لماذا لا نجد اهتماماً لدى السلفيين بابن خلدون؟
وهل هو مصنف فكرياً ولديهم حساسيات ضده؟
وماذا عن نظريته في الحضارة؟
هوية بريس –إبراهيم السكران
السبت 10 أكتوبر 2015
الحمد لله وبعد..
الذي أعرفه أن ابن خلدون محل اهتمام كثيف في الدراسات التاريخية الإسلامية، وكتبت عنه رسائل أكاديمية معروفة، وأشهر ما تحدثوا عنه تلك التحليلات التي عرضها عن مفهوم الحضارة، ويبدو لي أنه تم استدعاؤها لأغراض سياقية يعيشها الباحثون اليوم أكثر من كونه تقييم فكري مستقل.
بل وحتى المستشرقين الذين استمدوا من ابن خلدون نماذج للقراءة مثل منظر الاتجاه البيوريتاني في مدرسة أنثروبولوجيا الإسلام غلنر، يظهر أنه استمد من ابن خلدون لأغراض تتعلق بشرعية العلاقة بين المجهر والعينة.
وأما بالنسبة لي شخصياً فأكثر ما خلب اهتمامي في مقدمة ابن خلدون فهو الباب السادس بعنوان (العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه) ويقع فيما يقارب الثلاثمائة صفحة تقريباً.
وهو -في رأيي الشخصي- أعظم أبواب المقدمة على الإطلاق، وقد كرسه ابن خلدون لدراسة “ظاهرة العلم والمعرفة” في التراث الإسلامي، فدرس فيه جذورها وتطورها، ورمى بملاحظات موضوعية من الداخل.
ومن أمثلة ذلك:
تحليله المطول لتطور علم الكلام، وكيف اختلط والتبس بالفلسفة عند المتأخرين؟
وإشارته للكتب الأربعة التي دارت حولها كتابات أصول الفقه المتأخرة.
وإشارته المبهرة إلى تحول مصطلح القراء إلى الفقهاء في تحليله لنشأة الفقه على يدي الصحابة.
ورصده لتبادل التأثير المبكر بين الصوفية والإسماعيلية حين قال: “فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر”.
ورصده لصدارة العلم بين المشرق والمغرب، وتفسير اقتصار الأندلس على فقه مالك.
وشرح الأسس المعرفية لعلم أصول الفقه، والرأي الذي طرحه في أن علم أصول الفقه اكتمل مع الدبوسي.
ومتى بدأ التصوف بالضبط؟، ومناقشة الإشكالية الشهيرة في أصل مصطلح “التصوف”.
وله أطروحة طريفة جداً يخالف فيها الدراسات الحديثة في تفسير موارد العلوم اليونانية من أين أخذوها؟، فكثير من الدراسات المعاصرة ترى أن علوم اليونان مأخوذة من الحضارة المصرية، وابن خلدون يقترح أن اليونان أخذوها من فارس حين قتل الإسكندر دارا ثم استولوا على كتبهم.
وتفسير حضور أرسطو عند العرب أكثر من غيره، وأن أرسطو جمع مسائل المنطق المتناثرة قبله ورتبها، لا أنه أنشأ هذا العلم من العدم.
والتنبيه الدقيق على تغييرات المتأخرين في مفردات وهيكل علم المنطق، فأضافوا مباحث من حقول أخرى وحذفوا مباحث معينة، وتغييرهم لوظيفته من كونه آلة إلى كونه فن برأسه، وأن أول من قام بتبديلات جوهرية في بنية علم المنطق هو الرازي.
وتفسير اختلاف المتكلمين في الموقف من علم المنطق بناءً على اختلافهم في إشكالية انعكاس الأدلة، وهذا الموضع من أبدع المواضع في مقدمة ابن خلدون، وفيه براعة في التحليل.
وكيف كانت علوم الزراعة جزءاً من علوم السحر ثم استخلصها المسلمون منها وفكوا الارتباط.
وغير ذلك كثير من الرصد التاريخي للعلوم الإسلامية وبدايات تخلقها وتطوراتها.
وهذه التحليلات الخلدونية لا يروى منها الباحث في تاريخ التراث ولا يشبع، ومن له عناية بتاريخ التراث فسيصبح الباب السادس من مقدمة ابن خلدون أنيسه حال السآمة.
والله أعلم..