المسلم المُتَدَيّن و”الدراما”
هوية بريس – حمّاد القباج
من مميزات المسلم المتدين أنه يقلص حجم حريته ويحد من مساحة متعته في هذه الحياة؛ معتبرا ذلك صفقة رابحة وتجارة لن تبور، موقنا بأن متاع الحياة الدنيا قليل مهما بهر وسحر، وأن الآخرة {خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى}.
ومهما كانت أهمية “مبدأ الحرية” في حياته؛ فإن الأهم منه هو “مبدأ العبودية لرب العالمين”؛ وما يقتضيه هذا المبدأ من طاعة الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإخضاع هوى النفس لتلك الطاعة ..
بهذا المنطق يقلص المتدين دائرة انتفاعه وتمتعه بالمال والجمال، وبشهوة البطن والفرج، وبإبداعات الفن وفوائد التواصل .. وسائر أنواع زينة الحياة الدنيا، وهو متأكد بأن ما فاته من ذلك كله في حياة الاختبار، سيعوض بأفضل منه في حياة الاستقرار: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 45 / 46]
وصاحب تلك الميزة يضبط في تصوره “ثقافة المتعة والمنفعة” وممارستها؛ ب”ثقافة الحلال والحرام”، ويُخضِع سلوك الحرية لأحكام الشريعة ومقاصدها؛ دون غلو ولا تفلت …
النموذج الذي يتناوله هذا المقال؛ هو: “الدراما”[1] التي يجتهد بعض المؤمنين في مزاحمة شرها وفسادها بإنتاجات يغلب نفعُها إثمَها؛ وهو ما أوجد مساحات للانتفاع المشروع الذي يتوخاه المسلم المتدين في كل ما يفرزه الإبداع الإنساني الجامع بين النافع والضار.
وفي هذا السياق؛ برزت جهود إسلامية مناهضة للفساد المستشري في هذا المجال؛ يسعى أصحابها قدر الإمكان لتوسيع دائرة الخير والنفع، وتقليص دائرة الشر والضرر، واجتهدوا في إنتاج مادة درامية مؤطَّرة بالمرجعية القيمية للأمة ..
ومع ذلك؛ يبقى الفساد وتجاهل توجيهات الدين مهيمنا على الصناعة السينمائية، مستفحلا في إنتاجاتها المؤطَّرة في معظمها بقناعات وسياسات المناهضين لقيم الإسلام الحنيف.
وهو ما يفرض على المسلم أن يسير في هذا الطريق مع الحذر من الألغام التي قد تنفجر في أية لحظة؛ فتنقله من حال التلقي الراشد النافع، إلى حال التلقي المتفلت الضار.
إن ربط المتدينين والناشئة بالإنتاج السينمائي الصادر عن منتجين يتجاهلون أو يحاربون قيم الإسلام؛ سيضعهم في طريق مملوء بالألغام ..
ومعلوم أن المراكز المنتجة للأعمال السينمائية الغربية والمستغربة؛ لها رؤية ورسالة مؤطرة بمذاهب فلسفية وقناعات مناهضة للقيم الأخلاقية التي يدعو إليها الدين (منهاج الخالق للإنسان)؛ ولذلك تطفح تلك الإنتاجات بما يزين الإلحاد الفكري والإباحية السلوكية وتجلياتهما؛ كالجشع المادي، والانحراف الجنسي، والتقليل من أهمية مكارم الأخلاق، وجحود وجود الخالق، وفصل الدين عن الحياة ..
فكيف يُطبّع الإنسان المتدين مع مراكز إنتاج بكل هذه الحمولة الإفسادية؟
وما قيمة بعض منافعها الجزئية في مقابل تلك الآثام الكبيرة؟
قال الله تعالى: {عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
واقتباسا من التوجيه الإلهي أقول: مهما كانت منافع الدراما التي لا تحترم القيم الإسلامية؛ فإن آثامها أكبر؛ لا سيما في السياق الحالي؛ المتمثل في سعي النظام العالمي لفرض التطبيع مع سلوك الشذوذ الجنسي:
ففي سبتمبر 2015 أطلقت الجمعية العامة للأمم المتحدة: “أجندة التنمية المستدامة 2030” ( agenda for sustainable development).
ومن ثَمّ أصدرت وثيقة: “تمكين المرأة وعلاقته بالتنمية المستدامة”.
ومع أن العنوان الأساس للوثيقة هو “استقواء المرأة womens empowerment”، إلا أنها تمحورت بشكل واضح حول “مساواة الجندر gender equality”.
وتبعا لذلك أصدر الأمين العام للأمم المتحدة تقارير تدعو الدول إلى: “تلبية احتياجات فئات محددة من النساء اللائي يواجهن أشكالا متعددة من التمييز؛ كالنساء المثليات lesbians، ومزدوجات الميل الجنسي bisexuals ومغايرات الهوية الجنسية (الجندرية)[2]transgenders وحاملات صفات الجنسين intersexuals”[3].
لقد انخرطت المنصة السينمائية (Net flix) في دعم هذا المسار؛ وتجتهد في عرض أعمال درامية تطبع مع الشذوذ الجنسي، والجنس الجماعي، والجنس الأخوي، وتظهر أبطال هذا المحتوى بشكل لطيف يستجدي عطف المشاهدين، حتى يتقبلوه.
وحسب بعض الباحثين؛ فقد تتجاوز نسبة هذه المحتويات 60%؛ وهي ممزوجة بإطار يجذب المشاهد ويجعله يتقبل السياق الدرامي دون انزعاج.
وبما أن الدراما لا تخاطب العقل في معظم الأحيان؛ بل تخاطب الوجدان والعواطف؛ نجد أن عددا هائلا من الفئة الشبابية يغفل تمامًا عن القضية الأساسية لهذه المحتويات ولا يبدون اعتراضهم وإنما يتعاطفون مع أبطالها.
وسيكون المسلم المتدين ساذجا إذا ظن أنه لن يتأثر بتلك الأعمال التي تخدر النفس بشكل يؤدي بها إلى تجاهل مبادئها وتَقَبّل تلك المحتويات بشكل تدرجي (اتباع خطوات الشيطان)، لاسيما أن هذه الأعمال تتميز ببراعة الأداء وجودة المعايير.
الأخطر من ذلك كله؛ أن التطبيع مع الشذوذ الجنسي؛ يروج له أيضا بين الأطفال من خلال الإنتاجات الكرتونية الصادرة عن أشهر المراكز المتخصصة في ذلك النوع من الإنتاج؛ مثل: (disney world) و(cartoon network)، وكثير من شركات التقنية والمواقع الإلكترونية التي انخرطت في حملة ترويج للسلوكيات الجنسية المنحرفة والشاذة.
وإذا كان هذا النوع من الفساد والانحراف مضمنا في الإنتاجات الكرتونية الموجهة للأطفال؛ فما بالك بالإنتاجات السينمائية؟!
إننا أمام مظهر جديد من مظاهر الوعد الشيطاني: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّه} [النساء: 119]
من هنا؛ أعتقد بأنه لا يليق بالمسلم أن يروج لمنصات سينمائية تخدم تلك الأهداف الشيطانية المناقضة لما أرشدنا إليها خالقنا سبحانه.
إن المسلم المتدين له مقام شريف؛ ألا وهو مقام المشاركة في رسالة الإصلاح، وحراسة حدود القيم، والإسهام في إتمام مكارم الأخلاق؛ فأيما مصلحة أو منفعة تؤدّي به إلى الإخلال بهذا المقام؛ فهي مصلحة مرجوحة أو باطلة ..
ومهما كانت مصلحة الانفتاح على الإبداعات التقنية والفنية والمهارات التواصلية؛ فإنها تكون مصلحة معتبرة ما دامت في إطار مبدأ الاستقامة، وتعظيم الأمر والنهي الإلهيين، والاعتزاز بفقه الحلال والحرام، والتحلي بالآداب الشرعية المؤطَّرة بفقه الكبائر والصغائر.
وبالقدر الذي أنصح فيه المسلم المتدين بالانتفاع بإيجابيات تلك الإبداعات، والإسهام في توسيع دائرة منافعها؛ فإنني أنصحه بعدم الترويج لتلك الصادرة عن أعداء الدين وقيمه وأحكامه ..
الإنسان الذي لا يهتم كثيرا بالقيم الأخلاقية ولا يغار على محارم الله ولا يلتزم بمنهجه؛ لا يرى مشكلة ولا خطرا في مضار تلك الإنتاجات وفي تأثيراتها السلبية، والجمهور العريض لا يتوفر على الوعي الكافي في هذا الموضوع؛ لكن المسلم المتدين والإنسان الناضج الواعي لا يجعل نفسه سوقا لاستهلاك تلك المنتوجات، ولا يجعلها وسيلة للترويج لها ..
وهل هناك اليوم وسيلة للتأثير في السلوك والقناعات أكبر من هذه الإنتاجات؟؟
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الدراما: مصطلح يُطلق على المسرحيات والتمثيل بشكل عام. انظر عن التكييف الفقهي للتمثيل؛ كتاب: “أحكام فن التمثيل في الفقه الإسلامي”؛ تأليف: محمد بن موسى الدالي.
[2]– كل تلك الأنواع من الشواذ تدخل في نطاق مصطلح (الجندر)، ومن ثم تشمل مساواة الجندر Gender Equality إعطاؤها جميع نفس الحقوق التي يحصل عليها الأسوياء.
[3]– انظر: “استعراض تنفيذ الإستنتاجات المتفق عليها للدورة 57 للجنة وضع المرأة، تقرير الأمين العام، مقدم للدورة 60 للجنة وضع المرأة، 14ـ24 مارس 2016، البند (34)، ص 11.
جزاك الله بخير أستاذنا الفاضل ونفع الله بك الإسلام والمسلمين وجعلنا الله وإياكم هداة مهتدين امين