: “يا يحيى خذ الكتاب بقوة” واعلم أن في حمله ثقلا ومؤنة، “إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا“، فاستعن على ثقله بـ”فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ“.
فانظروا رعاكم الله كيف قرن الأمر بالقراءة بالاجتهاد في العبادات: “صلاة وزكاة، وقرض حسن، وتقدمة للنفس ومدخر للقاء الله تعالى، واستغفار وذكر”.
يا قارئ القرآن ويا مقرئ القرآن. كن داعيا إلى الله تعالى ولتكن لك أسوة بصالحي الجن الذين قال الله تعالى عنهم: “وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ“.
حضروا مجلس الإقراء والتلقي والسماع، وتأدبوا بآداب الإنصات وصبروا أنفسهم حتى قضي، فانطلقوا دعاة إلى هذا الكتاب الكريم، فلا يكن صالحو الجن -يا عبد الله- أوفرَ منك حظا بكتاب الله تعالى.
يا مقرئ القرآن -حفظك الله ومتعنا بك- نريد أن نرجع بالناس إلى الإقراء السني: حلقات إقراء تشع نورا على نور؛
نور التلاوة
ونور الهدي والسمت الحسن
ونور العلم والفهم السليم.
ونور القصد الحسن وابتغاء وجه الله تعالى ونشر كتابه.
جاهد نفسك على أن تدل الناس على كتاب الله تعالى بهديك قبل قولك.
يا مقرئ القرآن، إذا أحببت أن تكون لك حلقة عامرة فكن أول عامريها، بالسبق إليها، والتفاني في خدمتها “والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه“.
يا مقرئ القرآن، حلقتك القرآنية صفقة ربانية وتجارة مولوية، البائع أنت فجود سلعتك وأتقن عرضها. والمشتري الله سبحانه وتعالى جل عن أن يغفل عن معايب السلعة ظاهرها وباطنها. والثمن الفوز بأهلية الله تعالى والقرب منه سبحانه.
فتذكر يا مقرئ القرآن أنك تعرض سلعتك على من لا تخفى عليه خافية.
وإن من تجويد السلعة البعدَ بها عن مقاصد الدنيا الفانية، وتخليصَها مما يشوبها من النوايا الفاسدة “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا“.
متى أفلح تاجر يطمع في الربح، ولم يعتن برأس المال ؟ فرأس مالك يا قارئ القرآن نيتك في القراءة والإقراء.
فيا مقرئ القرآن صن نفسك ولا تمتهنها؛
لا تخالط عوام الناس ودهماءهم إلا كما يخالط الطبيب مرضاه، يحسن إليهم ويدلهم على أبواب الشفاء ويعينهم عليه ويتقي عللهم.
ويا مقرئ القرآن لا تتقرب إلى أهل الغنى، فإن الغني هو الله تعالى فمتى ما زهدت فيهم رغبهم الله فيك، ولم تحتج إليهم وهم يسارعون فيك.
يا مقرئ القرآن استغن بما عندك من أحسن الكلام يغنك الله تعالى ويكرمك، فما كان الله تعالى ليحوج أهله وخاصته.
فلا ينظر إليك طارقا أبواب غيره متعلقا بفُتَاتِ كرمهم وهو الكريم تعالى ومن كرمه كرم كتابه “وإنه لقرآن كريم“، قال البغوي: “قال بعض أهل المعاني: الكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير”.
ويا أيها الناس:
أجلوا مقرئي القرآن واعرفوا لهم فضلهم، فإنهم قاموا عنكم بأعظم واجب، وأخلصوا أنفسهم لهذا الكتاب الكريم.
غيبهم تدريس القرآن وعلومه والاشتغال ببثه في النشأ والسهر عليه عن أن يحضروا تجاراتكم، وينافسوكم فيها أو يتسابقوا على الوظائف والرتب العوالي، ولم يقعدهم عجز أو خور أو ضعف أو كسل.
لكنه هم كتاب الله تعالى ونشره وتعليمه قد أضحى هِجِّيرَهم في كل حين.
فكونوا يا عباد الله عونا لهم على ما كفوكم مؤنته، وقاموا به عنكم، ووضعوا عنكم إثمه.
فكونوا لهم رجالا كما كانوا لكم رجالا.
اجعلوهم أولى الناس بالعطايا والهبات تحببا إليهم وشعورا بأداء بعض الواجب نحوهم لا تفضلا ولا تكرما.
يا عباد الله اعلموا أن مقرئ القرآن أولى الناس بالعناية ملبسا ومأكلا ومشربا ومسكنا ومركبا..
لا تقولوا: من أين له كذا وكذا وهو ليس يقرئ إلا القرآن؟؟
فهل تنقمون منه إلا أن أغناه الله من فضله.
فكن ممن يغني الله به وعلى يديه أهله.
ولا تكن ممن يضع من شأنهم ويزري بهم. أكرموا أهل الله وخاصته يكرمكم الله تعالى وهو الذي بيده خزائن كل شيء.
واعلموا أنه ما أكرم أهل زمان أهل الله وخاصته إلا حلت عليهم البركات وتتابعت عليهم الخيرات لا يدرون لا كيف؟ ولا من أين؟ ولا متى؟ (يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).