آسفي…مدينة تبحث عن ذاتها بالرجوع إلى تاريخها
هوية بريس – سعيد الغماز
مدينة أبعدها النسيان عن تاريخها ومكانتها. هذه هي حقيقة مدينة آسفي إذا استحضرنا تاريخها والمكانة التي كانت تحتلها. فإذا كان تاريخ المغرب يزخر بتأثير حضارات وثقافات ضاربة جذورها في عمق التاريخ، كحضارات الفينيقيين والقرطاجيين والموحدين والبرتغاليين مرورا بالحضارة الأندلسية، فإن مدينة آسفي لوحدها تجتمع فيها جميع تلك الحضارات ويختزل تاريخها معالم الكثير من الثقافات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر “قصر البحر” المطل على المحيط الأطلسي الذي شيده البرتغاليون سنة 1508 ليكون حارس المدخل الشمالي للميناء. نذكر كذلك “قلعة القشلة” التي تعود للحقبة البرتغالية، والتي مازالت شامخة بمدافعها النحاسية من صنع هولندي تعود للقرن 17.
في عهد الموحدين، تم تشييد القصبة وفق المعمار الموحدي المتميز بأسواره وأبوابه المقوسة، وكذلك صلابة بنائه ليظل قائما وشامخا حتى وقتنا الحاضر. بمحيط القصبة تتواجد صومعة الجامع الكبير الذي يعود هو كذلك لحقبة الموحدين ويُعتبر من أقدم المباني التاريخية بآسفي. وفي سنة 1807 قام السلطان سيدي محمد بن عبد الله بإعادة بناء صومعة المسجد لتظل شامخة تختزل تاريخ مدينة طالها النسيان وأبعدها الإهمال عن تاريخها ومكانتها.
تاريخ مدينة آسفي يعكس جميع الفترات التي مر منها تاريخ المملكة الشريفة، ولا يكاد حدث تاريخي تعرفه البلاد إلا وتكون مدينة آسفي جزءا منه وطرفا فيه. وذلك راجع للمكانة المتميزة التي كانت تحظى بها مدينة يعتبرها بعض الباحثين أقدم مدينة في المملكة الشريفة حيث يعود بنائها إلى عهد الفينيقيين في القرن 11 قبل الميلاد.
لمعرفة المكانة التي تحظى بها مدينة آسفي في التاريخ المغربي، يكفي أن نذكر على سبيل المثال القائد الإسلامي عقبة ابن نافع الذي حل بالمدينة وترك بها صديقه شاكر لنشر التعاليم الإسلامية. ولا زالت المدينة تحتضن بين جناحي مآثرها التاريخية رباط شاكر الذي يُعتبر أقدم رباط في البلاد وبه بُنِيَ أول مسجد في المغرب.
إشعاع مدينة آسفي وصل إلى أرجاء العالم منذ القرن 11م، ويكفي أن نذكر بهذا الخصوص العلامة الشيخ أبي محمد صالح الذي مازالت زاويته قائمة على بعد خطوات من كورنيش المدينة. والعلامة أبي محمد صالح هو رمز مدينة آسفي وتعدت شهرته وتأثيره الروحي والعلمي حدود المغرب لتصل إلى الجزائر وتونس ومصر والعراق والشام والحجاز، بل وصل تأثيره إلى الهند. ويكفي أن نشير إلى أن زاوية سيدي محمد صالح كانت محطة رئيسية للحجاج إلى جانب زاوية العلامة في الإسكندرية بمصر التي وضع على رأسها ابنه عبد العزيز بن أبي محمد صالح.
الحديث عن تاريخ آسفي يقودنا إلى ذكر الكثير من المعالم التاريخية الشاهدة على مكانة المدينة في التاريخ المغربي كزاوية سليمان الجزولي المتواجدة على شاطئ البحر بجانب المعلمة الأثرية قصر البحر، ودار السلطان التي يمتزج فيها الفن المعماري المغربي والأندلسي وهي من مآثر العهد الموحدي وعرفت عدة تغييرات في عهد البرتغاليين والدولة العلوية. نذكر كذلك دار السلطان التي كانت تُعرف باسم قصر الباهية لأنها كانت في الحقبة العلوية قصرا للمولى هشام ابن السلطان سيدي محمد ابن عبد الله.
من بين المآثر التاريخية كذلك الكنيسة البرتغالية التي شُيدت سنة 1519م من طرف البرتغاليين، وتقع قرب المسجد الأعظم، وهي فريدة من نوعها في إفريقيا الشمالية حيث تمتاز بفنها المعماري القوطي. الكنيسة هدمها البرتغاليون ساعة خروجهم من المدينة سنة 1541م بعد هزيمتهم أمام جيوش الدولة السعدية، ولم يبق من معالمها إلا جزء بسيط أعيد ترميمه جزئيا من طرف وزارة الشؤون الثقافية . نشير كذلك إلى مدينة تيغالين التي ستظل لغزا في التاريخ العريق لمدينة آسفي حيث تُفيد العديد من الدراسات التاريخية، أنها مدينة غارقة على حافة المحيط الأطلسي شمالي مدينة آسفي في المنطقة التابعة لجماعة بدوزة. وهي مدينة تعود لحقبة حانون القرطاجي الذي قام برحلته في القرن 5 قبل الميلاد ليحل القرطاجيون بالمنطقة التي بنوا فيها معبدهم “بوسيدون” إله البحر والعواصف حسب معتقداتهم، وهو إله مرتبط بالأساطير اليونانية، الأمر الذي يُضيف تأثير الحضارة الإغريقية على تاريخ مدينة آسفي. هذا المعطى يفيد أن أهل آسفي من أقدم الشعوب التي مارست الصيد البحري ولا زالت معروفة بهذه الحرفة حتى وقتنا الراهن.
المكانة المتميزة والتاريخية لمدينة آسفي جعلت مؤسس علم الإجتماع ابن خلدون يتطرق إليها في مؤلفاته ويصفها ب “حاضرة بحر المحيط” وهو تعبير إذا وضعناه في سياقه التاريخي فإنه يعكس مكانة مدينة في مصاف المدن العالمية آنذاك.
مدينة آسفي لا تعكس غِنى الحضارات التي عرفها تاريخ المملكة المغربية فحسب، بل هي مدينة تغنت بهذا الموروث الثقافي وأبدعت فيه ليعم تأثيرها الموسِيقِي أرجاء المملكة الشريفة. لقد استقبلت المدينة بكرم كبير هجرة العائلات من الأندلس وورثت عنهم، إلى جانب العمران الأندلسي، موسيقى الآلة الأندلسية التي ذاع صيتها ليتجاوز حدود الوطن، بل أصبح التراث الأندلسي رافدا من روافد الهوية الوطنية للمغاربة. وذِكر اسم “محمد باجدوب” وما اكتسبه من شهرة في الموسيقى الأندلسية يغنينا عن أي تفصيل في هذا الموضوع.
إلى جانب الموسيقى الأندلسية، نذكر كذلك فن العيطة الذي يُعتبر فنّاً لصيقا بتاريخ المدينة ومرتبطا بأحداث تاريخية عرفتها نهاية القرن 19 حين كانت منطقة عبدة تحت رحمة القايد “عيسى بن عمر” انطلاقا من قصبته التي ما زالت أطلالها قائمة شمال شرق المدينة. كما أن العيطة وهو مصطلح مأخوذ من “العياط”، لعِبت دورا في مقاومة الإستعمار وتعبئة المقاومين. هكذا إذا صارت آسفي عاصمة فن العيطة في المغرب. يقول سيدي عبد الرحمان المجدوب : ” عَيَّطْتْ عِيطَة حْنِينَة…فْيَّقْتْ مَنْ كَانْ نَايْمْ…فَاقُوا قْلُوبْ المْحَنَّة…وْنْعْسُوا قْلُوبْ البْهَايْمْ”، ولا يسعنا إلا أن نُنادي قلوب المحنة كما قال سيدي عبد الرحمان المجدوب لنلفت أنظار المسؤولين في هذا البلد، أن هناك مدينة تنتظر من يلتفت إليها، يدرك قيمتها، يستشعر العار الذي خلفه نكران تاريخها وتبخيس قيمتها، لتجنيد إمكانات الدولة لنفض غبار الإهمال عن مدينة اسمها آسفي، ليعود التاريخ إلى موضعه الأصلي، وتشهد المدينة الطفرة التي تستحقها.
وإذا كان قدر المدينة أن تذوق مرارة النسيان، وتعاني من سياسات الإهمال، وتستضيف معامل وصناعات تترك للمدينة عوامل التلوث وتُصدر مداخيل الضرائب لمدن أخرى، فإن تاريخ المدينة لا يتأثر لا بالنسيان ولا بسياسة الإهمال ولا بالملوثات، لأن هذا التاريخ هو جزء من تاريخ المملكة الشريفة، وهو كذلك ذاكرة المدينة التي ستبقى شامخة وصامدة إلى أن يبزغ القمر لينجلي الظلام ويشرق يوم جديد تنبعث فيه المدينة من جديد.
لا يمكن إنكار الطفرة الصناعية التي عرفتها المدينة بإنشاء وحدات صناعية كبرى استفادت المدينة من خلق فرص شغل لشبابها. وبعيدا عن نقاش التلوث الذي تتسبب فيه هذه الوحدات الصناعية التي تبقى فخر الصناعة المغربية، وإن كان قدر آسفي أن تحتضن الجزء الأوفر من هذه الصناعات… بعيدا عن النقاش البيئي، نُشير إلى أن أغلب المدن تعرف تطورا ملموسا لتجميل مداخلها لكون السائح يأخذ تصوره الخاص عن المدينة من أول لقائه بها أي المدخل الرئيسي. لكن مدينة آسفي تظل بعيدة عن هذه الدينامية التي تعرفها جل المدن المغربية. ومن المفارقات العجيبة والغريبة أن مداخل المدينة التي تعرف حالة من الإهمال تُبكي القلوب وتُدمع العيون، تتواجد بكل مدخل إحدى الصناعات الكبرى القائمة في المدينة. ونذكر المدخل الجنوبي الذي يمر بمعمل الفوسفاط (ماروك شيمي)، والمدخل الشمالي الشرقي الذي يتواجد به معمل الجبص التابع لوحدة من أكبر وحدات الإسمنت في البلاد. لو كانت المدينة تحظى بقسط ضئيل من الإهتمام، لَتَمَّ إرغام تلك الوحدات الصناعية على إعادة تأهيل المحيط العمراني التابع لمصناعها، وإقامة مناطق خضراء في ربوع المدينة لتتمكن رئة آسفي من مقاومة قدرها في الصناعات الملوثة. وهكذا ستكون المدينة قد استفادت من تأهيل مداخلها ليجد السائح كما الزائر مداخل مدينة تستقبله بشوارع عريضة ونظيفة، وبأشجار النخيل تصطف كأنها تؤدي له تحية الاستقبال الذي يليق بتاريخ آسفي. هذا أضعف الإيمان بخصوص مدينة ضاربة جدورها في التاريخ، وذلك في انتظار نهضة شاملة بكل مرافق المدينة ومآثرها وأحيائها. كبر ال
إذا كانت هذه هي حقيقة مدينة آسفي، وإذا كان تاريخها يشهد عن مدينة لها قيمتها الكبيرة ومكانتها العظيمة، فإن واقعها الحالي بعيد كل البعد عن مكانتها الحقيقية. لذلك نقول إن آسفي مدينة تبحث عن ذاتها بالرجوع إلى تاريخها حتى يكون أي نهوض عمراني في المستقبل، يعكس قيمة المدينة التاريخية بعيدا عن الأشغال الجزئية التي لا تليق بمدينة تعتبر أقدم تجمع عمراني في المملكة المغربية. هكذا يمكننا أن نتصالح مع مدينة أبعدها النسيان عن تاريخها ومكانتها. المدينة التي تعشق الألحان الأندلسية وأبدعت في هذا الفن الموسيقي، لا نريدها مدينة تعزف على أوتار الماضي، وإنما نطمح إلى أن تكون مدينة الفن تعزف على أوتار الحاضر ولحن المستقبل.
وحين يتحقق هذا الحلم “المسفيوي”، ستستعيد المملكة الشريفة جزءا معتبرا من تاريخها العريق، وستكون آسفي في مصاف المدن الكبرى في المملكة المغربية، وسيبلغ إشعاعها أرجاء الوطن ويمتد لرحابة العالم ولأزمنة التاريخ.