سلسلة أنواع القلوب (ح5) القلب الراضي (ج3)
د. محمد ويلالي
هوية بريس – الثلاثاء 01 شتنبر 2015
الرد على الليبراليين الجدد
توقفنا في المناسبة السابقة عند القسم الرابع من أنواع القلوب، حيث تناولنا الجزء الثاني من مواصفات القلب الراضي، الذي خصصناه للحديث عن الرضا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا، بعد الحديث عن الرضا بالله -عز وجل- ربا. وكانت مناسبة للرد على من سُموا أو تَسموا بـ”القرآنيين”، زعما منهم الاكتفاء بالقرآن الكريم مصدرا تشريعيا دون الحاجة إلى مصدر آخر، ولو كان حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنقول إلينا بالتواتر، المجمع -من طرف الأمة- على صحته وقبوله ووجوب العمل به.
وموعدنا -اليوم إن شاء الله- مع الجزء الثالث، المتمم لدائرة القلب الراضي، وهو الإيمان بالإسلام دينا: شريعة ومنهجا، لقوله تعالى: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ“، وقوله تعالى: “وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ“. وهي مناسبة أخرى لبيان حقيقة قوم يرفضون الدين جملة وتفصيلا، قرآنه وحديثه، يسمون بـ”الليبيراليين” أو “التحرريين”، وبخاصة منهم الجدد، الذين ذاع صيتهم عبر وسائل الإعلام الحديثة، كالقنوات الفضائية، والمواقع الإلكترونية، فضلا عن الجرائد والمجلات، والمحاضرات والندوات، وتأليف الكتب.
تنطلق فلسفة التحرريين من جعل الفرد أساس التفكير الإنساني، منه المنطلق، وإليه المنتهى، حوله تدور فلسفة الحياة كلها، تَشرع له ما يشتهيه، وتُرخص له ما يهواه، باعتباره وُلِد حرا، يجب أن يبقى حرا في اختياراته، دون تدخل خارجي من دين، أو عادة، أو أخلاق.
أما حقوق التحرري كلها فمتفرعة عن هذا الأصل: حرية الحياة، فيكون حرا في كل قراراته، هو يتحكم فيها لا تفرض عليه، له أن يقرر: هل يعيش على دين مَّا فيكون متدينا، أم يبقى تائها بلا دين فيكون ملحدا؟ هل يستمر في الحياة، أم يضع لها حدا؟ هل يتزوج وفقا لتعاليم شرعية، أو قانونية، أم يتخذ له خِدنا لا تربطه بها أية علاقة إلا السفاح والفساد؟..
ويكون التحرري حرا في التعبير عن ذاته، ومواقفه، يستوي عنده الخالق والمخلوق، لأنه لا يعترف -أصلا- بالخالق، فتهون عنده المقدسات، لأنه لا يعترف بشيء مقدس، وتتحطم أمامه المبادئ، لأنه لا يسير في حياته وفق مبادئ وقواعد وقوانين، إلا ما انزجر به من القوانين البشرية الوضعية.
ويكون التحرري حرا في تحديد معنى حياته وفق فكره وما هداه إليه عقله، حتى وإن خالف جميع المسلمات التي أجمع عليها العقلاء، فقد يهوى تغيير جنسه من ذكر إلى أنثى، أو من أنثى إلى ذكر، وقد يهوى أن يزرع له رحم امرأة في أحشائه، ليحمل فيه جنينا كما تحمل المرأة، وقد يهوى أن يشوه خلقته التي فطره الله عليها، ليجعل من وجهه صورة كلب، أو قرد، أو ذئب، أو عفريت، أو شيطان، مع ما يصحب ذلك من عمليات تجميلية بل تقبيحية، يَصرف عليها الأموال الباهظة، ويُنفِق في سبيلها الأوقات الطويلة.
والتحررية غريبة المصدر والأصل، غَرْبِيَّة المنزع، تؤمن بكل ما أفرزته الحضارة الغربية التي تركز على محورية الإنسان، الذي تحاول أن توفر له كل أسباب الرفه لقضاء نزواته، وإشباع شهواته، والانتشاء بِأُلْـهُوَّاتِه. بل إن التحررية تدعو لكل ما هو غربي، وترى أن الحضارة الغربية قادمة لتعمم على كل البلدان. ولذلك نرى التحرريين الكبار الذين يقتنصون مراكز القرار، لا يفتأون يدعون الدول والشعوب للَّحاق بهذه الحضارة، والتخلص من القيود الدينية والأخلاقية، والعادات المجتمعية، ويرون ذلك شرطا لتحقيق التقدم والازدهار، ويرون ما نسميه نحن بـ”الغزو الفكري” نصائح تقدمية، ووصفات اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، تهدى للشعوب الفقيرة من أجل النهوض، وتحقيق ما حققه الغرب.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا مجال -عندهم- لشيء اسمه الدين، ومن أراد التدين فهذا شأنه هو، وليس شأن الأمة، ولا شأن المؤسسات والهيآت المستأمنة على الأمن الروحي للمواطنين، ولا محاسبة بقولٍ مقدس كيفما كان نوعه، ولو كان قرآنا يتلى، أو حكمة تستحلى. أما الأحكام الشرعية، فيعتبرونها أحكاماً وضعت لزمانها ومكانها، وليست أحكاماً عابرة للتاريخ، أي: إنها لم تعد صالحة لزماننا، فلا التفات إليها.
ولا موقع قدم -عندهم- لقوم يسمون العلماء، أو الفقهاء، فهم لا يحتاجون إلى نصيحة ناصح، ولا موعظة واعظ، لا، بل العلماء عندهم رمز التخلف والرَّجعية، لأنهم يؤمنون بالغيب، ويتحدثون عن الأخلاق، ويتشبثون بالمقدس.
ولا مجال -عندهم- لشيء اسمه التاريخ، أو أمجاد وبطولات، فهذه أمور بائدة، لا تنفعنا في بناء حاضرنا، ولا تمدنا بحاجيات حضارتنا، فلا حديث عندهم عن سير المتقدمين بمن فيهم الأنبياء والمرسلون، والدعاة والصالحون، حتى إذا ذكرتهم بالماضي الأسود للغرب، وكيف عاشوا صراعات وحروبا عالمية، ذاقت فيها الإنسانية مرارة الألم، والحزن، والفقر، والمرض، والضياع، وكيف بنوا حضارتهم على أشلاء مخالفيهم، وجماجم مناوئيهم، ولو كانوا من أبناء جلدتهم، ومواليد بَجدتهم، قالوا: إنها حتمية التاريخ، وضرورة لا بد منها لتحقيق حتمية الحضارة.
التحررية تموه على أتباعها بأنها لا تحاسبهم على نوع تدينهم، أو أخلاقهم وسلوكهم، إنما تحاسب الفرد إذا تجاوز ضرره إلى الآخرين، وكأن اللاديني -بانسلاخه عن خالقه الذي يعلم جَهره وسره، ونبيِّه الذي بين له ما يُصلِح شأنه، ويهذب أخلاقه- صار معصوما من أن يمتد ضرره إلى غيره، وهذا هو التناقض الذي ليس لصاحبه شفاء، والحمق الذي ليس لراكبه دواء.
من الذي يطعن في الديانات كلها سواهم؟ ومن الذي يحرض على الإفطار في نهار رمضان غيرهم؟ ومن الذي يدعو إلى العلاقات الماجنة، والصداقات الفاسدة سواهم؟ ومن الذي ينظم المسيرات من أجل الترخيص لحرية المثليين غيرهم؟ ومن الذي يدعو في المنابر المتعددة لإباحة بيع الخمور للمسلمين وشربها عيانا بلا قيد ولا شرط؟ ويرى كل ذلك من قبيل الحرية الشخصية، في الوقت الذي يضر فيه بمشاعر أمة من المسلمين، ويشجع الشباب والأطفال على الرذائل والقبائح، فيتعدى أذاهم إلى أبنائنا وبناتنا عن طريق تزيين الفاحشة ونشرها، والله تعالى يقول: “إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ“. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لاَ يُغَيِّرُوا إِلاَّ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ” صحيح سنن أبي داود. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: “لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا” صحيح سنن ابن ماجة.
القلب الراضي لا يمكن أن يعيش راضيا إلا في ظل دين الإسلام، يَشرُف بالانتساب إليه، يتنفس مبادئه، ويستشعر تعاليمه، ويَحُد حدوده، ويحفظ حرمته، لا يبغي عنه بديلا، لأنه آخر ما وصى به الله تعالى من الأديان السماوية. قال تعالى: “شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ” وقال -تعالى- بعدها في تمييز واضح بين من ارتضى دين الله الإسلام، ومن رأى النجاح في غيره: “فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ“.
والنكوص عن شرع الله عبادة لغير الله، وهؤلاء يعبدون الذات البشرية، ويحطمون كل الحواجز في سبيل إرضائها. قال تعالى: “قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ“.
قال ابن القيم -رحمه الله- في بيان حاجة الناس إلى الرسل الذين بلغوا رسالات الله: “ومن هاهنا تعلمُ اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول، وما جاء به، وتصديقِه فيما أخبر به، وطاعتِه فيما أَمَر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلاّ على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلاّ من جهتهم، ولا يُنال رضا الله البتة إلا على أيديهم”.
وأُقِـرُّ بِالقـُرآنِ مـا جاءَتْ بِـه***آياتُــهُ فَـهْـوَ القـَديــمُ المُنْــزَلُ
قُبْحـاً لِمَنْ نَـبَذَ الكِـتابَ وراءَهُ***وإذا اسْتَدَلَّ يقولُ قالَ الأخطَلُ