همسة في أذن الضاربين على وتر العزوف السياسي
د. محمد بولوز
هوية بريس – الثلاثاء 17 فبراير 2015
لا يجب الوقوف عند التوصيف والتشخيص للوضع السياسي ببلادنا، والذي قد لا نختلف فيه كثيرا مع ضرورة ذكر الحسنات والإيجابيات من باب الإنصاف واستحضار ميزان الله الذي يرجح بين السيئات والحسنات، ولا بد ونحن ننتقد التجربة الحكومية من طرح البديل والحل الواقعي الممكن والمناسب لظروف المغرب وتاريخ المغرب ونظام المغرب؛
فكلنا يأمل في قانون منصف وأنظمة ومساطر تفرز في الانتخابات إرادة الشعب الحقيقية وأغلبية مريحة تمكن من تطبيق برنامج الحزب الفائز، ولكن في انتظار ذلك، لا ننسى أننا اخترنا طريقا ثالثا استحسنه كثير من الناس بعد أن شكك البعض في جدواه في معمعة “الثورات” الديموقراطية، اخترنا الإصلاح في ظل الاستقرار، وليس الثورة وقلب الطاولة على من فيها، وليس كذلك الاستسلام والانبطاح والرضى بالواقع والموجود، بما يعني أننا اخترنا التدرج والتوافق وترتيب الأولويات والملفات وعدم الدخول في الحرب الشاملة مع الفساد والاستبداد.
ولا شك أن جميعنا أو أكثرنا يستحسن الطريقة التي سلكها حزب العدالة والتنمية التركي وكيف تعاقب في ثلاث ولايات وفتح في ولايته الثانية والأخيرة ما لم يجرؤ على مسه أو حتى الحديث فيه وعنه في الولاية الأولى مع فارق واضح بين قوانين ونظام تركيا عن المغرب، الأمر الذي يفرض عندنا سرعة أقل في الإصلاح وتدرج أكبر وتريث معتبر، فعندما نؤمن بمبادئ معينة من المفروض أن نستمر في الإيمان بها حتى النهاية ولا ننساها في منتصف الطريق ولا في ثلثه أو ربعه وعشره.
ثم ما هو البديل عندما نشيع لغة اليأس ونشجع الانسحاب من الفعل السياسي ونقاطع المشاركة ونثبط العزائم في التسجيل للانتخابات ونشكك فيمن غلب عليهم الصلاح ومن لا نستطيع أن ننكر تميزهم واختلافهم عن النخبة التي حكمت المغرب من فجر الاستقلال من جهة نظافة اليد والتواضع والتواصل وغير ذلك من الخصال، يضاف إليها جملة من الإنجازات لا تخطئها عين المنصفين وإن جحدها المغرضون، ومن أمثلة ذلك: تقليص نفقات المقاصة من 56 مليار درهم الى 23 مليار درهم والتوجه نحو الدعم والعدالة الاجتماعية.
والتعيين في المناصب العليا حسب الاستحقاق والمنافسة وليس الحزبية والموالاة. ويكفي لحد الآن أن يكون من ضمن أكثر من 400 منصب سوى 12 من حزب العدالة والتنمية، وتم إلغاء العديد من الإعفاءات الضريبية التي وضعتها الحكومات السابقة لفائدة لوبيات معينة، وتوقيف منح كريمات الطاكسيات والحافلات والمقالع في عهد الحكومة الحالية. ومعاقبة العديد من المطاحن التي تغش في جودة الدقيق المدعم وسحب الرخص منها، واعفاء العديد من المسؤولين الكبار بالوزارات والمندوبيات والسجون الذين تحوم حولهم شبهة الفساد.
التشطيب على المئات من الأشباح من الوظيفة العمومية، وإحالة العديد من الملفات التي أوردها المجلس الأعلى للحسابات على القضاء، ومضاعفة الاعتمادات المخصصة للبحث العلمي عشرين مرة، تخفيض ثمن 1590 من الأدوية، وتوسيع برنامج التغطية الصحية “راميد” وتوسيع منخرطي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتوسيع التغطية الصحية لتشمل الوالدين، ودعم الحكومة للطلبة بالزيادة في المنح وتوسيع دائرة المستفيدين، والارامل، والمطلقات، والمتقاعدين، والزيادة في الحد الأدنى للأجور، فتح الأبناك التشاركية (الإسلامية) أمام المغاربة، وإخضاع الصناديق السوداء لمراقبة البرلمان، وإقرار الشفافية في الاستفادة من الامتيازات العمومية والصفقات ، ودعم الفلاحين في استصلاح الأراضي وتجهيز ضيعاتهم وتشجيع الغرس، واعتماد التنمية الصناعية كقاطرة للإقلاع الاقتصادي، واعتماد التوظيف بالمباراة بشكل شامل في الوظيفة العمومية، وتفعيل صندوق التعويض عن فقدان الشغل، وتشجيع الاستثمار الداخلي والخارجي المشغل لليد العاملة، وفتح التكوين مع منحة 10 ألف درهم في السنة في المراكز الجهوية لفائدة المجازين العاطلين. وربط الأجرة بالعمل، لضمان استمرارية المرافق العمومية، العزم على اصلاح صناديق التقاعد لتجنيب المغرب كارثة مستقبلية، وغير ذلك كثير.
فأي هذه الإصلاحات يمكن التنكر لها وجحدها؟ كل ذلك في وقت معقول رغم التشويش المستمر والعرقلة التي لا تكاد تتوقف والتهديد بنسف التحالف الحكومي وغير ذلك من المثبطات ولهذا يطرح السؤال على الداعين إلى العزوف السياسي وتكريس الحال الموجود أصلا ونحن نستحضر أن بعضهم من المخلصين والطيبين: ماذا لو استجاب الكثير من الناس للدعوة إلى العزوف وأعرضوا عن كل أشكال المشاركة السياسية، هل نكون فعلا قد ساهمنا في الحل؟
أم ترانا يسرنا السبل أمام الوصوليين والمفسدين الذين ضاقوا ذرعا بهذه المقدمات الممهدات من جرعات الإصلاح والذين لن يعدموا في كل وقت من يبيع ذمته ويزور شهادته مقابل دراهم معدودات ومنافع تشبع إلى حين مصالحه الشخصية الغارقة في الأنانية المقيتة والمستعد للتضحية بمستقبل البلاد والعباد، ونكون قد خذلنا من يبحث جاهدا عن بصيص الأمل في الإصلاح والتغيير، ثم ماذا عن حكاية التلويح بالتذمر من كثرة الأحزاب، هل الحل هو إغلاق بعضها، أم عدم الترخيص للبعض الآخر، أو إخراج أقطاب بشكل اصطناعي؟
فهذه أمريكا يذكر أن بها ما يفوق مائة حزب ولكن المشهور والمعروف والمؤثر منها حزبان أو ثلاثة، فالتعددية موجودة ولم تكن عائقا أمام ظهور الأحزاب الكبيرة، بالمعنى أن الحل في المغرب هو مزيد من الحرية السياسية في تأطير المواطنين، ثم تقوية المواطنين للجهة التي يرجح عندهم خيرها ويؤمن شرها، وليس الضرب على وتر العزوف المتجذر أصلا في التربة السياسية المغربية لتراكم الإخفاقات في هذا المجال، فالنظر في المآل يفرض حماسا أكبر للمشاركة في التسجيل والترشيح والترشح والانتخاب لزحزحة صخرة الفساد والاستبداد عن صدر المغرب والمغاربة حتى نخرج من غار وظلمة التخلف إلى أرض الله الواسعة في الشورى والديموقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية والغد المشرق لأبنائنا وأحفادنا.