فرنسا المصالح وفرنسا الحمل الوديع
هوية بريس – سعيد الغماز
صانع الديبلوماسي الأمريكية، والوزير السابق للولايات المتحدة الأمريكية، الراحل هنري كسينجر يقول: إن العلاقات الدولية مبنية على القوة، وكل دول تأخذ من النظام الدولي بمقدار قوتها. هذه المقولة، تنطبق بالحرف والفاصلة، على زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمملكة المغربية.
فبعد ثلاث سنوات من الجفاء، بلغت في بعض الفترات مستوى التراشق الكلامي، قام الرئيس الفرنسي بزيارة تاريخية للمملكة المغربية. وأتت هذه الزيارة بعد الخطاب الملكي السامي والصارم، حين اعتبر جلالته أن الصحراء المغربية، هي النظارة التي ينظر بها المغرب لعلاقاته الخارجية.
إن اعتراف الرئيس الفرنسي بسيادة المغرب على صحرائه، وقيامه بتأكيد ذلك خلال خطابه أمام نواب الأمة، ليس انقلابا على مواقف فرنسا السابقة، وإنما هو تتويج لمسار بناه المغرب منذ 2017. فخلال جولة العاهل المغربي في افريقيا، وتخليه عن سياسة الكرسي الفارغ في منظمة الاتحاد الافريقي، شرعت المملكة المغربية بالقيادة الحكيمة لجلالة الملك، في بناء نهج جديد، هدفه بناء قوة مغربية في محيطها الإقليمي وعمقها الإفريقي.
نهج جديد يروم الدفاع عن وحدة المغرب الترابية، بتطوير الديبلوماسية الخارجية، وبسلاح المشاريع الاقتصادية الكبرى. كان المغرب في هذه المرحلة، يوسع علاقاته حتى مع الدول الإفريقية التي تعترف بالجمهورية الوهمية، غاضا الطرف عن هذا الأمر، وموجها نظره لما سيقوم به مستقبلا.
وعلى الصعيد الدولي، شرع المغرب في تنويع شراكاته مع القوى الكبرى في العالم: الصين، روسيا، الهند، بريطانيا، إلى جانب تعزيز علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية. حسبه في ذلك، استعمال ورقة المنافسة الدولية، لتعزيز موقعه الدولي.
هذا التوجه الجديد الذي عمل المغرب على بنائه، لبنة لبنة، وبصبر وثبات وتأني، أثمر بلدا خلق قوة أصبحت تشكل قوة إقليمية، وفرض نفسه كبوابة للاستثمار في إفريقيا، والتجارة مع أوروبا. كما أن البنية التحتية التي أصبح يتوفر عليها المغرب، جعلته ورقة رابحة لكل دولة تبحث عن منافذ استثمارية، لتتوسع في افريقيا وتستفيد من القرب من أوروبا.
حين نجح المغرب في خطته التي دشنها في 2017، تفتقت حكمة جلالة الملك، بأن الوقت حان لطي ملف وحدته الترابية، والدخول في مرحلة جديدة، عنوانها الانخراط الكلي في الاقتصاد العالمي، وتسريع وثيرة المشاريع الكبرى، دون الإكراه المُعَرْقِل لنموذجه التنموي المتمثل في وصراعه حول وحدته الترابية.
فأعلن المغرب، بكل ثقة في قدراته، بأن المملكة المغربية لا تتفاوض على صحرائها، وأن الأمر يتعلق فقط بنزاع إقليمي مع الجزائر. وتوج المغرب هذه المرحلة الجديدة، بخطاب 20 غشت 2022 الذي قال فيه جلالة الملك، بوضوح ما بعده وضوح: “أوجه رسالة واضحة للجميع: إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به الصداقات، ونجاعة الشَّراكات”. وكان ذلك تتويجا لنجاح خطة المغرب، في الطي النهائي لملف الصحراء.
هنا ستدرك فرنسا ماكرون، أن الواقع الجيو-سياسي في شمال وغرب إفريقيا قد تغير، وأن المغرب “ولاَّ كيلعب كبير”. فرنسا التي كانت تستفيد من غباء النظام العسكري في الجزائر، وتلعب على وتر الصراع بين المغرب والجزائر، أدركت أن استدامت هذا الصراع لم يعد ممكنا، بعد ما حققه المغرب. رغم ذلك لعب ماكرون ورقته الأخيرة، فقام بزيارة للشقيقة الجزائر، احتضنها جنيرالات الجزائر بحفاوة تعكس الغباء المركب. وكانت تلك الزيارة مقرونة باقتراب فرنسا من الطرح الجزائري حول الصحراء المغربية، وتقليص عدد التأشيرات للمغاربة كما للجزائريين.
لكن المغرب اعتبر تلك الزيارة عادية وتخص علاقة بلدين، وأن الأمر لا يعنيه. واستمر في تطبيق استراتيجيته الجديدة بقياس الصداقة، انطلاقا من الموقف من وحدته الترابية. إنه موقف بلد واثق من نفسه ومن أهداف خطته. وحين أدركت فرنسا ماكرون أنها باقترابها من الجزائر، لن تستفيد أي شيء، وأن المصالحة مع المغرب هي ما سيحمي مصالحها، ويُعيد تواجدها في منطقة الساحل التي طُرِدت منها.
لكن المغرب كان قد حدد ثمن المصالحة في الاعتراف الصريح بسيادة المملكة المغربية على الصحراء، والدفاع عنه في مجلس الأمن الدولي، لطي الصراع الإقليمي بشكل نهائي. قبض المغرب الثمن، وقبل المصالحة.
لمن يقول إن فرنسا يمكنها أن تدير للمغرب ظهرها كما فعلت مع الجزائر، أقول إن هناك فرقا كبيرا بين زيارة الجزائر، وزيارة الرباط. زيارة الجزائر لم تكن مبنية على أي عمل قبلي، ولا أي استراتيجية مستقبلية. بل كانت مبنية على العداء الأعمى لجنيرالات الجزائر اتجاه المغرب، وهو الغباء الذي استفاد منه ماكرون. أما زيارة الرباط، فكانت تتويجا لمسار دقيق ومحدد الأهداف، اشتغل عليه ملك البلاد منذ 2017، وتتوج بواقع مفروض على فرنسا. فعلى سبيل المثال، من بين مشاريع الشركات الفرنسية، مصنع للبطاريات الكهربائية. وهو مصنع سينضاف للمصنع الصيني القائم والذي بدأ الإنتاج. إذا أرادت فرنسا لي ذراع المغرب، فالترياق موجود هو توسيع النشاط الصيني على حساب المصالح الفرنسية. إنها لعبة “نعطيك على قدر قوتك” التي أصبح يتقنها المغرب، وهو ما لم يصل إليه وعي جنيرالات قصر المرادية.
ليست فرنسا ذاك الحمل الوديع كما يريد البعض تسويقه، بعد الزيارة التاريخية للرئيس الفرنسي للرباط. وإنما هي دولة تدافع عن مصالحها من موقعها كقوة عضو في مجلس الأمن الدولي، كما أن المغرب يدافع عن مصالحه، من موقعه كقوة إقليمية ممتدة في الغرب الإفريقي ودول الساحل. وحين التقت المصالح، كانت المصالحة وكانت الزيارة.
المغرب وفرنسا يبنيان استراتيجية المستقبل للعقود الثلاثة القادمة. فهل سيتخلى جنيرالات الجزائر عن غبائهم، وتلتحق الجزائر هي الأخرى بالمستقبل؟