الأدوار الحيوية للمجتمع المدني.. مشاهد تاريخية
هوية بريس – د. عبد العزيز الإدريسي
نقصد بالمجتمع المدني: المجتمع الأهلي التطوعي غير الحكومي الذي يتغيَّى خدمة الصالح العام عبر مبادرات ذاتية وأدوار حيوية، وذلك بتعبئة الطاقات البشرية والإمكانات المادية المتوافرة، دون السعي للوصول إلى الحكم أو السلطة، ودون السعي لتحقيق منافع مادية أو أرباح مالية.
وقد عرفت فاعلية المجتمع المدني صعودا وهبوطا حسب منسوب الوعي بالقيم الحاكمة لتصورات الإنسان للحياة، وطبيعة العلاقات السائدة داخل المجتمع، والتجربة التاريخية للمسلمين شاهدة على رقي أذواق المجتمع وسمو أدواره الحضارية رعاية للخلق وعبادة للحق.
مشاهد تاريخية:
– المشهد الأول: من فاس بالمغرب الأقصى
ذكر الدكتور العلامة عبدالهادي التازي -رحمه الله-: “… انتشَرت البيماريستانات تدريجيًّا في مختلف الحواضر الكبرى بالمغرب؛ منها بفاس: مارستان “سيدي فرج” أُسِّس في القرن السابع الهجري، واستمر العمل به إلى القرن العشرين الميلادي، وكان يعتني بصحة الإنسان والحيوان والطير، وخُصِّصت به أوقاف لعلاج الطيور، خاصة طيور اللَّقْلاق إذا انكسَرت أو أُصيبت بأذًى، ويُصرف من هذه الأوقاف على مَن يُضمدها ويُداويها ويُطعمها، كما رُصِدت أوقاف للموسيقيين الذين يَعزفون للمرضى كلَّ أسبوع؛ ليُخفِّفوا عنهم آلامَهم، ويُنفَق من هذه الأوقاف على ما يتطلَّبه غسْل الموتى الغرباء وتكفينهم وإقبارهم”.
– المشهد الثاني: من دمشق بالشام
قال الرحالة المغربي ابن بطوطة:” والأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها؛ لكثرتها، فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، يُعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل، يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها؛ لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير. مررت يومًا ببعض أزقة دمشق فرأيت به مملوكًا صغيرًا قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني، وهم يسمونها الصَّحن، فتكسرت واجتمع عليه الناس فقال له بعضهم: اجمع شقفها، واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني. فجمعها، وذهب الرجل معه إليه، فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن، وهذا من أحسن الأعمال؛ فإن سيد الغلام لا بُدَّ له أن يضربه على كسر الصحن، أو ينهره، وهو -أيضًا- ينكسر قلبه، ويتغير لأجل ذلك فكان هذا الوقف جبرًا للقلوب، جزى الله خيرًا من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا”.
– المشهد الثالث: من بغداد بالعراق
كتب الخليفة الخامس عمر بن العزيز إلى واليه بالعراق عبد الحميد بن عبد الرحمن: “أَنْ أخرج للناس أُعْطِيَاتِهِمْ، فكتب إليه عبد الحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقي في بيت المال مَالٌ ، فكتب إليه: “أَنِ انْظُرْ كلمن ادَّانَ في غير سَفَهٍ ، ولا سرف فاقض عنه، فكتب إليه، إني، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: “أَنِ انْظُرْ كل بكر ليس له مال، فشاء أَنْ تُزَوِّجَهُ فَزَوِّجْهُ وأصدق عنه فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت ، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال…”.
– المشهد الرابع: من القدس بفلسطين
وثيقة الشيخ الناسك الصالح العابد عمر المجرد المالكي المصمودي: “التي وقف وحبس وسبل وتصدق و حرم –من خلالها- جميع الثلاثة الدور الموجودين كذا بحارة المغاربة وجميع ما يعرف بهم وينسب إليهم خارج عنهم أو داخلا فيهم وشهرتهم كافية عن ذكر أربع حدودهم و جميع الزاوية التي أنشأها الواقف بأعلى حارة المغاربة من جهة الغرب …للواردين من المغاربة وسكنا إليهم وأعد غلة الثلاثة دور المذكورين على مصالح الزاوية المذكورة وعلى إطعامية العيدين والمولد الشريف، وإن فاض شيء يشترى به خبزا ويفرق في ثلاثة أشهر رجب وشعبان ورمضان على المغاربة الموجودين بالقدس، وقد جعل التولية والنظر من بعده إلى الأتقى من جنس المغاربة المقيمين بالقدس الشريف…”
هذه المشاهد وغيرها كثير جدا، تشكل مظهرا من مظاهر الارتباط الوثيق بين فئات وطبقات المجتمع، وتجليا من تجليات التراحم المنبثق من القيم الحضارية المشكلة للوعي الجمعي للأمة الإسلامية، حيث نلاحظ أن المجتمع المدني يسد الاختلالات في مجالات كثيرة سواء تعلق الأمر بالمجال التعبدي أو الأسري أو الصحي أو العسكري أو الإجتماعي أو البيئي… كل ذلك في استجابة فعالة وخلاقة لمتطلبات العصر وحاجات المجتمع.ختاما: صدق من قال: “الأمة هي الأصل”.