د. البشير عصام المراكشي يكتب: من جنى اليراع.. القابضون على الماء
هوية بريس – د. البشير عصام
الحديث التاسع #من_جنى_اليراع.. القابضون على الماء
في شهر نونبر الماضي، قررَت إحدى المحاكم الفرنسية إطلاق سراح رجل راشد (عمره الآن ثلاثون سنة) كان متابعا بتهمة اغتصاب فتاة عمرها 11 سنة عام 2009. وسبب إطلاق سراحه، أن هيئة المحلفين لم يثبت لديها أن الرجل أكره الفتاة على ممارسة الجنس، بل كانت راضية مختارة!
بالطبع، ثار النقاش الإعلامي والحقوقي مرة أخرى، حول موضوع السن الأدنى الذي يُقبل فيه معنى الرضا والاختيار.
وبالطبع، فالقانون قد يتغير في فرنسا خلال الشهور أو السنوات المقبلة، وهو فعلا مختلف باختلاف الدول الغربية، ومدارسها القضائية..
ولكن الذي يهمني الآن، أننا في الوقت الذي تثور فيه ثائرة المنظمات الحقوقية “الحداثية” عندنا لأجل زواج بعض مَن دون سن الثامنة عشرة في بعض القرى والبوادي عندنا، وينشغل الدعاة “التنويريون” بإنكار أو تأويل أحاديث سن زواج عائشة رضي الله عنها قبل 14 قرنا، فإنه يوجد اليوم في “بلد الحداثة والأنوار” نقاش حول السن الأدنى الذي يحصل به الرضا بالممارسة الجنسية مع شخص راشد (هذا دون أن أتحدث عن الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا تعترف أغلب ولاياتها بسن أدنى للزواج أصلا)!
قومنا إذن ينكرون ثوابتَنا، لموافقة ما يعدّونه ثوابت عند الغرب، والحال أنها عندهم متغيرات أيضا..
نعم.. مجال القيم في الغرب، هو مجال السيولة والنسبية، والتغير السريع تبعا للمزاج الشعبي العام، ولرغبات اللوبيات المتحكمة في التعليم والإعلام، وللأهواء المتقلبة للسياسيين ورجال الأعمال والمفكرين، ولأمور أخرى كثيرة.
فهُم -في مجال القيم- يثبتون الشيءَ اليوم وينقضونه غدا، وإذا احتاجوا لتثبيت الجديد على أنقاض القديم، فالقانون موجود، ولا يتطلب تغييره كبيرَ شيء: ضغطٌ إعلامي لتوجيه الرأي العام، ففتحُ نقاش سياسي لتبرير التشريع الجديد، فرضوخ المؤسسة التشريعية لرغبة الجماهير، ثم يصبح المباح محرما، والمحرم مباحا..
المتتبعون للتطور المجتمعي الفرنسي مثلا، يعلمون أن الرأي العام كان قبل أربعة عقود تقريبا يقبل دون إشكال أمورا صارت تعد اليوم من قبيل “البيدوفيليا” المستهجَنة أخلاقيا والمجرَّمة قضائيا (يُنظر مثلا ما كتبه السياسي المعروف دانييل كون-بينديت (Daniel Cohn-Bendit) في كتابه (Le Grand Bazar – P203) عن علاقاته بالأطفال، مما يعد اليوم جريمة لا يمكن التصريح بها ولا “التنظير” لجوازها).
في حين كان 42% من الفرنسيين يعدّون -عام 1973- المثليةَ الجنسية مرضا ينبغي علاجه، صارت النسبة عام 1997: 23% فقط، وهي اليوم أقل دون شك؛ بل صارت فكرة الربط بين المثلية والانحراف أو المرض، مرفوضةً في الإعلام، وقرينة على أن صاحبها فاشيّ يميني أو متطرف ديني!
في عام 1974 كان 48% من الفرنسيين يرون أنه ينبغي إباحة الإجهاض من طرف الطبيب، إذا رغبت المرأة في ذلك لأسباب مادية أو معنوية، فيما انتقلت النسبة إلى 75% عام 2014. وبين التاريخين، تبِع السياسيون تطور الرأي العام -أو لعلهم: هم الذين أوجدوه- فكان قانون إباحة الإجهاض.
والأمثلة كثيرة.. من تأملها جزم بأن جميع القيم والأخلاق عند القوم قابلة للتغيير والمراجعة.
ولنا أن نسأل: ما السبب الكامن وراء هذه السيولة القيمية؟
بدأ الأمر بالتشكيك في الثوابت الدينية التي كانت تمثلها الكنيسة وتدعو إليها، والتشكيك في قدرتها على التفاعل الإيجابي مع مخرَجات العلم الحديث. وسرعان ما تحول الشك إلى إنكار!
وحين تخلت أوروبا عن المرجعية الدينية -بالفكر الهادئ ثم بالثورة العنيفة- لم تستطع أن توجِد مرجعية عليا تحل مكانها: لا العقل ولا العلم ولا الإنسان ولا غير ذلك كله. وانتقلت أوروبا إذن بالتدريج إلى مرحلة غياب المرجعية الثابتة المتجاوزة، التي تحال عليها كل النقاشات القيمية والأخلاقية.
تلقّف المتغربون المنتسبون للإسلام -فيما تلقفوا من مبادئِ الغرب وأفكاره- معاني الشك ونسبية الحق. ولأنهم أرادوا أن يسيروا على نفس الطريق الذي سار عليه الغربيون في تاريخهم الحديث، فقد سلطوا تلك المعاني على المرجعية الدينية الإسلامية، كما فعل الأوروبيون مع المرجعية الكنسية.
لكن القوم عندنا ينتمون -وإن كرهوا- إلى ثقافة “شرقية”، صاغها الدين الإسلامي وشكّل بنيانها منذ قرون على أساس وجود دائرة واضحة من “المطلق” و”القطعي”؛ فهم إذن يحتاجون إلى ثوابت يفيئون إليها. فإذا زالت ثوابت الدين في نفوسهم، احتاجوا إلى ثوابت أخرى يجعلونها مرجعية لهم. ولأجل ذلك، صاروا يتبنون بعض القيم الحداثية الغربية بنفس عقلية “الإطلاق” و”القطعية” الموجودة عند المتدينين، فيرونها ثوابت راسخة لا يمكن التنصل منها.
(ولذلك فإنني في نقاشاتي أجد لدى الحداثيين والتنويريين العرب من التعصب لما يسمونه “القيم الكونية”، ما لا أجده عند المفكرين الغربيين أنفسهم، الذين يتركون -في أحيان كثيرة- مجالا رحبا للنسبية في مجال القيم والأخلاق).
هنا تبدأ الكارثة..
قومنا هؤلاء يتخذون لهم مرجعية عليا ثابتة، من منظومة فكرية مائعة متغيرة عند أهلها والقائمين عليها أنفسهم!
رفضوا أن يبقوا قابضين على الجمر، بالإصرار على القيم الإسلامية التي صارت غريبة في هذا العصر.. فقرروا أن يكونوا قابضين على الماء!!
والقابض على الماء لا يبقى له منه في يده شيء..
ولأنه لا يملك شيئا، فليكن ضجيجُه كله حول ما يملكه الآخرون..
ولذلك تخصص هؤلاء “القابضون على الماء” في الهدم والتشكيك والنقد: هدم التراث الفقهي، هدم السنة النبوية، هدم تفسير القرآن، هدم أصول الفقه..!
ولذلك أيضا فإنهم إذا طولبوا بالبناء بدلا من الهدم، نكصوا على أعقابهم؛ فهم أعجزُ الناس عن بناء معمار قيمي متكامل، لأنهم يفقدون الأساس الصالح الذي يبنون عليه..
وذلك أنهم تركوا أسس المعمار التراثي القائم..
وقبضوا على الماء..
بورك يراعك أيها الأديب..