“مدونة الأسرة”.. رحمة السلطة التقديرية للقاضي
هوية بريس – د.خالد الصمدي
من المواضيع المثيرة للجدل في تعديل مدونة الأسرة، ترك مساحة تقديرية لسلطة القاضي لملاءمة الأحكام مع الاحوال المختلفة والمتغيرة مما يعكس مرونة التشريع حتى يستجيب لأحوال الناس فيرفع تحدياتهم ويحل قضاياهم.
وقد كان للشارع الحكيم سباقا منذ بداية التنزيل الى إعطاء مساحة من السلطة التقديرية للسادة القضاة حتى في تطبيق العقوبات ذات الصلة بالحدود الشرعية الثابتة بنصوص قطعية.
حين قال رسول صلى بعد نزول العقوبات المقدرة “ادرؤوا الحدود بالشبهات” فترك للقاضي مساحة الاجتهاد في التنزيل، وهذا بالضبط ما فعله الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي لم يطبق حد السرقة في عام الرمادة أي المجاعة عملا بهذا الحديث الشريف الذي يوضح كيفية التنزيل، دون السعي إلى التعطيل.
فهذا الحديث الشريف، هو الذي جعل تطبيق هذه العقوبات في نطاق محدود، لانه أوكل تنزيلها لتقدير القاضي العادل الذي ينظر في إصدار الحكم الى أقوال المتهم ودفوعاته أولا، كما ينظر في النصوص ذات الصلة بالنازلة والتي تتضمن شروطا او موانع، كما ينظر في القضية موضوع النازلة وأحوالها وسياقاتها الاجتماعية والاقتصادية، والمقادير ذات الصلة بها.
وكل ذلك محل تقدير نسبي يصعب معه الوصول إلى القطع الموجب لتطبيق الحد، لأنه بمنطوق الحديث الشريف الموجه للقضاة فإن مجرد ورود شبهة براءة بسيطة ينتفي معها تطبيق الحد الشرعي، مع إمكانية اللجوء إلى عقوبات بديلة حسب كل حالة.
وبناء على هذا المنهج في التنزيل لم تطبق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عصر الصحابة رضوان الله عليهم تلكم الحدود إلا في حالات محدودة معدودة، في مقابل الاستتباب التام للامن واطمئنان الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، “‘فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” فكان في السلطة التقديرية للقاضي رحمة وعلاج.
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القاضي الامام، يعطي للمعترف بالذنب مهلة للتفكير حتى يهدأ روعه وربما يتراجع عن اعترافه، فكان يقول للمعترف بجريمة الزنا مثلا “انظر لعلك قبلت، لعلك لامست” حتى يدرأ عنه الحد إذا ما توفرت الشبهة، والنماذج في ذلك كثيرة في أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحتاج الى دراسة لبيان الرحمة في قضائه صلى الله عليه وسلم، بالموازاة مع حرصه على الحق.
وهكذا يظهر أن درء الحدود بالشبهات وترك السلطة التقديرية للقاضي في ذلك فيه رحمة بالإضافة إلى حماية الحقوق، وهو ما جعل نص المدونة الحالية يترك مساحة للسلطة التقديرية للقاضي في بعض القضايا الاجتماعية التي لا يمكن أن تعالج بنصوص مغلقة، مع الدعوة إلى توفير الشروط والإمكانات اللازمة لمساعدة القضاء على أداء مهمته النبيلة.
وهكذا يظهر أن القصد من نظام العقوبات في الإسلام بعد توفير شروط الكرامة الانسانية بعدل وإنصاف.
هو حماية حقوق الإنسان من كل إتلاف حتى تستقر الحياة، لذلك قال تعالى “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون” صدق الله العظيم.
هذا في الوقت الذي خرج فيه السامري وأزلامه يدعون إلى إغلاق الباب أمام أي سلطة تقديرية للسادة القضاة لأنهم في تقديرهم غير متشبعين بثقافة حقوق الإنسان.