مزان بين الحرية والجنس والفوضى والعبقرية؟
د. محمد وراضي
هوية بريس – الأربعاء 06 ماي 2015
لا أنكر بأي وجه كان، جذوري الأمازيغية في قلب سوس العالمة! يكفي أنني لم أشرع في تعلم الدارجة المغربية الهوارية (نسبة إلى هوارة غير بعيد عن مدينة تارودانت)، إلا عندما تجاوزت العاشرة بسنتين. فأصل جدي وجد والدتي من بلدة إفران الأطلس الصغير. وقد كانت أطلال دار جدي ماثلة للعيان في حدود 1974م. وقبره بمدينة تزنيت حيث توفي، وحيث ولدت.
ولم أكن -لحسن حظي- من عائلة أمية، وإنما من عائلة متعلمة بمفهوم العصر الذي كان فيه جد والدتي أحمد الراضي عدلا بإفران، جنبا إلى جنب مع العلامة الحسين الإفراني، الذي كان قاضيا دائع الصيت في المنطقة. وخط جدي الرائع، بين يدي منه خمسة أحزاب من أجزاء القرآن التي كتبها بيده، فضلا عن خطه الذي لا يزال ينبض بالحياة من خلال وثائق يحتفظ بها بعض الإفرانيين حتى الآن.
ثم كان جدي محمد الراضي (يراجع “المعسول” للمختار السوسي) إماما بالزاوية التجانية وسط مدينة تزنيت. وذلك بعد وفاة شيخه الإفراني الذي قدر له أن يصلي صلاة الجنازة على الشيخ المقتدر العلامة: ماء العينين، المعروف بتصوفه وورعه، وحسه الجهادي لمقارعة الاستعمار، بينما جد والدي من مواليد بلدة تازروالت. هذه التي ولد فيها والدي عام 1902م. وجدي من والدي كان حاملا لكتاب الله، ومثله والدي رحمة الله عليهما وأسكنهما فسيح جناته.
كل هذا للتأكيد على أن صلة عائلتي بكتاب الله وسنة رسوله، صلة وطيدة. وهذه الصلة الوطيدة، كتب لها أن لا تنقطع والحمد لله، فسعدت لأنني مسخر منه سبحانه للاحتفاظ بها، ولتعميقها إلى حد اعتباري من طرف البعض سلفيا بالمعنى القدحي الشائع للكلمة. يقصد أنني ذو ميولات دينية نصية حرفية إلى حد التعصب! وحتى إن كنت سلفيا -كما يدعي المدعون- فلكوني مجرد واحد من المغاربة الذين قلت في حقهم مرة: إنهم جميعهم سلفيون. أحب من أحب وكره من كره؟
ومن هنا نشأ عدم ارتياحي كليا لفحوى ما عبر عنه الكاتب رشيد نيني في مقال له تحت عنوان “مجانين الحركة الأمازيغية مليكة زنزان”! المنشور بجريدة “الأخبار” عدد 653 بتاريخ 29 دجنبر 2014م.
فالسيدة مزان، كامرأة مغربية مثقفة، هي بالنسبة لي عبرت وتعبر عن طموحها، في أن تصبح بمساعدة من كانت تحترمه وتقدره، أديبة شاعرة أمازيغية الميول والهوية والأحلام الوردية! تجعل من إنتاجها الأدبي المنثور والمنظوم بوابة للإطلال على أحاسيس ومواقف جماعة متميزة بهويتها وبثاقفتها، من بين أنواع الجماعات أو المجموعات البشرية، في منطقة ما من العالم. وذلك من خلال تعابير وصور وتصورات وأفكار، بالإمكان أن تؤدي دورها التحسيسي والإخباري بشروط، من ضمنها أن يكون متاحا للمثقفين قراءة ما تكتبه. إما بحروف عربية. وإما بحروف غيرها لاتينية. وإما بحروف تيفناغ التي يقال: إنها كانت هي المعتمدة منذ قرون لدى الأمازيغ، وبها كانوا يعبرون كتابة عن مختلف الهموم والمسرات التي نجد من ضمنها ترجمة المشاعر الجنسية الصادقة بالذات! واضحة فيها العذرية الطاغية على العلاقة بين الجنسين في المجتمع الأمازيغي، قبل طغيان الاختلاط الجنسي في كل مجال من مجالات الحياة، بحيث إننا نعتبر الكاتبة مزان، منخرطة انخراطا قويا في إبراز ملامح المرحلة اللاحقة للتي ساد فيها الحب العذري، بناء على كامل حريتها في اختيار ما تتصوره وتصبو إليه، وحريتها في الاختيار من صميم النظام اللبرالي القائم على العلمانية. دون أن تذهب بنا الظنون، أو التخمينات، إلى حد الزعم بأن النظام المعمول به اليوم في بلدنا، وفي الشمال الإفريقي برمته، قد وفر فعلا حرية الاختيار لبنيه؟ كلا وألف ألف كلا! فهو إن وفر لهم هامشا من الاختيار، فإنما في الاتجاه الذي يفتح أمام كل مندفع لإهلاك ذاته بما يحلو له وبما تطاله يده ونقوده من أنواع الخمور! أو بما يحلو له من أنواع المخدرات المحلية والمستوردة! أو بما تحلو له مضاجعتهن من مومسات محترفات ومبتدئات في طور التدريب! كن متزوجات! أو كن مطلقات! أو كن عازبات!
وهذا ما يدفع بنا فورا إلى صميم الحرية الجنسية، حيث نجد أن السيدة مليكة مزان، لم تذهب بعيدا في تمثل الحرية بمعناها السياسي والاجتماعي، بقدر ما ذهبت في تمثلها بمعناها الفردي، بعيدا عن القيد الديني والأخلاقي! فإن كانت الحرية هي التخلص من كافة الإكراهات لدى البعض، وفي مقدمتها الإكراه الاجتماعي، فإن الحر في الحقيقة هو الذي يأتمر بأمر القانون، ويمتنع عما نهى عنه، فلزم أن تكون الحرية باستمرار نسبية لا مطلقة، ويكون على الفرد أن يخضع في ممارسة حقوقه للقيود التي تحددها القوانين الجاري بها العمل.
أما إن كانت الحرية مضادة للاندفاع اللاشعوري، ومضادة للامسؤولية (أي أنها إيجابية)، فإنها تدل على حالة شخص لا يقدم على الفعل إلا بعد التفكير فيه. ومن ضمن الأفعال التي يقدم عليها، مضاجعته لمتزوجة، أو مضاجعة متزوجة لمتزوج واحد، أو لمتزوجين كثر؛ سواء كان هذا الفعل خيرا أو شرا بالنسبة إليه! فهو يعرف ما يريد -وهي تعرف ما تريد- ولا يفعل أمرا بالنسبة إليه كرجل إلا وهو عالم بأسبابه. ولا تفعل أمرا بالنسبة إليها كامرأة، إلا وهي عالمة ببواعثه، لذلك قيل: “إن الحرية هي الحد الأقصى لاستقلال الإرادة. يعني أن الفاعل الحر هو الذي يقيد نفسه بعقله وإرادته، ويعرف كيف يستعمل ما لديه من طاقة، وكيف يتنبأ بالنتائج، وكيف يقرنها بعضها ببعض، أو يحكم عليها. فحريته ليست مجردة من كل قيد، ولا هي غير متناهية، بل هي تابعة لشروط متغيرة، توجب تحديدها وتخصيصها. وتسمى هذه الحرية بالحرية الأدبية أو الأخلاقية”.
فيتأكد لنا هكذا بالتحليل لأحوال الأفراد في أي مجتمع كان، أن الحرية لم تصبح أبدا مطلقة لوجود حتميات وعراقيل متعددة! بل إنها سوف تضل نسبية كالإنسان على حقيقته البيولوجية والفيزيولوجية، حتى ولو بدا لأي كان أنه يتمتع بحرية مطلقة. وقد تكون كذلك تجريديا نظريا ميتافيزيقيا، متى توهم مدعيها كسر كافة القيود التي تخضع لها في الواقع، مما يعني أن عليه بالتتابع كسر القيود القانونية والاجتماعية، والخلقية، والدينية، والسياسية، إن هو مصر على التمتع بحرية مطلقة، وهذا مستحيل صدوره عنه!
وبما أن القيد القانوني عندنا بخصوص موضوع الإشباع الجنسي، قيد طري هين لين، منظورا إليه من الزاوية العلمانية الإباحية الفجة العاهرة! فإن ليونته وطراوته، هي التي سهلت على الباحثين عن الجنس كسر القيدين الموروثين المدعمين لإنسانية الإنسان الحق. نقصد الدين والأخلاق. بحيث تكون حالة السيدة مزان -من خلال اعترافاتها الشجاعة- ترجمة مباشرة لواقع يدفع بالأشخاص إلى عدم اعتبار أية قيود، متى تحكمت فيهم المشاعر والعواطف ودافع الجنس، بدل العقول والفهوم! مع أنهم يعتقدون جازمين أن اندفاعهم في اتجاه الشريك الجنسي، نتيجة منطقية لكونهم تحرروا بالفعل من كافة القيود!
فعندهم -كعلمانيين أقحاح- أن النسوة تحديدا يملكن حق التصرف في أجسادهن التي هي ملك لهن بكامل الحرية! وأنه ليس لأي أحد حتى حق التلويح بأي اعتراض على اختياراتهن! فلتترك المرأة زوجها في عش الزوجية، وتذهب بعيدا لقضاء لحظات ممتعة مع من اختارته عن طيب خاطر! لا مع من قام باغتصابها، لأن عقوبة الاغتصاب اليوم، أشد قسوة من عقوبة من ضبطوا متلبسين بممارسة الدعارة! هذا إن سمح لنا العلمانيون باعتماد هذه اللفظة الأخيرة للتعبير عن فعل سيء ينطوي على أضرار، أوضحنا بعضها في مقال لنا سابق؟
وصاحبتنا -كما تقول- لم تحترم مجرد رجل عادي لمدها بقوة التحمل والاستمرارية والعون اللازم، عساها تظهر في الوسط الأمازيغي وفي غير وسطه، على السيدات المغربيات العلمانيات! وهذا ما عبرت عنه بوضوح حين قالت بالحرف: “أنا مليكة مزان المناضلة الأمازيغية المعروفة بوفائها وإخلاصها لشعبها الأمازيغي (لا المغربي) أن أعلن نفسي تلك الزعيمة العلمانية التي يحتاج إليها الأمازيغ (زعم باطل). وأميرة على دولتهم الأمازيغية العلمانية (لا الإسلامية) المرتقبة في شمال أفريقيا! مع وعدي الكامل والصارم للجميع بأن أكون عند حسن ظنهم كما كنت دائما (من أين جئت بهذا الادعاء؟). وأن أبذل ما في وسعي من أجل بناء وطن أمازيغي موحد قوي، وضمان كافة حقوق وحريات شعبنا العريق الكريم الصامد”!!!
هذه الأميرة المغترة بنفسها، والمستسلمة للوهم كحاكمة أولى لدولة أمازيغية مفترضة متحدة، لا بد أن تكون قدوة في النضال لتجاوز الأنظمة المقامة حاليا بالمنطقة (= الشمال الإفريقي). ووقود النضال المقترح الذي تطرحه كبديل لنضال كافة الأحزاب والهيئات والجمعيات المدنية والدينية والحقوقية، هو وعدها المحرض الكامل بأن تبذل كل ما في مقدورها لتحقيق وحدة أمازيغية منسجمة. وعندها تضمن للمواطنين الأمازيغ أينما حلوا وارتحلوا كافة الحقوق والحريات!!!
وحتى تدرك أميرة الأمازيغ المستقبلية الواعدة الواعية المتنبئة بما سوف يحدث! نقول: حتى تدرك أهدافها التي رسمتها بخيالها لا بعقلها، رأت الاستعانة بفيلسوف مشاغب -كما قال عن نفسه- باعتباره رفيقا مؤتمنا في الطريق قبل الدخول فيه! لكونهما سويا -كما تخيلت- يشتركان في السعي إلى إصابة نفس الهدف، أو إلى تحقيق نفس الغاية! لكنها -وقد كانت تستقبله في البيت بحضور زوجها- لا تستطيع شرح كيفية انتقالها إلى حيث وجدت نفسها مستسلمة له، واقعة بين أحضانه وذراعيه في ضمات حميمية، عجزت عن منع حدوث ما يليها إن كان بها ولو ميل بصيص إلى الممانعة أو الامتناع بالتعبير العلماني! أو إلى الولاء والبراء بالتعبير الديني؟؟؟
فكان أن انتصرت النفس الشهوانية على النفس العاقلة! أما النفس الغضبية التي تحول دون أي مس بالكرامة والشرف، فقد استغرقت في النوم العميق، إلى حين الانتباه من غفوة طالما تمتع خلالها العشقان المتحابان ببعض مما تشتهيه الأنفس الرافضة لقيود القانون! ولأوامر الدين ونواهيه! ولمقتضيات الواجب أو الضمير الأخلاقي!
وبما أن الانسجام مطلوب بقوة في المنظومات الأدبية والفنية والأيديولوجية والسياسية والقانونية والفلسفية، إلى حد أنه لا يمكن الاستغناء عنه، فما الذي يحدث لو تعرضت بنية هذه المنظومة أو تلك لخلل ناجم عن زعزعة أي عنصر من عناصرها من موقعه؟ أو لا يكون وضعها -وضع المنظومة- حينها منذرا بحلول الفوضى محله، أي محل الانسجام والتناغم والاتساق؟
والفوضى كما هو معلوم هي: “الخلل الذي ينشأ عن فقدان السلطة الموجهة، أو عن تقصير في القيام بوظائفها، أو عن تعارض الميولات والرغبات، أو عن نقص التنظيم، وهي ضد النظام والترتيب”. والفوضية للتذكير “مذهب سياسي يدعو إلى إلغاء رقابة الدولة، وإلى بناء العلاقات الإنسانية على أساس الحرية الفردية”! وكأنها هنا عبثية غير ذات قيود من منطلق الجزم بأنها إن تحققت، سوف لن تبقي ولن تذر!!!
ويبدو أن الفوضى التي سادت العلاقة بين مزان وبين من اعتبرته فيلسوفا قدوة ذا خطر وذا صيت، لم تكشف عن عبقرية أي من طرفيها! إذ العبقرية عند الفلاسفة “إلهام سريع، أو حدس قوي، أو صبر طويل، أو قوة خلق وإبداع، أو قدرة عجيبة على التحليل والتركيب، لكن الفلاسفة في الوقت الراهن -وتحديدا في البلدان العربية- خبا ضوؤهم وانطفأت قناديلهم لأسباب في مقدمتها نجد توزيع تركة الفلسفة بمفهومها التقليدي منذ عدة عقود! إلى حد عنده نزعم بأن أشباه الفلاسفة هم وحدهم الموجودون! وإلا فأية عبقرية نقف عليها في الانسياب اللامعقلن للطاقة الليبيدية المتحررة من كافة الضوابط التي تعطي للعلاقات الجنسية ذاتها قيمتها الإنسانية، حيث تبتعد بها عن الدوابية التي يبدو أن السيدة مليكة مزان، أحست بثقلها على نفسها بعد تكرار تجربة الاتصال، المفتقرة أساسا إلى عبقرية، هي كما تعتقد من أبرز صفات شريكها في الرأي والقلم والأهداف!!!
ومن هنا نحيي السيدة مزان التي عملت بتصريحاتها حول علاقتها بالعبقري المفترض الذي كانت تمتدحه! نحييها بحرارة فائقة، ونقدر فيها شجاعتها التي لم يصدر نظيرها حتى عن رجال نجباء مشهورين، لأنها أيقظت بتصريحاتها الكثيرات من بنات جنسها المندفعات وراء الوهم والسراب، وذلك حتى لا يتعرضن لمثل تجربتها الفاشلة! لكنها في الوقت ذاته، عبرت بسلوكها الجنسي مع من ضاجعته خارج عش الزوجية الشرعي أو حتى القانوني، بأنها غير جديرة بأن تصبح أميرة على دولة الأمازيغ المتوقع قيامها في عالم الحلم بعد حين من الدهر!!!
وحتى إن كانت السيدة مليكة مزان واحدة من ضمن الفصيل الذي لا يتحمل تفعيل مفردات القيم الدينية كالتعوذ والتوبة والندم، فإنها أشرفت علينا من نافذة من لم يطمئنوا إلى ما فعله المحبوب بهم من ناحية. وإلى من سمحوا للمحبوب بأن يفعله بهم من ناحية ثانية! إذ لا يجدر بالمتحابين أن يلجأوا إلى نشر غسيلهم أمام أعين القراء والمشاهدين! هؤلاء الذين ينصب اهتمامهم في الحقيقة على مساهمة الكتاب والفاعلين المثقفين في التحرير والتحرر من مخالب الجهل والغفلة، والتوجيه المغلوط، مهما يكن مصدره.
مع التأكيد شخصيا على أن السيدة مزان، لم تكن سوى ضحية لأوضاع فرضت علينا كلنا بقوة من حكامنا، كما فرضت بقوة على كافة الشعوب العربية والإسلامية! مما يعني تعاطفي الشديد معها من منطلق إحساسي بألم الجرح العميق الذي أصاب قلبها جراء نيتها الحسنة. هذه التي لم يكن وراءها غير تحويل قناعاتها التي اكتسبتها عبر مراحل من علاقاتها المجتمعية، القائمة على أساس من التحليلات والتركيبات الدالة على كونها في غاية الضعف والوهن. فتحياتي لها صادقة من القلب إلى القلب، بعيدا عن الموالاة والممانعة كمفهومين علمانيين سياسيين.
وبعيدا عن الولاء والبراء كمفهومين دينيين سياسيين بمعناهما الشامل المتعدد الشروح! راجيا من ربنا المعبود بحق -لا من رب الأمازيغ- أن يشملها في الحال والاستقبال براحة بال، وبفكر ناقد بصير، وبذرية طيبة كامتداد لها لخدمة الشعب المغربي، لا لخدمة الشعب الأمازيغي المفترض المقيم وحده دون غيره في حدود دولة، لم يكشف أي مخاض محتمل عن قرب ولادتها؟؟؟
البريد الإلكتروني: [email protected]