عن الكتاب الذي حققه المناضل مصطفى الحسناوي داخل سجنه
د. محمد وراضي
هوية بريس – الأربعاء 17 يونيو 2015
يقال: إن التاريخ يعيد نفسه، إما في صورة حلزونية لولبية، وإما في صورة تصاعدية. لكن الأحداث الماضية كموضوع له -حتى وقد سلمنا بتكرارها- لا يمكن الجزم بتاتا بأنها متطابقة تمام التطابق. غير أن مدلولاتها من حيث الأمكنة، ومن حيث الأزمنة، أقرب ما تكون إلى التشابه.
فالمعتزلة قديما -كحركة دينية وفكرية- لم يكن من حقهم الاستناد إلى قوة السلطة القائمة لفرض آرائهم وقناعاتهم بواسطتها. إنما كان من حقهم أن ينافحوا عن أفكارهم بكل حرية، لا أن يتمترسوا خلف حاكم ظالم هو المأمون بن هارون الرشيد، الذي أصدر عام 218 هجرية، مرسوما يقضي بحمل الأئمة وكافة العلماء وحملة كتاب الله والمؤذنين على القول بخلق القرآن! أو على اعتناق الفكر المعتزلي في العقيدة، وفي مقدمتها عقيدة التوحيد التي لا تكتمل إلا بتعطيل كافة صفات الله عز وجل! بحكم أن وصفه بها إقرار بقدمها كقدمه، مما يحمل على الشرك به!!! بينما المفروض أن يكون وحده هو القديم دون غيره من صفاته! وحتى إذا ما قيل بأننا لا يمكن لنا تصوره بدونها، أجابونا بأنها هي نفسها ذاته، دفاعا منهم عن التوحيد الحق كما يدعون.
لكن معتزلة ذلك الزمن، لم يخرجوا عن إطار مناقشة قضايا لها صلة وطيدة بالعقيدة. إنهم لم يهاجموا العبادات، ولا أنكروا المعاملات، ولا وضعوا الشهادتين قيد الشك أو الريبة. يكفي التذكير بـ“الكشاف” الذي ألفه الزمخشري المعتزلي في شرح القرآن الكريم، لمعرفة مكانة تفسيره بين كافة التفاسير التي أنجزها علماء كثر. ثم يكفي أن نعرف بأن الرجل معروف لدى العلماء بـ”جار الله” على اعتبار أنه يجاور بمكة المكرمة لشهور!
غير أن المعتزلة المعاصرين (نقصد العلمانيين!)، والذين انطلق ظهورهم بالمغرب تحديدا على عهد الملك عبد العزيز العلوي، لم يقفوا عند حدود مناقشة التوحيد بالعقل، مع تشبثهم بأركان كل من الإسلام وقواعد الإيمان. وإنما امتدت بهم السنوات إلى حد اعتبار كل الدعاة إلى تفعيل الدين في الواقع التاريخي ظلاميين!!! مما يعني أن الدين ذاته محصور في زاوية، هي التعبد اعتمادا على قناعة الأفراد المتعبدين! وأنه لا مكان له في تدبير الشؤون العامة! مع التأكيد على أن مدشن هذا الاتجاه، هو الملك المغربي المذكور قبله! فقد مد يده إلى الأجانب من ذوي جنسيات مختلفة! وأباح ما لم يبحه الشرع! وبالغ في ظلم المغاربة من حضريين وقرويين! ولم يكن ليحترم كبار علماء الأمة الذين حاولوا نصحه وتوجيهه! ولم يكن من هؤلاء غير المطالبة بعزله، وتنصيب أخيه مكانه! بحيث تمثل الرسالة التي أنهى المناضل مصطفى الحسناوي داخل سجنه دراستها وتحقيقها تقديما مركزا لما حصل على عهد الملك المذكور. وهي من إنجاز العلامة: عبد الحي الكتاني، كمعاصر لكل من السلطان عبد العزيز، وأخيه من بعده عبد الحفيظ، خاصة وأنه متزعم المناداة بخلع الأول ومبايعة الثاني، وكلاهما للتذكير أبناء الملك المجاهد العادل: الحسن الأول.
هذا وينبغي ألا يستغرب أي قارئ للرسالة التي حققها ودرسها أبو جهاد داخل سجنه، وضعه لأكثر من عنوان على واجهتها الأمامية. إنه “الأدوار السياسية للعلماء” وهو “محطات تاريخية في المشاركة والمعارضة واختيار الحاكم وإقالته”. ثم إنه: رسالة “مفاكهة ذوي النبل والإجادة” لحافظ المغرب: عبد الحي الكتاني.
يعني أن رغبة المحقق لأجل انتصار الحق على الباطل (هذا الذي هو ضحية من ضحاياه) يترجمها شدة حرصه على إبعاد اتهام العلماء من طرف العلمانيين، بجهل عالم السياسة، وما يشهده من مد وجزر مستمرين، وأن كل اجتهاداتهم -إن تم التسليم بها- تصب في خانة واحدة هي خانة الفقهيات، من وضوء وغسل ونكاح وطلاق، ونفقة وميراث وصداق. وسجود قبلي وسجود بعدي وسدل وقبض!!!
فلم يكن منه -عجل الله بإطلاق سراحه- غير رد صريح وقوي لكل هذه الاتهامات المغرضة التي تم المضي في الترويج لها، منذ عهد عبد العزيز العلوي حتى اليوم! إنه فند وخطأ كل المدعين الأفاكين بأن “الفقه السياسي” أو “السياسة الشرعية” أو “الفكر السياسي الإسلامي” منحصر في مؤلف واحد هو “الأحكام السلطانية” للماوردي. وكإصرار منه على التفنيد، تحدث عن “الرسالة الوجيزة للحضرة العزيزية في علوم الخلافة” هذه التي صاغها مؤلفها -وهو مجهول- في عشرين فصلا فيما يشبه دستور دولة الخلافة على المذهب المالكي.
ثم إنه تحدث عن مؤلفات غيرها في نفس الموضوع. كما تحدث عن الكتب المتعلقة بالجوانب المالية للدولة الإسلامية. وعن كتب القانون الدولي والعلاقات الدولية. وعن الكتب التي تتناول موضوع الوزارة. وعن التي تتناول موضوع القضاء. وعن التي تتناول الحسبة وصيانة المجتمع. وعن كتب النصائح والمواعظ المتعلقة بالسياسة. وعن كتب التاريخ السياسي. ككتاب الإمامة والسياسة المنسوب لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري. وعن كتب الفكر السياسي، وهي الكتب التي تعنى ببحث العلاقة بين الظواهر الإنسانية والسياسية والتأثير المتبادل بينهما ككتاب “مقدمة ابن خلدون”، حيث أفرد فيها صاحبها حيزا كبيرا للكلام عن السياسة، سواء من حيث الحديث عن القواعد التي تحكم السلوك الإنساني، أو من حيث الحديث عن الأحكام الشرعية التي تربط بينها.
وحتى لا تظل اتهامات الملك عبد العزيز بالفساد والانحراف عن جادة الصواب، مجرد أكاذيب ملفقة، قدم الكاتب المحقق، اعتمادا منه على مراجع أجنبية ومغربية، نماذج من تصرفاته المخلة بسلوك الملوك، أو أخلاق السلاطين التي فرضتها عليه البيعة التي تقتضي الاستقامة والعدل، والابتعاد عن ممارسات تنعكس -لشذوذها عن المعتاد- على الوطن والمواطنين. بعد أن جسدت بوضوح تام انحراف من تصدر عنه، وكأن الدين لم يعد له دخل في تقييد ممارساته تلك، أو كأنه لم يعد يضرب أي حساب للشعب بمختلف فئاته ورجالاته من علماء وفقهاء ومحدثين وحملة كتاب الله المبين.
فقد كان السلطان عبد العزيز “مهووسا بالبضائع الغربية الثمينة منها والتافهة. وذكر “روم لاندو” و”غابرييل فير” الذي لازم السلطان لأربع سنوات، كما ذكر عدد من المغاربة أمثلة لهذا الهوس بالبضائع الغربية، حتى قال المؤرخ “جوليان”: إن قصر السلطان أشبه ببزار تراكمت فيه بضائع دولية رديئة، اشتريت بأسعار غالية “وكانت هذه البضائع تجلب بكميات كبيرة، وتبعثر في القصر حتى تتلف! فيعاود في طلبها من أوربا حتى يغتني التجار الأوربيون الوسطاء. وقد اندفع السلطان الشاب في هذا الطريق بصورة فاضحة، حتى لقد أخذت له صورة فوتوغرافية بلباس جنرال إنجليزي، أو روسي، أو هو متجرد من ثيابه التقليدية يلعب البولو أو التنس. وكان اليهود يبيعون هذه الصور في أنحاء المغرب”.
وذكر “غابرييل فير” أن إماء عبد العزيز بلغن المائتين. كلهن دون سن العشرين. ولم يكن السلطان يجد غضاضة ولا حرجا في إطلاع الأجانب على نسائه وحريمه، بل وإشراكهن في لعبه ومتعه مع بعض ضيوفه الأجانب”!
فكان “مما أنكره علماء المغرب آنذاك -وهم يومئذ لسان الأمة- على السلطان عبد العزيز، تعامله مع الأجانب وتقريبهم منه، وإطلاعهم على منافذ ونقط قوة وضعف البلاد، وتمكينهم من أراضي المغرب، بل تسليمهم إياها دون مقاومة! واستعانته بغير المسلمين! وتعاونه معهم أحيانا على المغاربة! وقد أفتى العلماء بخلع من تصدر منه مثل هذه الأحداث”!
فكان من جملة ما أخذ عليه “عدم مجاهدته للغزاة، وصد عدوانهم، بل لما قامت قبائل الشاوية ومجاهدوها لرد عدوان فرنسا، جهز جيشا لتأديبهم وقمعهم للتدليل على أنه مع المعتدين، لا مع المعتدى عليهم من أبناء وطنه، إضافة إلى أنه أول من أحدث بنكا ربويا بالمغرب؟ وأول من ألغى الزكاة عام 1901م؟ بحيث إنه أصدر نشرة تؤكد عزمه على الشروع في تطبيق الضريبة التي سميت بالترتيب عام 1904م. ومن أمثلتها أنه على كل رأس من الإبل ريال، وعلى كل رأس من البقر نصف ريال، وعلى كل مائة رأس من الغنم البيضاء عشرة ريال”. إلى آخر ما هنالك مما تدفع عنه الضرائب التي أثقلت كاهل المواطنين. فكان أن اعترض العلماء واحتجوا وانتقدوا، وأصروا على خلعه.
وفي موضوع إلغاء بيعة الملك المتهم بالاستهتار، يقول صاحب “مفاكهة ذوي النبل والإجادة” بعد مقدمة رسالته هذه: “أما بعد، فإن الله ألهم هذه الرعية الموفقة، ذات السعود المحققة، النظر في أمر مولاي عبد العزيز ابن السلطان مولاي الحسن، بما ثبت لهم من اختلال النظام بوجوده ودوام تصرفه غير المرضي، وتبذيره الأموال في ملاذه وشهواته النفسانية وتمكينه وزراءه الغاشين من امتصاص أموال الرعية، وبنائهم بها القصور المشيدة، وتعمير الخزائن بما يفوق الوصف والحال، بعد أن كانوا كبقية الناس. مع ما انضم إلى ذلك من تبديله أحكام الشرع، وخيانته لشعبه، ومجاملة من لا يرضاه الله ولا الرسول للوداد، وتهاون بالدين إلى درجة أن جهز للغازين جيشا لردعهم (يقصد لردع المجاهدين) والفت في ساعدهم”. ولهذا كله “أجمعت الكلمة من الكافة والخاصة من أعيان علماء المغرب الأقصى وساداته وأئمته، إلى نقض تلك البيعة”، فلزم أن تتم مبايعة من تتوفر فيه شروط الإمامة الدينية والسياسية، هذا الذي لم يكن سوى أخيه عبد الحفيظ الذي قبل شروط البيعة وإن كانت قاسية، بحيث إنه تبين مع مرور الوقت بأنه لا يستطيع الوفاء بها، فكان أن دخل مع صاحب الرسالة في جدال، تزداد حدته يوما عن يوم، لكنه لم يعد أمام المجادل: عبد الحي الكتاني ومعه أهله، غير ترك مدينة فاس في اتجاه البادية، بعيدا عن الاشتغال بالسياسة، لكن سرعان ما وشي به إلى الملك عبد الحفيظ حيث قيل له: إن خروجه لم تكن وراءه نية الاختلاء للعبادة أو ذكر الله، وإنما لتهيئة ثوار، بمقدورهم مهاجمة فاس، وتطويق القصر للقضاء على المقيم به. فكان أن تمت إعادته بأمر من السلطان إلى فاس… ثم كان أن قتل شر قتلة! تماما كما تم قتل علماء معارضين مثله من المغرب ومن خارجه على يد الحكام. يكفي التذكير بمحمد عبد السلام جسوس، الذي كان ضحية معارضته للملك إسماعيل العلوي، بخصوص مسمى جيش “عبيد البخاري”.
فتأتى لنا بعد الوقوف على دراسة وتحقيق المناضل مصطفى الحسناوي لـ”مفاكهة ذوي النبل والإجادة” وبعد قراءتنا لهذه الرسالة التاريخية، وبعد الاطلاع على الردود المؤيدة والمستنكرة المطالبة بخلع الملك عبد العزيز، وبعد التأكد من كون مؤيديه مجرد مرتزقة وصوليين شذاذ الآفاق، الذين نميز من بينهم: الفرنسيين، والألمانيين، والإسبانيين، والإيطاليين، ومغاربة خونة أفاكين مستهزئين بالدين، أكالين للسحت، نؤكد ما يلي:
وضعنا كتاب “مفاكهة ذوي النبل والإجادة” رأسا لرأس أمام نتائج يصعب تقويمها، غير أن ذيولها لا تزال تسري في الجسد السياسي والديني المغربيين حتى الآن، ومن بينها هذا الذي نسوقه موجزين:
1- تدشين البدء بتطبيق النظام العلماني في غيبة عن الاختيار الشعبي! هذا النظام الذي حل محل النظام الإسلامي على يد الملك عبد العزيز العلوي، مطلع القرن العشرين. فقد ألغى الزكاة كركن ثالث من أركان الإسلام! وسهل مأمورية العمل الربوي بفتحه لأول بنك مغربي على غرار الأبناك في الغرب الأوربي!
2- بخصوص مختلف ممارساته المتجاوزة لحدود العقل ولحدود النقل، ظهر فريقان مغربيان: فريق مؤيد وفريق معارض. فالأول لا يرى مانعا من مسايرة توجيهات الاستعمار التي تستهدف ضرب الهوية المغربية في الصميم! والثاني لم يكن ليقبل اعتبار ملك من ملوكه العلويين الشرفاء رائدا للعلمانية الدخيلة! كما أنه لم يكن ليقبل تقديم أي عون للاستعمار حتى يحقق كافة الأهداف التي رسمها بدقة متناهية!
3- لم يستطع أخو عبد العزيز: الملك عبد الحفيظ المبايع له، الوفاء بشروط بيعته، وفي مقدمتها مقاومة الدخلاء، حتى يظل المغرب دولة مستقلة، غير خاضعة للاستعمار الذي يلوح في الأفق!
4- فكان أن قبل -تحت الضغوط كما قيل- بتوقيع عقد الحماية ، مع أنه كان من الواجب عليه أن يضع نفسه رهن إشارة الحاضنة الشعبية، هذه التي لم ترفض ثورة أحمد الهيبة في الجنوب، ولا رفضت ثورة محمد عبد الكريم الخطابي في الشمال، وبالتالي لم ترفض حركات أخرى مقاومة في مختلف أرجاء المغرب كالشاوية وغيرها!
5- وبغياب الملك عبد الحفيظ العلوي عن السلطة، اختار الاستعمار أخاه يوسف الذي استمر في التعاون معه من خلال مواجهة المقاومين من جهة، ومن خلال إمضاءاته المعروفة على كل ما يقدمه إليه المستعمرون من مشاريع قوانين في غير صالح الأمة الإسلامية من جهة ثانية، كإحداث المواخير عبر التراب الوطني! والتي برع الكلاوي في استغلالها لفائدة ثرائه الفاحش! والتي لا تزال قائمة في أغلب مدن المملكة المغربية بكيفيات مختلفة!
6- وسرعان ما ضرب النظام العلماني بجذوره في بلادنا دون أن يتم الرجوع إلى الشعب لاستفتائه بخصوص قبوله بهذا النظام الدخيل! أو بخصوص رغبته في العودة إلى النظام الإسلامي!
7- وعدم استفتائه كي يختار ما يريد أن يختاره، هو الدافع وراء ظهور الإسلاميين، لا في المغرب وحده، وإنما كذلك في كافة الدول العربية والإسلامية. وآلاف الأرواح البريئة التي أزهقت لمواجهة الإسلاميين، تحت أي مسمى كان أو هو كائن، مسؤولة عنها مرحلة ما قبيل الاستعمار، ومرحلة الاستعمار، ومرحلة مسمى الاستقلال.
8- فصح أن العلمانية -كخاتمة- لم تكن من اختيار الشعوب، وإنما هي من اختيار الحكام الذين ينظر إليهم كمتخطين لكافة الحدود، التي رسمتها الشعوب بكدها وتعبها، معتمدة على الأخلاق والدين والتقاليد والأعراف المضادة للظلم والطغيان والعجرفة!!!