الوقاحة بربطة عنق

04 مارس 2025 17:37

هوية بريس – حميد بن خيبش

تسير الوقاحة اليوم في شتى مجالات الحياة، جنبا إلى جنب مع أسمى معاني العطاء والبذل والإنجاز. واثقة الخطى في سعيها لتأسيس بهرجة زائفة، وتفتيت المبادئ والقيم، وصياغة عقل عام ينسجم مع الصور المشوهة للواقع.

ما إن تنفك رابطة القيم حتى يصير للوقاحة خَدم، من ساسة وإعلاميين ومثقفين، تجردوا من خدمة الحقيقة التي اعتبرها الفيلسوف نيتشه أصعب أنواع الخدمات، ليتقنوا المراوغة والزئبقية، وإشغال الرأي العام بقضايا وأسئلة تضع العقل تحت رحمة الإثارة الانفعالية.

جرى تعريف الوقاحة بأنها قلة حياء وعدم امتثال للمعايير الاجتماعية. تتراوح بين السلوك الطائش وانتهاك المحظورات لتصل إلى مرتبة الجريمة الأخلاقية. وقد يكون الشخص الوقح متخفيا في زي إنسان محترم، سياسي مثلا أو أكاديمي أو أحد مشاهير الثقافة والفن، فلا يظهر وجهه الحقيقي إلا حين يوضع تحت ضغط أو اختبار؛ لذا يهتز الشارع بفعل الصدمة والذهول حين تطل الوقاحة برأسها من شرفة غير متوقعة، ويصير الفارق هشا بين السياسي والبلطجي، وبين الفنان والمهرج، وبين الإعلامي وعرائس القصب!

من أسباب فقدان الشباب المغربي للثقة في الفاعل السياسي قناعته المسبقة بأن المواقع والمقاعد محجوزة لمن يحظون بصلات القرابة والنسب، وأن انخراطه في العمل السياسي لا يغير شيئا من قواعد اللعبة وتفويت الامتيازات. إن ذاكرته تحتفظ بعشرات الوجوه الشابة التي كانت، ولايزال بعضها، عنوانا لما يمكن أن نعتبره توريثا للمهام والمسؤوليات. لكن أليس من الوقاحة أن يتحدث هؤلاء باعتبارهم صوتا ل”أولاد الشعب”؟

لكل حزب تسلسله الهرمي الذي لا تؤثر فيه كفاءة الشاب ولا انخراطه الحقيقي في صفوف البسطاء. ولعل من الوقاحة أن تملأ الأحزاب فضاءنا السمعي بخطاب الديموقراطية، بينما نخبها عاجزة عن تحقيق شيء من ذلك في نسقها الداخلي، وقوانينها وآلياتها التنظيمية التي من المفترض أن تعكس نبض المجتمع وليس نبض الزعيم الخالد.

يتولى الفاعل السياسي مسؤولية أو منصبا فينعقد لسانه وتتخشب لغته. ما لا ننكره بطبيعة الحال أن للمنصب معجمه وتراكيبه، وضوابطه التي تجعل من الكلام مسؤولية تقتضي المحاسبة، لكن أليس من الوقاحة أن ينطلق لسانه حين يغادر منصبه، فيلقي باللوم على كل شيء باستثناء مواقفه وقراراته؟

ولماذا يوهم الجميع في خرجاته وتصريحاته بأنه كان حفيظا عليما كسيدنا يوسف عليه السلام، غير أن السنين العجاف لم تمهله ليوفر حنطة للجميع؟

كتب جون جي ميرشمير مؤلفه (لماذا يكذب القادة؟) ليسعفنا في فهم الطابع المعقد للكذب في السياسة الدولية، ويلقي الضوء على التجاذب المستمر بين الأخلاق والمصلحة في الممارسة السياسية؛ لكن لم تحظ الوقاحة بمؤلف مماثل، يجد لها ما يبررها ولو على حساب العقل والمنطق!

وعلى خطى الوقاحة تسير أقلام عديدة لتفكيك رسالة الإعلام وإضعاف ثقة المواطن بمنبر يزعم خدمة الحقيقة والوضوح. فمن الخبر الزائف إلى التحليل الفج، مرورا بأشكال التلميع والتضليل، وحصر الجهد الإعلامي في الإثارة؛ تتوزع مهام عشرات الصحف والمواقع الإخبارية لتكريس حالة من الضبابية في فهم ما يجري.

صحيح أن حرية الإعلام هي أبلغ صورة للاحترام التام لحرية التعبير والرأي كمبدأ؛ لكن أمام قطاع رقمي يتطور بسرعة مذهلة، لا يكفي التصدي للشائعات والأكاذيب والمس بالخصوصية، بل يجدر الاهتمام أيضا بالوقاحة التي تقلب الحقائق، وتسمح للتفاهة بان تُسهم في تشكيل وعي الناس واهتماماتهم.

إن الفضائح ونشر الغسيل، وعرض خصوصية الأفراد كشكل من أشكل الفرجة الرقمية ليس سوى وقاحة متخفية، تهين القارئ والمشاهد الذي لازال يؤمن بالبُعد التنويري للإعلام. ذلك أن المعلومة والتحقيق والتحليل تُلزم العقل جهدا معرفيا للفهم والتفسير، مما يُسهم في نضجه وانفتاحه على القضايا والأسئلة الشائكة التي يحبل بها واقعه، أما ما تلقي به صحافة اليوم بشكل مفجع، فلا يمنح المتصفح سوى المتعة والإشباع، وتغذية طاقاته الفطرية البدائية.

وأما الفنان الذي يُفترض فيه النبل بحكم انحيازه لإنسانية الإنسان، فأشد صور وقاحته هي الانسياق مع الوضع العام، والرضوخ للقواعد الجديدة التي تُجرد الإنسان من كرامته، بل حتى الوجود من معناه وغايته.

ليس من طبيعة الفن أن يهادن الواقع بل هو مسؤول عن تجاوزه، وحث الجمهور على الانعتاق من وطأته صوب آفاق أرحب وأجمل. أما ما يجري اليوم من استثمار في الفن لتحقيق المكاسب، وتحويله إلى صناعة ترفد الاقتصاد فقد هيأ مناخا جاذبا للبساطة والرداءة، وترويج الأعمال التي لا تتطلب معرفة أو ذوقا خاصا.

في كافة مجالات الفن لم تعد هناك حاجة لأية معرفة تمهيدية، فالأغاني مجرد توليف لكلام الشارع المبتذل، والروايات يمكن كشف حبكتها ونهايتها منذ الصفحات الأولى، أما الأعمال الدرامية فتعتمد على النسخ والتكرار، والسيناريوهات البسيطة التي لا تقدم أية قيمة فنية. غير أن التركيز الشديد على “الترند” والشعبية السريعة للوجوه الفنية هيأ المجال للوقاحة والإبداع في قلة الذوق وهتك الحياء.

كانت جرأة الفن في الانتصار للإنسان ضد التهميش والقهر وسلب الكرامة، فصارت الجرأة ألفاظا وإيحاءات جنسية، وتجريفا للقيم والأخلاق. وتبلغ الوقاحة أشدها حين تتساءل الجهات الممولة لهذا الهبوط الفني عن أسباب تفشي العنف في المجتمع؟

عند إشارة المرور توقفت الراقصة فيفي عبده بسيارة مرسيدس فاخرة، وإلى جوارها كان الكاتب نجيب محفوظ على متن سيارة متهالكة. أطلقت فيفي ضحكة ساخرة وهي تُجري مقارنة بين السيارتين، فرد نجيب بهدوء: نعم، هو الفرق نفسه بين الأدب وقلة الأدب!

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
16°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة