معاناة أب
هوية بريس – إلياس طلحة
كغيره من الشبان في مثل عمره، كانت لديه أحلام يسعى بكل جهد إلى تحقيقها، وكان محيطه الاجتماعي ومستواه المعيشي، حافزين قويين ليحارب صعوبات الحياة، وليصل أخيرا إلى تحقيق أحلامه.
مرت السنوات بسرعة، وها هو اليوم رجل متزوج وأب لطفلين، لم يتغير فيه الكثير رغم الإنهاك الذي انحفر في ملامحه، حاول كثيرا الحصول على عمل في القصر الكبير، هذه المدينة المهمشة ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا… وقد كان يعمل لدى أناس لا يعرفون سوى العنصرية والانتهازية والديكتاتورية والدغمائية… لكنه الآن لم يعد يستطيع صبرا وقال “إنه فراق بيني وبين مدينتي وأبنائها”، خاصة وأنه ترعرع في وسط اكتسب منه الأخلاق والشهامة والرجولة.
وبعد أن تمكنت منه الحاجة أصبح الملاذ هو مدينة طنجة؛ مدينة الفرص، فكان هدفه هو الحصول على عمل كيفما كان نوعه، وإن كان في أعماقه متأكدا أن طريقه لن يَخْلوَ من الأشواك. بَيْدَ أن عزمه وصبره تغلبا على مخاوفه، فبالنسبة إليه عنصرية الغريب أهون بكثير من احتقار أبناء مدينته له، رغم أنهم يعرفونه جيدا ولا تخفى عنهم ظروفه القاسية.
ذهب إلى طنجة تاركا زوجته وأولاده في منزل والديه وهو لا يملك في جيبه سوى أربعين درهما، وبعد وصوله واجه أول عقبة عندما لم يجد ترحيبا من بعض أقربائه المستقرين هناك، طردوه دون أن يَرِفَّ لهم جفن، فتذكر فجأة وجود بعض جيرانه في طرف من أطراف المدينة يشتغلون هناك، فقصدهم بسرعة، ومثلما توقع فقد رحبوا به أيما ترحيب وأكرموه كرما فاق توقعاته. ودون أن يضيع مزيدا من الوقت خرج باحثا عن العمل، فكان يخرج كل صباح آمِلا وهو يردد “لعلني”، ويعود كل مساء خائبا قائلا “ياليتني”
رغم الفقر والمعاناة، إلا أنه كان يعتني بهندامه، وكان الناظر إليه يخاله موظفا، وكلما قصد مقاولة بناء أو معمل ما، كان يُرفض لأن مظهره لا يوحي بأنه محتاج إلى العمل، وبينما يبحث ذات يوم وهو يرتدي قميصا وسروال ثوب ونظارات شمسية سوداء اللون، وصل إلى عمارة في طور البناء والعمال منتشرون ويشتغلون، فقصد رئيسهم ملقيا عليه السلام، فخاف رئيس العمال من هيئته، وتنفس الصعداء عندما طلب منه عملا قائلا له: “كان عليك أن تفصح عن ما تريد منذ مجيئك فقد أفزعتنا…”.
وكما كان متوقعا لم يقبله رئيس العمال في البداية، إلا أنه غَيَّرَ رأيه بعد أن ترجَّاه الرجل وحكى له ظروفه، وطلب منه أن يقبل به متدربا دون أجر حتى يقتنع به، وبعد قبوله، ذهب إلى سوق الملابس المستعملة “الجُوطِيَّة” واشترى ما يلزمه من ملابس للعمل الذي سيباشر فيه غدا في السابعة صباحا.
جاء اليوم الموعود، وبدأ العمل وكله إصرار على أن يثبت جدارته، وأن هيأته الأولى لا تعكس عزمه، لكن بعد ثلاثة أيام، أحس بالتعب، وبدأت يداه بالتشقق، وغلبه الشوق والحنين لوالديه وزوجته وأولاده، وبالتالي لم يستطع القيام في اليوم الرابع، “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” وفي اليوم الموالي، تفاجأ برئيسه يسأله عن سبب تغيبه، فحاول إقناعه بكلامه الطيب، وقد نجح في الدفاع عن نفسه حيث تجاوز عنه رئيسه تاركا إياه ليكمل عمله، وزادته هذه الواقعة إصرارا على العمل.
وبعد مُضِيِّ أسبوعين بُشِّرَ بقبوله في وظيفة كان قد تقدم لها منذ وقت طويل، فكان خبر قبوله في الوظيفة بداية الفرج و تحقيق الأحلام العالقة، فما كان منه إلا أن قصد رئيس عمله وزَفَّ له بشرته، فتقاضى عن أتعابه طيلة الأسبوعين ورئيسه يربت على كتفه، ويشجعه على إخلاصه و تفانيه في العمل والله سبحانه وتعالى ”لا يضيع أجر من أحسن عملا”.
وهكذا استمرت حياته بين العمل والأسرة إلى أن رجع إلى حضن زوجته وأولاده ووالديه، وأضحى هدفه الوحيد أن يوفر كل الظروف الملائمة لهم، وفعلا صارت حياته مستقرة؛ محسنا لأبيه الذي ألزمه المرض الفراش قبل أن يموت بعشر سنوات من الآن، وهو يطبع في يديه بخاتم الرضى، وكذلك أمه التي كانت تحبه وترضي عليه والتي توفيت في الماضي القريب.
والأساس أنه الآن في تمام الاستقرار المادي والمعنوي، و يقوم بعمله بكل مسؤولية وتفان، ولا يتردد عن مساعدة الناس، وتقديم يد العون لهم، وقد كبر أولاده، وتزوجت ابنته وصار له أحفاد منها، كما رزق من زوجته ذرية أخرى يسهر على تربيتها التربية الحسنة… فلا بأس من أن نعاني في هذه الحياة؛ بل لا مفر من المعاناة قال تعالى “لقد خلقنا الإنسان في كبد” إلا أن الصبر هو الأساس، وهو مفتاح الفرج، فطوبى للصابرين، ويصدق هذا قول الله عز وجل: “إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب“.