من حمى ومن مول الانقلاب العسكري في مصر؟
د. محمد وراضي
هوية بريس – الثلاثاء 21 أبريل 2015
اقرؤوا إن شئتم تاريخ العرب الحديث، منذ تسلط الاستعمار الغربي على شعوبهم حتى الآن. وتساءلوا -وأذهانكم خالية من أي تعصب- عما إذا كان هناك انقلاب على السلطة بقيادة زعيم، متشبع بالإسلام كدين، وكنظام شامل جدير بتدبير شؤون دول، مهما يكن موقعها الجغرافي، ومهما يكن عدد سكانها، ومهما يكن العصر الذي نعيش فيه؟
تأتيكم الإجابة صريحة بأن كل قادة الانقلابات عسكريون علمانيون! لا يهمهم أمر الدين في شيء! بقدر ما يهمهم استغلاله سياسيا من خلال رجال، إما أنهم باعوا آخرتهم بدنيا الأقوياء والأثرياء! وإما أنهم خائفون مذعورون، طماعون مرتزقة وصوليون! وهم في الحالتين كلتيهما مع الحكام العلمانيين الذين لا يحسنون حتى فقه العبادات! وكيف بفقه المعاملات التي يتوجها تولي أمور الدول أو شؤونها من منطلق كون متوليها، لا ينظر إليه كأكمل خلق الله بأي وجه كان! بل إنما ينظر إليه في النظام الإسلامي الشمولي كواحد من المواطنين الذي له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات؟
ومنعا من التصريح إسلاميا بحقوق الحاكم وواجباته، بعيدا عن التملق واستدرار العطف وسفر العيون والقلوب وراء الأعطيات أو الهبات! كمم الانقلابيون والحكام العلمانيون في الجملة أفواه العلماء بوسائل متعددة، أبرزها -وكأنهم على الدين يغارون- تنظيمهم في جماعات أو في جمعيات، بإنجاز المخططات التي يرسمونها لهم يشتغلون! في حين أن تعاميهم أو تعامشهم -كعلماء- عن الحق المبين، يدركه اليوم القاصي والداني من العامة والخاصة، إلى حد تتولى عنده الأغلبية الساحقة من المواطنين، الانتقال من قناة -حيث المرشدون يتجولون باعتزاز في الحدود المرسومة- إلى قناة غيرها بحثا عن المفيد، وإن لم تكن له بالدين أية صلة تذكر؟
إننا لن نثير إشكالية الشواهد التي يحملها الانقلابيون وغيرهم من الحكام العلمانيين! فتاريخ الإسلام عرف حكاما حظهم من العلم بالدين هزيل! لكنهم -لغاية تغطية ضعفهم في المعرفة به- كانوا يتخذون من العلماء مستشاريهم المباشرين، ومستفتيهم المؤهلين لإزالة أي لبس عن نوازل طارئة، أو عن قضايا غامضة مبهمة. وكان جل هؤلاء المستشارين، ممن لا يخافون في الله لومة لائم! لكن الانقلابيين العسكريين والحكام العلمانيين المستبدين، جعلوا من العلماء مجرد خدام! شغلهم الوحيد، تأكيد مشروعية أسيادهم في السلطة من جهة! وأنهم وحدهم على حق في كل ما يقولون وفي كل ما يفعلون من جهة ثانية! إنها تصريحات لمفتي الديار المصرية، وبالتالي للجالس على كرسي الرئاسة العلمية في الأزهر الشريف! بل وتصريحات أكابر رجال الدين القبطيين في مصر الشقيقة!
فكيف إذن -وهذا حال حكامنا العلمانيين- نتوقع وضع المساواة التي يتغنون بأنهم حريصون على احترامها وسيادتها موضع تنفيذ؟ والمساواة، كما قلنا ونؤكد مبدأ إسلامي قبل بزوغ مسمى عصر النهضة، أو عصر الأنوار في الغرب الأوربي! بحيث يكون من بين مظاهرها حرية السماح بقيام أحزاب سياسية من العدم. لا صناعتها بمال الشعوب المختلسة من طرف الحكام وجلاوزة الحكام! فإذا سمح لهذه المجموعة بتأسيس حزب سياسي، فلم لا يسمح لمجموعة غيرها بتأسيسه؟ والسماح وغير السماح، من يحددهما كحالتين قانونيتين؟ هل للشعب دور في التحليل والتحريم، من منظور ديني، أو من منظور قانوني؟ أم إن الأمر يتعلق بأوامر الحكام التي لا بد أن تنفذ برغم أنف الشعوب والمعارضين منهم على الخصوص؟
إنهم يدعون -نقصد حماة الانقلاب ومموليه من الشرقيين والغربيين- أن السماح للإسلاميين بالوصول إلى السلطة، معناه ضرب العصرنة والحداثة في الصميم! ولو أن هؤلاء وأولئك في النظر إليهما مختلفان. والحال أن للعصرنة والحداثة من المثالب أو من المعايب، ما يحولهما حين التعمق فيهما -وهما يمارسان- إلى مجرد أغطية ايديولوجية لتبرير التسلط المقيت على اختيارات الشعوب والأمم! فمنع قيام أحزاب على أساس ديني دكتاتورية تنسجم مع تاريخ الغرب الذي غرق في مهاوي من الجهل والتخلف كنتيجة للكهنوت الظلامي اللاعقلاني المفروض على الإنسان الأوربي لعدة قرون.
بينما حماة الانقلاب وممولوه من قادة العرب، لم يواجهوا نفس الكهنوت الذي واجهه الغرب، وإنما استمرأوا مواجهة الغرب له من أربعة أبواب: من باب يبيح لهم الاستيلاء على السلطة بالقوة من جهة؟ ومن باب يبيح لهم الاستمرار في الإمساك بتلابيبها كموروث لا يشاركهم فيه أي كان من جهة ثانية؟ ومن باب يبيح لهم التصرف بحرية مطلقة في مقدرات الشعوب كما يحلو لهم من جهة ثالثة؟ ومن باب يبيح لهم تعبيد كافة السبل المحتملة للميوعة وللتسيب الأخلاقيين من جهة رابعة؟ فضلا عن كون حماة الانقلاب ومموليه من الغربيين، ما انفكت أنظارهم واقفة على قناة السويس. والبحر الأحمر بكافة ضفتيه. وخليج العقبة. وبحر عمان. والخليج ودوله وخيراته. ومضيق هرمز كمدخل للواردات، وكمخرج للصادرات؟
فصح أن يكون الخوف من الإسلام عندما يتحرر من القيود العلمانية! وعندما يجري تطبيقه كنظام لإدارة شؤون الدول، خوفا مشتركا يفزع من ظهوره على العلمانية حكام الشرق والغرب كليهما! والمفزوع منه عند الفزعان، لا يكف عن محاولات إزالته عن طريقه! والإسلام الذي كثرت الكتابات التنظيرية عن كيفية تطبيقه في واقع القرن الحالي، لا بد أن يمثل فزاعة لدى الدكتاتوريين العرب! وكيف لا يمثلها والغرب على بينة من تاريخ المسلمين على مدى قرون؟ ثم إنه على بينة من الإسلام، وهو في صورته الشيعية، أدرك كيفية المضي قدما في اجتياز مراحل من عالم الاقتصاد والمال والسياسة والتقدم العلمي والصناعي.
فكان أن فطن الغرب إلى ضرورة تعميق الهوة بين حماة العلمانية من قادة العرب والمسلمين، وبين الدعاة للعودة إلى الأصول والمنابع. لا إلى رجم الزانية والزاني، وقطع يد السارق، وقتل النفس بالنفس. نقصد إلى الحدود والقصاص الشرعيين. وكأن الحدود والقصاص هي الإسلام كله كما يلوح بهذا التضليل جهابذة الظلام العلماني من أحزاب ومن قادة وحكام!!! بينما الإسلام العملي في واقعه النظري والتاريخي، منظومة سياسية متكاملة، تعتمد قبل كل شيء على حرية اختيار الحاكم. وعلى التزام الحاكم بتطبيق تعاليمه واحترام مبادئه. كما تعتمد على الشورى حتى لا يجد الحكام أنفسهم متحررين من كافة القيود، والمساءلة الصريحة التي يجب أن تصدر عن أي مواطن -من باب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-.
والإسلام كمنظومة عقدية تعبدية سياسية، هي ما يجب أن يدرس في المدارس والمعاهد والكليات. وهي ما يجب أن يصبح موضوع الأحاديث التلفزية التي أريد علمانيا لها أن تدور حول نواقض الوضوء، وواجبات الغسل، وأركان الحج، ومبطلات الصيام، وأخلاقيات يقع الاختيار على محور من محاورها في هذه القناة التلفزية أو تلك! فضلا عن امتداح مقبورين أصبحت عظامهم مع التقادم نخرة أو مجرد رميم! كل هذا للإيهام بأن الحكام العلمانيين، لم يبتعدوا عن الدين قيد أنملة! بينما هم يكرهونه، ويكرهون أهله ما لم يخضعوا للتدجين والتبعية! وكأنهم بحرف من حروف الجر مجرورون! مما يعني أنهم لم يرتفعوا -ولا يراد لهم أن يرتفعوا- إلى مستوى الفاعلين! وإنما أحيلوا قسرا لسنوات طوال على المعاش ليظلوا مفعولين متقنين في صناعة الكذب والتزوير والإطراء وقلب الحقائق رأسا على عقب!!!
فبعد مبايعة محمد مرسي كرئيس منتخب من طرف الشعب المصري، وبعد فشل المترشحين العلمانيين معه لمنصب رئاسة الدولة، بدأت تلوح في الأفق تلكؤات أشبه ما تكون بمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى! فمن تباطؤ في اختيار نوع العلاقة المزمع ربطها بالجمهورية الجديدة، التي لم تقم على أساس انقلابي، إلى الانهماك العلماني في مختلف العواصم للتخلص من رئاسة الإخوان للدولة، بعد انتخابات نزيهة لم تسفر عن فوز المترشح لها بنسبة 99 بالمائة! يعني أن التزوير قد اختفى باعتراف اللجنة المشرفة على الانتخابات، جنبا إلى جنب مع اعتراف المراقبين الدوليين القادمين من شتى أرجاء العالم. والذين سوف يمثلون شهودا كلهم متفقون على أن الانتخابات التي جرت، لم تشبها شائبة. إنما هل قبل المنهزمون بالنتائج كما يقبل بها أحد الخاسرين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية أو الأمريكية كمجرد مثال؟
إن ما حصل هو قيام العلمانيين بتلويث أجواء الفرحة التي سادت الأوساط الشعبية المصرية، كما سادت أوساط باقي الشعوب العربية، التي اغتبطت أشد ما يكون الاغتباط بالسعادة العارمة التي عمت حواضر أرض الكنانة وبواديها. ولم يترك الفلول والمرتزقة والبلاطجة كل تصرف دنيء قبيح ساقط إلا واعتمدوه لإفساد فرحة ملايين من أهل مصر! فكان أن تكامل خصوم الثورة في الداخل مع خصومها في الخارج، فقد تدفق المال الحرام من دول رجعية، للدفع بالأحداث المصطنعة إلى التخلص من أول رئيس شرعي عرفته مصر! وكان قائد الجيش المعين من طرف الرئيس المنتخب، ينسق في الخفاء مع الجهاز المخابراتي، للإسراع بتنفيذ مخطط، رسمه لا يعود إليه وحده، وإنما تولى الأجانب من أعداء الثورات الشعبية المساهمة في وضعه! دون أن يغيب الصهاينة عن حشر أنوفهم فيما سوف يعود عليهم من نفع لم يكونوا يحلمون به! حتى ودكتاتورية كل من السادات وحسني مبارك، تقود منذ عقود مسمى قانون الطوارئ.
فكان أن اتضح حينها في الأفق، ما تلقاه زعيم الانقلاب من وعود أمريكية وصهيونية وأوربية وعربية. هذه التي تصب كلها في خانتين، تؤديان بتكاملهما إلى هدف واحد: فالخانة الأولى تمثل حماية المتسلطين على المشروعية الشعبية في الاختيار. والخانة الثانية تمثل تمويل العملية الانقلابية أثناء جريانها وبعد جريانها بأموال، لا نتردد إن نحن وصفناها بالحرام المحض من منظور الدين الخالص! على الأقل بالنسبة للمدعين بحماية الإسلام والغيرة عليه! أما حماة العملية وممولوها من العلمانيين، فالحرام الديني عندهم غير وارد! لكونهم يخصصون ميزانيات ضخمة لمواجهة ما ينظرون إليه كخطر خارجي طارئ وشيك الوقوع أو هو واقع! مع عدم استبعاد الشركات المالية العملاقة عن المشاركة في تغيير أية خرائط سياسية لا تضمن لها الأرباح الطائلة، التي تكفلت الأنظمة الرجعية الدكتاتورية بتوفيرها، على حساب نهب مقدرات البلاد والعباد!
ومقابل تنفيذ الانقلاب على نظام، قد يكشف لاحقا عن أنيابه للحيلولة دون قضم ما يمكن قضمه من الأطعمة المستباحة التي دأب عليها الانتهازيون المتعودون على امتصاص دماء الأمم، هناك التزامات تعهد الانقلابيون بإنجازها كوعود منهم وكثمن أو كدين، لا بد لهم من دفعه للطرف الحامي الممول.
فيكون في مقدمة ثمن الحماية والتمويل، اعتبار حماس منظمة إرهابية من ناحية. والعمل على تقليم أظافرها (= نزع سلاحها) من ناحية ثانية. وحصارها بشتى الوسائل حتى تستسلم لإرادة الانقلابيين والصهاينة والأمريكيين من ناحية ثالثة! وربما تحول الاستسلام الذي سوف يعرض عليها إلى تخليها عن السلاح مقابل الدخول تحت حماية النظام المصري الجديد! وكأن غزة سوف تعود إلى وضعية ما قبل السادس من حزيران 1967م. حالها كحال الضفة الغربية التي كانت تحت حماية المملكة الأردنية الهاشمية! غير أن حرب حزيران تلك، مكنت الصهاينة من استرجاعهما بعد انهزام جيش مصر الذي كان يقال: إنه لا يقهر!!!
وكل الأطراف المتحالفة لإقبار انتفاضة شعب مصر، وانتفاضة كافة الدول العربية، أخذت تفي بالتزاماتها. فالأموال تتدفق على الانقلابيين من حكام الخليج، وتنفيذ المخطط القاضي بعزل حماس واتهام الإخوان المسلمين بأنهم إرهابيون، آخذ في التبلور يوما بعد يوم! وتلقي أسلحة لتدمير منازل سكان الحدود مع غزة ودولة الصهاينة مستمر في وضح النهار! يتعلق الأمر بتحويل 5 كيلومترات من أرض سيناء إلى أرض خالية حتى لا تتاح أية فرصة للتواصل مع مواطنيها والفلسطينيين! بل حتى يتم القضاء على كافة الأنفاق الرابطة بين رفح الفلسطينية، ورفح المصرية!
لكن الانقلابيين في مصر، سيطر عليهم الاستعجال حبا في الظهور بقوة غير عادية أمام الخليجيين، هذا من جهة. وأملا منهم في جني المزيد من الأموال والدعم العسكري من جهة ثانية! فحتى قبل انتهائهم من خدمة الصهاينة والأمريكيين، بتحويل مئات منازل السينائيين، بعيدا عن حدود إسرائيل، أكدوا حضورهم حينما تجاوزت طائراتهم حدود مصر لصب جام غضبها على الليبيين المدنيين المسالمين بحجة مهاجمة “الدواعش”! ثم أكدوا لاحقا حضورهم في البحر الأحمر قريبا من حدود اليمن، مساهمة منهم في “عاصفة الحزم”! بل ذهبوا بعيدا في تأكيد حضورهم لحماية جيران اليمن من خطر القاعدة والحوثيين، دون أي اعتراض من أي طرف! خاصة وأن التأييد المطلق تنعم به كل الدول وكل الحكومات التي تدين الحوثيين ومن يواليهم من أنصار الرئيس المطاح به: علي عبد الله صالح.
وبالدخول في الحرب المفتوحة المعلنة ضد الحوثيين، وتداخل المصالح بين الانقلابيين في مصر، وبين الأثرياء الخليجيين الذين تحركت طائراتهم لتصب حمم نيرانها على مختلف المؤسسات العسكرية وغير العسكرية في اليمن، نكون قد توفرنا فعلا على الدوافع المنتصبة وراء ما جرى في مصر! وما جرى ويجري في سوريا! وما يجري الآن في ليبيا! وما سوف يجري لاحقا في دول لا تخفي تحالفها مع العلمانيين الغربيين المتسلطين على رقاب شعوبنا.
فالمسألة إذن لا تعدو أن تكون تحالفا، يحتل فيه العرب المتضايقون من الحراك الشعبي مركز الصدارة! مما يعني بأوضح الكلمات: تعبيرا عن ولاء حكامنا العرب للغرب المسيحي! وإصرارا منهم بدون ما هوادة على طمس معالم الإسلام ومبادئه! وبعدها سوف “يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون“!
البريد الإلكتروني: [email protected]