عن قبيلة المثقفين
محمد صلاح بوشتلة
هوية بريس – الثلاثاء 25 نونبر 2014
تجد أغلبهم يجلسون في مقاهي الطراز الأول البالغة الشياكة والتنميق بأشكال ولوحات مغرقة في سورياليتها، يفصلهم عن الشارع العام حائط من زجاج أو شجيرات قصيرة، يديرون بينهم كؤوس قهوة مختلفة المذاق والثمن، يرتشفونها على استحياء كما أي فتاة قروية أمام واجهة محل لبيع الملابس النسائية، وهم ينصتون لهذا وهو يتحدث عن ذكرياته الطلابية حين كان يدرس في فرنسا عند جوليا كريستيفا؛
ولهذا وهو يتحدث عن الملل الذي كان يشعر به مع تخطيطات غريماس السيميائية البعيدة المتناول، وغير المفهومة في سبورة أحد مدرجات جامعة السوربون، ولهذا وهو يتحدث عن المتعة التي كان يحضى بها مع دروس ميشيل فوكو عن تاريخ العيادة وتاريخ الجنون وحضوره درسه الأخير عن الفلاسفة الكلبيين في الكوليج دو فرونس، ويصغون لهذا وهو يتكلم عن لذة التحليل الفلسفي العميق مع جيل دولوز وهيبوليت، لينهوا جلساتهم السامرة في الأخير بالنميمة سليطة اللسان في ظهر هذا الشعب الذي كُتِبَ عليه الجهل وعليه كُتِبَ أيضا أن يضم فقره العقلي وخبل حياته إلى صدره، كما تضم أي أم رؤوم صبيها المفضل إليها، فهذا بحسبهم قدره الذي اختاره لنفسه بمعية الشيطان الرجيم، فَيُحَمِّلُونَهُ مسؤولية التخلف والفقر والموت والجريمة والمرض الذي يستشري ويلتحم بحياة عباد الله الصالحين والطالحين على حد سواء في هذه الأوطان، كما تلتحم الصفرة الفاقعة بالأعشاب الذابلة أيام الجفافات الطويلة.
إنا نتحدث هنا عن قبيلة المثقفين الذين ينصبون خيماتهم كل حين، ليكرموا بعضهم البعض، وليكتبوا ما لذ وطاب من لذيذ القول عن بعضهم في حق مجهوداتهم الفكرية! الواثبة في الهواء، وكتاباتهم التي ترشق أفكار بَعْضَ بَعْضِهِم بالوحل والنعال، لأنهم لم يبادلوهم المدح بالمديح، ومقالات التمجيد بمقالات الغرام الفكري والذوبان، إنها قبيلة المثقفين، المثقفين اللذين صاروا أحزابا وانقسموا شيعا في أوطان جائعة ليجتمعوا على موائد المكسرات والمهرمشات والمحمر والمبخر، في لقاءات يقال عنها أكاديمية، وليوزعوا بينهم عناوين الخونة منهم واللصوص ممن لم يتداركوا موائدهم وجلساتهم بالتطبيل وقوافي المدح من الرجز أو البحر الطويل، قبيلة المثقفين التي صمتت فجأة عن دم كليب وعن دموع الخنساء، وانسحبت في ليل بهيم من معركة النضال والدفاع عن جرحى الوطن ومعطوبي سياساته، وانصرفت إلى معسكر الساسة والسياسة حيث التبغ الجيد والمأكل الجيد والشراب الجيد، ففضلت أن تموت وهي تغرد كحمامة ملكية على جبل بعيد، وتسلم الروح لمولاها في تتثاؤب خنثوي على أن تموت ببدلاتها الانيقة وهي ملطخة بالدم في دفاعها الأسطوري الذي لن يفيدها شيئا عن مواطن لا يعرف كيف يكتب اسمه، فما بالك أن يكون قرأ يوما قصيدة للرائع درويش، أو قرأ قصة من قصص العميق جدا ابراهيم الكوني، أو امتلك يوما الاحساس المرهف لينصت لصوت الملاك فيروز.
وبعيدا عن هذا التدبيج الخطابي والبلاغي عن حال المثقف العربي في بلادنا العربية، نعود ونقول أن السؤال المصيري ما يزال يطرح نفسه كخنجر في ظلام مصوب نحو قلب الوطن وثقافته، عن شخصية المثقف المزدوجة في عالمنا العربي وسط هذا الحراك الذي لا دور له فيه، ولا يد كريمة له عليه، بل كان يسبح عكس التيار مشغولا عما يجري بإصلاح عربة الطاغية، بشكل يذكرنا بنصيحة المفكر الفيلسوف الاجتماعي والمناضل المارتينيكي الجزائري فرامس فانون (1925/1961) الذي دون كتابه الأشهر “معذبو الأرض” على فراش المرض وهو يقاوم سرطان الدم ‘اللوكيميا” رغم نصيحة الأطباء له لملازمة الراحة والخلود إليها، بنصيحة لشعوب ما بعد الاستعمار في تعاملها مع نخبتها، إذ يقول فانون عن مثقفي المستعمرات وكهنة المعرفة الذين يديرون دواليب الفكر في العالم الثالث ويديرون سياساته، ملخصا لنا مسارهم ومآلهم: “لقد عكفت النخب الأوربية على تصنيع نخب بلدية، لقد انتقوا بضعة فتيان واعين هذبوهم وطرقوهم كما نفعل نحن بقطعة الحديد الحامية، ثم أشبعوهم بمبادئ الثقافة الأوربية، وبعد إقامة قصيدة في كنف الأم الأوربية أعيدوا إلى بلدانهم وقد تم تبييضهم. هؤلاء الأشبه بالأكاذيب السائرة على قدمين لم يعد ما يقولونه لأخواتهم، اذ لم يعد في وسعهم غير ترديد الصدى”.
نعم ليس للمثقف العربي اليوم ما يقدمه غير الصدى، فقد مل تاريخه القديم كحطاب وانسحب نهائيا من حياتنا، تاركا المجال فسيحا لدواعش هذا الزمن لتشيع الفوضى بعنفهم المسلح وبقلوبهم التي تتهادى بصور الموت وعيونهم التي تفيض بأسامي الجحيم، مستغلين غياب المثقف وعنفه المسالم الذي يخلق عبره وبه معنى للحياة، وينير به طريق الناس إلى هذه الحياة، فهو الآن بدل أن يخلخل الواقع، ها هو يخلخل عوضا عنه نصوص الذين ماتوا من الأدباء، فيفككها ويحللها سيميائا وبنيويا، ويضع لها مقدمات تبجيلية لها ولمجهوداته ويرسلها رأسا لناشره، رافضا أن يكون لما يكتب أي تجسد سياسي أو إيديولوجي قد يكون سببا لملاحقة مرتبه، أو قد يكون سببا في التضييق على رزقه، وعلى ترقياته، مكتفيا عن الحديث عن سياسة حياة الناس بالحديث عن ميتافيزيقا اليمين واليسار في دروسه الأكاديمية جدا وسكر زيادة، ومنكفئا عن الحديث الخير والشر السياسيين بالحديث عن ميثولوجيا الخير والشر الأفلوطينيين في نصوص قديمة جدا، يقتل قصدا معالم الحياة فيها، دون أن يتجاوز بها جدران الجامعة، فيفقدها شيئا فشيئا علاقتها بفيزيقا سياسة وصنع الواقع.
الخطوة الحرجة التي أقدم عليها المثقف العربي هي تخليه الكلي عن دوره في التواصل مع أطراف الواقع، فلا سياسة تهمه ولا مصير الوطن يشغل باله، فكما تخلى رامبو عن كتابة الشعر، وكم تخلى شكسبير عن الكتابة بصنوفها، وشارل كينت عن الحكم، وجواكينو روسيني عن التأليف بين نوتاته الموسيقية، تخلى المثقف العربي عن سائر أدواره استجابة لرغباته النفسية الملحة في التوجه نحو القمم والانتشاء بنمط حياتها، والسعي نحو استنشاق هواء الأبراج العالية، الذي لم يلوثه زفير المصابين بالسل من العمال والطبقات الجائعة المريضة، حتى لم يعد يربطه بالواقع غير قائمة التسوق التي تضطره ليحمل نفسه مرة مرة الى السوبرماركت ليتبضع أغراض الشهر، ليعود للمنزل مقفلا عليه بابه لينزوي في زاوية منه، إلى أن تضع أمامه زوجته التي اختارها بعناية كبيرة من بين طالباته الفاتنات، قائمة جديدة ليسد عليه بشكل نهائي باب التفكير الذي لا يأتي الا من خلال الردهات الموصلة لتفاصيل حياة العامة من الناس والتي تكون حياتها مصدرا للمشاكل والإشكالات الفكرية ومعينا لا ينضب للإبداع، بل ولعناصر الإجابة ومسودات خطيرة لمشاريع التفكير والكتابة.
إن الأنتلجنسيا العربية التي يجب أن تعرف مشاكل الشعب، الفئة الصامتة التي لا لغة لها، وتحسن عرضها بوصفها ضمير الأمة الحي الذي يعرف كيف يوصل الجملة بالجملة بأدوات العطف والرحمة، وتعرف كيف تسلح الشعوب بالأفكار وبالحلول التي هي وحدها من تقترح خططها، أمست عبارة عن جحافل من الموظفين المرتشين عن طريق مناصب ومرتبات دسمة وضخمة، أو عن طريق كراسي ورقية كما يقول عبد المعطي حجازي فأغلبهم أناس تستحوذ عليهم اللغة المصطلحية التي تدعي العمق في هرمسية ـ غنوصية توحي بالاعتقاد بأنها الفئة الوحيدة التي تفهم العالم وهي الوحيدة التي تمتلك حق تفسيره للناس، لكنها بحكمة منها تدسه في مكان خبيء لا يطلع عليه أحد في إعادة وتكرار لمبادئ الحركات الإسماعيلية التي تعتقد أن الذي يمتلك السر هو وحده من يمتلك موقعا استثنائيا بين الجميع لهذا يحاولون بقدر مستطاعهم التعالي على الانسان العادي بكل الوسائل باعتبارهم أكاديميين فوق العادة، فيختبئون وراء نظارات سوداء، ومعاطف روسية بربطات عنق أو دونها فالأمر لا يهم، لكن سرعان ما تظهر حقيقة المثقفين حينما يجتمعون على موائد ما لذ وطاب أو حينما يجتمعون على حفلات أطروحتها الأهم بنات الهوى، فإذا بالشعراء عرابيد لا يغادرون الفنادق الفاخرة والمنظرون وسطاء يجمعون المادحين لأسيادهم من مافيات القريض الرسمي كما يصفهم التونسي ابو يعرب المرزوقي.
لقد صار حال المثقف في البلاد العربية سخيفا ومضحكا، إنه أشبه بمهرج شارد العقل، يحسب واقعه بأنه مجرد كواليس وبروفا لا تستحق عملا يليق بها، أو أشبه حالا بمهرج مات في منتصف عرض مسرحي، فلا يعلم جمهوره أيضحكون أم يبكون عليه، فيفضلون وسط كل هذا البحث في واقعهم عن مهرجين آخرين أكثر سخرية من واقعهم. فبعد أن كان الحاكم يتحسس مسدسه حين يسمع كلمة مثقف أمسى يتحسس جيبه، فقد صار اسم المثقف مرادفا للعطايا الدسمة التي تجعله عبدا مخصيا واقفا على باب السلطة، يمتدح أسوار قصورها ومواكب رؤساء وزرائها، معيدا سيرة مثقفي أمسنا من شعراء بني العباس وبني أمية ومن تلاهم من ذوي السلطان الأكبر. فيكتب على هامش هزائم ونكسات السياسي ونكباته مقالات تمجيد، كتبها بكل ما في قلبه من حب وإخلاص وولاء لا يهتز ولا يتزعزع. لم لا ولحم كتفه كما مخ عظمه من نعيم السلطة عليه وعطاياها له. فيفقد بذلك ثقة العامة والدهماء من الناس لأجل أن يكسب ثقة السلطان فيه ورضاها عنه وعليه، كيف لا؟ وهو الذي يدعي التحرير والتنوير فيدعو جماهير قرائه إلى التحرر من سلطة رأس المال ومطامع جمع الأموال في حين يبيع هو شرف كلماته في عهر لا مثيل له لأجل جمع المال.
غرامشي المفكر الماركسي الذي نَظَّر فعليا لدور المثقف باعتباره عضوا في جسد المجتمع، مات مع كامل الأسف قبل أن يعرف حالة المثقف العربي فهي وإن كانت معاكسة تماما لحالة المثقف الأوربي، فإنه مع ذلك لا يجيد إلا خيانة طبقته الأصل، فمثقف غرامشي وإن كان ينطلق وينبثق من الطبقة المسيطرة أي طبقة البرجوازيين المتكرشين إلا أن صوت الضمير والشفقة من دواخله يضطره ليضع نفسه في خدمة الطبقة الشعبية، فيلتزم بالدفاع عن الجانب البروليتاري من مجتمعه، فإن المثقف العربي وان كان ينتمي في غالبيته العظمى إلى الطبقات المستفحلة الفقر والمسحوقة فإنه سرعان ما يخون طبقته الأصل، فرغم عدم امتلاكه لسلطة ما ضمن جهزوت السلطات السياسية، فانه لا يقدر أن يجعل قلمه ولسانه يتمتع بقدر أكبر من المصداقية، لأسباب أولها استطابته حياة وهوس المكروفونات والكاميرات، وأخرها عمليات التدجين التي تعرض لها في المدينة فجعلته قطا أرستقراطيا يتحرك بثبات في أركان بيت السلطة ربة نعمته، فيلتصق برجل رب البيت ويتمسح به، لينعم عليه بعطاياه ويتذكره بعلبة سردين مصبر كلما ذهب ليتبضع ويتسوق، بعد أن كان مثقفا قطا بريا حينما حل أول مرة من قريته البعيدة، وحينا لم يتعلم بعد درس المزايدات في أسواق راساميل الصمت وإبداء الرأي المؤيد، إلى جانب انغماسهم في شروط عملهم.
لقد تمادى الخرس بلسان المثقف العربي، إلى حد أمسى مثقف عربستان لا يجد أي حرج في أن يترك المجال للسياسي ليعبث في الأرض تسليحا وتجيشا للعداوات، وتجذيرا لمشاعر الخوف والرهاب من الجار القريب ومن الحبيب البعيد، ليقرر المثقف كما عامة الناس أن يراقب من بعيد كيف يصنع الشر وكيف تدار توزع آلامه على آمال الجميع وبعدل ومساواة، فيصدق عليه قول ألبير اينشتاين “إن العيش في هذا العالم ينطوي على خطورة كبرى، ليس بسبب هؤلاء الأشخاص الذين يمارسون الشر، ولكن بسبب الذين يقفون جانيا ويتركونهم يفعلون ذلك ” ناسيا -أي المثقف العربي- أن دوره هو في أن يمضي جيئة وذهابا ليغير حال بلده ويحرسه أكثر مما يبدل ويغير حذاءه.