د. رشيد بنكيران يكتب: هؤلاء لهم سلف، وهؤلاء لهم سلف، وهؤلاء لا سلف لهم
هوية بريس – د. رشيد بنكيران
مسألة إخراج زكاة الفطر نقدا أو بالقيمة من المسائل الفقهية التي اختلف فيها العلماء قديما وحديثا، ويعد الاختلاف فيها من الاختلاف المعتبر، ولا ضير في أن تتناولها أقلام علمية كلما جاء موسم زكاة الفطر، فالبحث فيها وبيان وجهات النظر وتقديم الحجج لكل فريق وترجيح أحدها ظاهرة صحية ومفيدة، ولا يزيد البحث في هذه المسألة الفقهية إلا قوة وحلاوة ،مثله مثل تمر بزاوة، تزيده عضا يزيدك حلاوة كما يقول المثل العامي المغربي.
ويمكن أن نجمل سبب الخلاف في هذه المسألة:
أن من قال بمنع إخراج زكاة الفطر نقدا فقد تمسك بالظاهر ولم يلتفت إلى المعاني، وغلّب جانب التعبد.
ومن قال بالجواز تمسك بالمعاني في مقابل المباني أو الظاهر، وغلّب جانب التعليل والنظر المصلحي.
ويذكرني سبب الخلاف الواقع في إخراج زكاة الفطر نقدا بما جرى للصحابة يوم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يصلين أحدهم إلا في بني قريظة، فتباينت مواقفهم بين متمسك بالظاهر ولو مع إخراج صلاة العصر عن وقتها، وبين ملتفت إلى المعنى وأداء الصلاة في وقتها ولو مع مخالفة ظاهر أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ففي الصحيحين واللفظ للبخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِىّ – صلى الله عليه وسلم – لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ». فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ .
يقول ابن القيم شارحا هذا الحديث ومعلقا عليه في زاد المعاد في هدي خير العباد:
“وقال – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه يومئذ: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة): فبادروا إلى امتثال أمره، ونهضوا من فورهم، فأدركتهم العصر في الطريق. فقال بعضهم: لا نصليها إلا في بني قريظة كما أمرنا، فصلوها بعد عشاء الآخرة،
وقال بعضهم: لم يرد منا ذلك، وإنما أراد سرعة الخروج، فصلوها في الطريق.
فلم يعنف – صلى الله عليه وسلم – واحدة من الطائفتين” اهـ.
ثم قال ابن القيم رحمه الله:
“واختلف الفقهاء أيهما كان أصوب؟
فقالت طائفة: الذين أخروها هم المصيبون، ولو كنا معهم لأخرناها كما أخروها، ولما صليناها إلا في بني قريظة امتثالا لأمره، وتركا للتأويل المخالف للظاهر.
وقالت طائفة أخرى: بل الذين صلوها في الطريق في وقتها حازوا قصب السبق، وكانوا أسعد بالفضيلتين، فإنهم بادروا إلى امتثال أمره في الخروج، وبادروا إلى مرضاته في الصلاة في وقتها، ثم بادروا إلى اللحاق بالقوم، فحازوا فضيلة الجهاد، وفضيلة الصلاة في وقتها، وفهموا ما يراد منهم، وكانوا أفقه من الآخرين”. اهـ
قلت: ووجه الشاهد من ذكر هذه الواقعة؛
أن من أخرج زكاة الفطر صاعا من طعام في وقتنا المعاصر -وخاصة في المدن- مع ما يراه من حال الفقير وواقعه، فقد تمسك بظاهر الحديث النبي- صلى الله عليه وسلم – وامتثل لأمره، وترك التأويل المخالف لظاهر الكلام، ولم يلتفت إلى المعنى كما فعل الصحابة الذين صلوا العصر بالليل متمسكين بظاهر الحديث.
وأن من أخرج زكاة الفطر نقدا علِم أن لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مرادا معقولا يتعلق بسد خلة الفقير، فالتفت إليه وسعى في تحقيق مقصود الشارع ولو مع مخالفة ظاهر الحديث، فالمقاصد والمعاني أولى بالرعاية من الألفاظ والمباني عند التعارض، كما فعل الصحابة الذين صلوا صلاة العصر لوقتها ملتفتين إلى المقصد والمعنى عند رجحانه على الظاهر والمبنى.
ومن جميل ما قال ابن قيم الجوزية -علامة المقاصد بحق- في كتابه إعلام الموقعين بخصوص حديث الباب:
“فاجتهد بعضُهم -أي الصحابة- وصلَّاها في الطَّريق، وقالوا: لم يُرِدْ منا التأخير، وإنما أراد سُرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى. واجتهد آخرون وأخّرُوها إلى بني قريظة فَصَلّوْها ليلًا، نَظَروا إلى اللفظ، وأولئك سَلَفُ أهل الظاهر، وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس”. اهـ
قلت: فمن تمسك بالظاهر، وأخرج زكاة الفطر صاعا من طعام فله سلف، وهم أهل الظاهر، ومن التفت إلى المعنى وأخرج زكاة الفطر بالقيمة أو نقدا فله سلف، وهم أصحاب المعاني والقياس، وفي كلٍّ خير على وجه الجملة سواء أهل الظاهر أو أهل المعاني والمقاصد، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعنف لا أهل الظاهر ولا أهل المعاني.
وإذا كان هؤلاء لهم سلف، وهؤلاء لهم سلف، فمن هم الذين ليس لهم سلفا، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؟
إنهم شرذمة من المتشدقين المتفيقهين المتعمقين انتسبوا زورا إلى أهل الظاهر أو أهل المعاني، فمن ظن أنه من أهل الظاهر منهم تطاول على أهل المعاني بالنبز واللمز والسخرية، ومن ظن أنه من أهل المعاني تطاول كذلك على أهل الظاهر بأوصاف لا تليق.
فأقول لهذه الشرذمة؛ لهؤلاء ولهؤلاء على حد سواء: إنه لا سلف لكم، فإن الصحابة لم يتطاول بعضهم على بعض سواء من صلى الصلاة في الطريق أو من صلى الصلاة في بني قريظة، والله والهادي إلى سبيل الرشاد.