“ماكرون” فرنسا.. التاريخ والمكر السياسي
هوية بريس – إبراهيم الطالب
إذا أردنا أن نعطي عنوانا لخطاب ماكرون الذي وجهه إلى الأمة المغربية عبر ممثليها في البرلمان فسيكون: “المغرب وفرنسا…من لاسيل سان كلو نونبر 1955 إلى سان كلو نونبر 2024”.
وما يعطي للعنوان المختار وجاهة: هو استهلال الرئيس ماكرون باستحضار التاريخ، واعتبار زيارته جزءا من التاريخ الذي جعل المغرب وفرنسا لهما مصير واحد، لذا، وجب تحليل خطابه وإعادة قراءته بنظارات تاريخية.
ومنذ البداية لا بد أن نقر بأن زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون تكتسي أهمية بالغة بالنسبة للمغرب، وذلك لارتباطها بقضية الصحراء المغربية، التي وصلت إلى آخر مراحلها، بعد جهاد مرير وتضحيات جسام قدمها الشعب المغربي من أجل أن يستردها، ليس من جبهة البوليساريو، ولا من الجزائر، وإنما من دول أوروبا وأمريكا والعالم القوي الذي يتحكم في منظمة الأمم المتحدة التي تفرّق الشرعية على القضايا والملفات وتفصل فيها وفق سياسة تنافسية بين الدول الكبرى، التي تتقاسم النفوذ في تسيير العالم وقضاياه بمجلس الأمن.
وقد قلنا إن قضية وحدتنا الترابية قد وصلت إلى مراحلها النهائية، وذلك لكون المغرب أخيرا قد أدرك أن عليه أن يحل هذا الملف قبل أن يرسو النظام العالمي الجديد على هيئة واحدة نهائية، فالعالم اليوم يعيش حالة من التنافس الشديد بين القوى الكبرى، حيث أصبحت الصين ومن في حلفها من القوة، بحيث استطاعوا إزاحة أمريكا عن عرش قيادة العالم على أساس نظام الأحادية القطبية التي جعلتها تستفرد بقيادة العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ولعل الحرب في أوكرانيا كانت أحد مظاهر هذا الإزاحة.
وفي هذه الظروف الدولية استطاع المغرب أن يعتمد منهجية جديدة أدركها الجميع، حيث بدا واضحا لكل الأطراف التي كانت تتاجر بالقضية طيلة عقود مديدة، أنه مصمم بعزم وحزم على أن ينهي هذا الملف مهما كان الثمن، لذا أصر العاهل ملك البلاد على توجيه رسالة قوية صريحة مباشِرة للعالم أجمع وذلك في خطابه بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب، حيث قال: “أوجه رسالة واضحة للجميع: إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”.
في هذا السياق كانت زيارة رئيس فرنسا، الذي هرول لكي يسبق كل المتنافسين الباقين ليستفيد من “الصداقة” و”نجاعة الشراكات”. لذا اصطحب معه وفدا رفيع المستوى أمضى أعضاؤه مع الأطراف المغربية 22 اتفاقية ذات مستوى عالي الأهمية من الناحية الاقتصادية والثقافية.
هذه الاتفاقيات تشكل مضمون “الشراكة الاستثنائية الوطيدة” التي تحدث عنها ماكرون، والتي هي كنه وصميم الشراكة الاستراتيجية التي صرح ماكرون بأن المغرب وفرنسا سيوقعانها في نونبر خلال زيارة ملك المغرب محمد السادس في مدينة سان كلو.
ولنا أن نتأمل في اختيار العاهل ذكرى ثورة الملك والشعب، من أجل إرسال الرسالة إلى العالم، وهي الثورة التي أدت إلى مؤتمر سان كلو نونبر 1955، فالرسالة السيميائية هي أن المغرب يخاطب فرنسا ويُعلِمها -ومَن وراءها- بأنه يقوم اليوم بثورة جديدة على اتفاقية سان كلو التي حكمت الوجود الفرنسي منذ 1955 إلى اليوم، لذا أصر ماكرون بكل صفاقة على دعوة الملك إلى زيارة فرنسا في نونبر تحديدا وفي سان كلو بالضبط، بدل العاصمة باريس التي تبعد عنها بتسع كيلومترات، ففرنسا كأنها تريد أن ترسل للمغرب رسالة مفادها أننا اعترفنا بسيادتكم على أقاليمكم الصحراوية لكن لا تطمحوا إلى ضربنا بعرض الحائط والاستقلال النهائي عنا وعن ثقافتنا ومنظمتنا الفرنكوفونية، أو تفكروا في الإضرار بالمصالح الفرنسية الاقتصادية والثقافية، إننا سنعدل فقط اتفاق نوفمبر سان كلو 1955، باتفاق نوفمبر سان كلو 2024، أما المصالح الفرنسية في المغرب فستبقى محفوظة بطريقة أو بأخرى.
وبهذا يمكن اعتبار “سان كلو الثانية” إعلانا عن الانتقال من حالة التبعية التي استمرت بعد الاستقلال التوافقي المنقوص إلى حالة “الشراكة الاستثنائية الوطيدة”، وتكون الزيارة تدشينا لمرحلة ما بعد الاعتراف بمغربية الصحراء، والقطع مع مشروع الجزائر في إنشاء دولة البوليساريو تابعة لها تعطيها منفذا على الأطلسي، لكن لا تعني بحال الاستقلال عن فرنسا اقتصاديا وثقافيا.
لذا، نقول: إن كانت هذه الزيارة بالنسبة للمغرب ذات أهمية بالغة كما قلنا لأنها تضمنت اعترافا رسميا بمشروع الحكم الذاتي كحل لقضية الصحراء، فإنها بالنسبة لفرنسا ذات أهمية أبلغ وأقوى، خصوصا أن فرنسا تدرك -وهي من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن- أن العالم تغير من حيث موازين القوى، الأمر الذي جعل المغرب يحصل على حلفاء أقوياء سيأكلون من قصعة المصالح الفرنسية التي جعلت دولة الاحتلال الحفاظ عليها شرطا لمنح المغرب استقلاله في اتفاقها مع محمد الخامس وولي عهده الحسن الثاني في سان كلو 1955.
هذا الاستقلال التوافقي هو الذي يراه كثير من الباحثين من بين أهم أسباب الخلافات الكبرى التي تلت إعلان الاستقلال، وحالت دون انطلاق المغرب نحو الازدهار والتنمية الحقيقية، حيث كانت من الأسباب التي أقيلت بسببها حكومة عبد الله إبراهيم (1958-1960) والتي عملت على التحرر من قبضة حزب فرنسا آنذاك.
ففرنسا اليوم تريد أن تحافظ -بأي وجه كان- على مصالحها “التاريخية” في المغرب، والتي مكَّنتها من أن تحتل المرتبة الأولى في حجم علاقاتها التجارية الخارجية مع المغرب، أو الثانية بعد المحتل الآخر وهو إسبانيا، الأمر الذي يعني أن الاقتصاد المغربي مرتهن للاقتصاد الفرنسي، وكما يعني كذلك تبعية المغرب والمغاربة من الناحية الثقافية لها، وكل هذا ذكره ماكرون في خطابه أمام البرلمان المغربي والذي شحنه بالدلالات التاريخية العميقة لتنوب عن صريح عباراته، والتي لا تخفى توظيفاتها على من يشخصون مصلحة النظام المغربي.
إلا أن هذا ليس الهدف الوحيد بالنسبة لفرنسا من الزيارة، فقد حرص ماكرون على الإشادة بالمغرب ودوره القوي في المنطقة بالنسبة لأوروبا، حيث اعتبره بوابة تفصل -أو تصل- فرنسا والاتحاد الأوروبي عن إفريقيا، وهي إشادة لا تكتسي طابع المجاملة الديبلوماسية الصرف كعادة رؤساء الدول، بل لها دلالة سياسية واستراتيجية واقتصادية قوية وواقعية، تشي بالدور الذي يراد للمغرب أن يلعبه في عمقه الإفريقي الاستراتيجي، فلا معنى -بالنسبة لفرنسا- أن تعترف بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية، وتترك لحلفائه الفرصة للاستفادة من ثمار تسوية هذا الملف المزمن، دون أن يكون لها الحظ الأوفر من الوضع الجديد في الصحراء المغربية.
فرنسا بصفتها تملك تاريخا يستبد بثروات دول إفريقية كثيرة تنضوي تحت ما يسمى إفريقيا الفرنسية، تعيش حالة من العداء مع هذه الدول، اقتضتها يقظة شعوبها ورفضهم لاستمرار التبعية والاستغلال الفرنسيين، الأمر الذي يجعل تصحيح علاقتها مع المغرب بمثابة طوق نجاة لفرنسا في تسونامي الرفض الذي تعيشه في مستعمراتها الإفريقية التي طردتها من أوسع باب، لذا فهي ستحاول أن تعود إليها من خلال نافذة المغرب.
فهل سيلعب المغرب هذا الدور؟
هل سيكون في مستوى تحديات المرحلة القادمة؟؟
وما هي نقط القوة لديه؟؟
وما هي نقط ضعف؟
ما يخيف في الموضوع برمته هو أن هذه القوة التي يبدو بها المغرب، هي قوة لا تنبع من جسم مغربي قوي، فالمغرب مفلس على أغلب المستويات والقطاعات: الاقتصاد، والتعليم، والثقافة، والسياسة…
وهذا يعطينا دلالة قوية على أن قوته تنبع من حلفه مع الصهاينة اليهود (التطبيع مع الكيان الغاصب، والصهاينة النصارى (أمريكا واللوبيات المتصهينة)، وهما أبدا لن يسمحا بأن يستفيد مغرب الإسلام، مغرب المرابطين والعلويين، مغرب لا يزال دستوره يعترف بأن دين الدولة الإسلام، المغرب الذي كان قبل أن تكون لا “إسرائيل” ولا أمريكا، مغرب استطاع بالإسلام والهوية أن يحكم جزءا كبيرا من إفريقيا بالإضافة إلى إسبانيا والبرتغال.
فإذا كان المغرب يريد أن يكون في مستوى تحديات المرحلة المقبلة، فعليه الاشتغال على إصلاح ما أفسدته السياسات المتبعة خلال مرحلة الحرب العالمية على الإرهاب وتداعيات إعصار الربيع العربي، وما تخللهما من تنازلات وقرارات حكمتا سياسات تعامل المغرب مع مكوناته الأساسية، الحزبية والشعبية والسياسية، الأمر الذي نتج عنه، تدمير هائل في الجسم الحزبي بعد تحطيم الاتحاد الاشتراكي الذي رفعته مرحلة السكتة القلبية إلى الحكم في إطار التناوب الوهمي، و”تفليس” حزب العدالة والتنمية الذي أتت به إلى الحكم ضرورات تجنب إعصار الربيع العربي، وتمريغ ما تبقى من تاريخ حزب الاستقلال في التراب إبان البلوكاج والدور الخسيس الذي قدمه شباط داخل الحزب وخارجه، لإخراج العدالة والتنمين من مربع الحكم.
فبأي كائنات حزبية ستواجه دولة المغرب، كلا من أمريكا ولوبياتها و”إسرائيل” ولوبياتها واختراقاتها، فهل يكفي استعمال القوالب التكنوقراطية؟
إن التكنوقراط لا يصلحون سوى لتنفيذ الأوامر هذا إن كانوا مخلصين للهوية والدولة، وحتى لو كانوا كذلك فمن سيغطي باقي مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية ويحفظ القوة المغربية فيها من أن تصبح خادمة للصهاينة والمتربصين بالبلاد وخيراتها والعباد وعقولهم.
وما دام الاقتصاد لا يؤمن إلا بالقوة ولا يلجأ إلا لمن لديه القوة، ولما كانت الأحزاب والجماعات والتيارات الإسلامية قد تم إضعافها جميعا، فستبقى القوة عند الدول التي تشتغل في المغرب من خلال منظماتها وجمعياتها ومؤسساتها وشركاتها الكبرى، وبهذا لن يكون المغرب لا العميق (الدولة/المخزن) ولا العريض (الشعب بكل مكوناته) في مستوى مواجهة التحديات القادمة.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.