الأجرومية لفظا ومعنى

هوية بريس – إبراهيم أيت باخة
دار نقاش هذه الأيام حول هذه المسألة؛ وليست من صميم العلم؛ لكنها مرتبطة أكثر بعلم التوثيق والتحقيق وضبط الأعلام وعناوين المؤلفات ونسبتها لأصحابها.
وكتاب (المقدمة الأجرومية)؛ من المتون العلمية التي ذاعت وانتشرت وبلغت الآفاق؛ وصاحبها هو الإمام المقرئ النحوي محمد بن محمد بن داود ابن أجروم الصنهاجي (723 هـ)؛ بهذا عرف واشتهر؛ وعلى وفق ذلك تواردت الشروح والحواشي والتعليقات والأنظام إلى يوم الناس هذا.
فهل يصح بعد كل هذا أن يرفع الباحث قلمه ليتوسع في بعض الجزئيات؛ ويدقق في بعض التفصيلات؛ ويبرز بعض المسائل الفرعية؛ ويطرح جملة إشكالات تتعلق بالكتاب وصاحبه؛ بمنهجية علمية تراعى فيها أدبيات البحث العلمي وقواعده؟
لا أحد يحول بين الباحث وهذه المقاصد العلمية التي تزكي هذه الصفة التي يحب أن يتلفع بها؛ وأن تكون شعاره ودثاره.
رجوعا إلى موضوع العنوان: هل يصح تسمية المقدمة النحوية هذه بـ(الأجرامية)؛ أو حتى (الأگرامية) بدل ما صار علما عليها وهو (الأجرومية)؟ وهل يجري ذلك على سنن البحث العلمي الذي أسلفنا ذكره؟
الجواب: أن الأمر راجع إلى مدى استجابته لتلك القواعد؛ وهو ما نستعرضه هاهنا:
ـ أولا: لم يطلق الإمام ابن أجروم على كتابه: (المقدمة الأجرومية)؛ بل هي (مقدمة في النحو)؛ أو (المقدمة النحوية)؛ فنسبها من جاء بعده إليه؛ على عادتهم في التعريف والاختصار؛ كما قالوا: (صحيح البخاري)؛ (صحيح مسلم) …؛ وكما حصل مع نظيره وسلفه الإمام أبي موسى الجزولي؛ إذ سميت (مقدمته في النحو) أو (قانونه في النحو) بـ (المقدمة الجزولية).
ثانيا: إذا كان متعلقا بنسبة الكتاب إلى اسم صاحبه؛ فإن الأمر يؤول بذلك إلى ضبط هذا الاسم (أجروم)؛ وما تتيحه المصادر والقرائن والأدلة بخصوصه.
ثالثا: بالرجوع إلى المصادر التي اعتنت بهذا الإمام وبمقدمته؛ نجد أن اسمه ضبط على أربع إطلاقات:
1ـ (آجرُّوم) بمد الهمزة؛ وجيم؛ وضم الراء المشددة؛ وهو الضبط الأكثر شيوعا وشهرة؛ وبه ضبطه شمس الدين الراعي في المستقل بالمفهومية [ص: 110]؛ والسخاوي نصا في الضوء اللامع [9/83]، والسيوطي في بغية الوعاة: [1/238]؛ وابن عنقاء المكي في غرر الدرر الوسطية [1/115]؛ وآخرون.
2ـ (أَجرُّوم) بهمزة غير ممدودة؛ وتشديد الراء المضمومة، وهو المحكي عن المؤلف نفسه وبخط يده؛ كما ذكر ابن الحاج في العقد الجوهري: [ص:95]؛ لكن لابد من الإشارة إلى أمر في هذا الذي حكي عنه؛ وهو أنه يتعلق بضبط الهمزة لا غير؛ وأما ما بعدها فغير مقصود؛ ولذلك فلا يصح ما نسبه إليه الأسمري في شرحه؛ وسليمان العيوني في شرحه أيضا؛ من أن المؤلف كان يضبط اسمه (أجرُوم)؛ بتخفيف الراء؛ وأولى من ذلك القطع مع التشديد والواو؛ وإن لم يكن كلام ابن الحاج في ذلك صريحا.
3ـ (أگروم): كذا ضبطه تاج الدين ابن مكتوم (749هـ)؛ وهو عصري ابن أجروم؛ وذلك في كتابه (التذكرة) أو (قيد الأوابد)؛ وقف عليه السيوطي بخطه؛ فقال: (رأيت بخط ابن مكتوم في تذكرته، فقال: محمد بن محمد الصنهاجي أبو عبد الله من أهل فاس، يعرف بأكروم) [بغية الوعاة: 1/238]؛ ولعل هذا أقدم ضبط نقل إلينا؛ خاصة أنه نطق العامة من أهل فاس.
والكاف في هذا الضبط مائلة إلى الجيم المصرية؛ لذلك كتبها العرب قديما بالجيم والقاف؛ وقد أشار غير واحد إلى هذا؛ قال النبتيتي الحنفي في فتح رب البرية في حل شرح الأجرومية: (والجيم المضمومة بربرية بين الجيم والقاف؛ وبعضهم يقول بالقاف؛ وبعضهم يقول بالجيم) [مخطوط: لوحة:7].
4ـ (أجرَّام) بهمزة غير ممدودة؛ وراء مشددة بعدها ألف؛ ويهذا ضبطه علي بن سليمان الدمناتي البوجمعاوي في فهرسته؛ فقال (وأما الأجرامية بفتح همز فضم جيم؛ فشد راء؛ فألف؛ فميم، نسب لأجرام وهو الرجل الصالح بالبربرية)، وذهب إلى تخطئة من ضبطه بغيره فقال: (ومن ضبطه بغير ذلك؛ فلعدم علمه بذلك اللسان) [الفهرسة: ص53].
وكذلك كتب الدكتور المهدي السعيدي إظهارا لهذا الضبط فقال: (رأيت كثيرا من المشارقة يضبطون اسم الأجرومية: الآجرومية؛ بالمد؛ وكذلك اسم المنسوبة إليه: ابن أجروم: آجروم؛ وهو غلط محض؛ فأصل الكلمة أمازيغي بجيم معقودة: أجرَّام… وتحولت إلى أجروم واشتهرت).
وأما ما ذكره ابن عنقاء من حذف الهمزة؛ فعل عنى بذلك قولهم في النسبة: (الجرومية)؛ وهذا سائغ موجود؛ من ذلك صنيع ابن الراعي: (المستقل بالمفهومية في حل ألفاظ الجرومية).
بعض استعراض مذاهب العلماء واجتهاداتهم في ضبط اسم هذا العلم؛ فلعله من الأولى ضبطها بـ(الأجرومية) من غير مد؛ موافقة لما صار علما عليها؛ ومراعاة لما يقتضيه بعض التصرف بالتعريب؛ ونفورا من الإغراب؛ خاصة أن اللحن اليسير مغتفر في الأعلام الأعجمية.
لكن لو اجتهد باحث؛ أو ضبط محقق اسم المقدمة بالأجرامية أو الأگرامية؛ فليس ذلك خروجا عن سنن العلماء والنقاد والمحققين؛ سيما والبحث التاريخي واللساني يسمحان بذلك؛ وفي أقوال العلماء والشراح فسحة واختلاف.
والاختلاف في ضبط عناوين المصنفات ومؤلفيها أكبر من أن يشار إليه؛ حتى غدا فنا مقصودا بالتأليف؛ وكم سال مداد المحققين في ضبط (البيان والتبين) و(بداية المجتهد) و(أسد الغابة) و(إعلام الموقعين)؛ وفي ضبط (راهويه) و(مغلطاي) و(البطليوسي) و(ابن سيده)؛ و(المازري) و(النواوي) و(السيوطي) وغيرهم.
وأذكر أن الإمام الجزولي أبا موسى قد ضبطه ابن خلكان ضبطا مختلفا استناد على موافقة لغة القبيلة التي ينتسب إليها؛ فقال: (والجزولي: بضم الجيم والزاي وسكون الواو وبعدها لام، هذه النسبة إلى جزولة، ويقال لها أيضاً گزولة -بالكاف- وهي بطن من البربر) [الوفيات: 3/490].
ولعلي أختم كلامي بإشارة متعلقة بمعنى (أجروم = أكرام)؛ فما ذكره غالب مترجميه من أنها تعني (الفقير الصوفي) غير دقيق؛ بل هو من التجوز والتوسع؛ والأضبط في ذلك أنه (الرجل الصالح أو الولي)؛ وقد انتبه الدمناتي إلى ذلك -وهو عليم حري بهذه الدقة- فقال: (وهو الرجل الصالح بالبربرية) [الفهرسة:53].
ولما ذكر ابن عنقاء أن معناها الفقير الصوفي؛ عقب فقال: (لكني لم أجد البرابرة يعرفون ذلك) [غرر الدرر الوسيطية:115]؛ فإما أن يكون لما ذكرناه؛ أو لأنه عنى نطقها بالجيم؛ وهو ما لا يعرف الأمازيغ؛ أو لأنه سأل من لا يحسن لغتهم.
وأخيرا فإن البحث في هذه الجزئيات يفتح الآفاق أمام طلاب العلم؛ ويزيدهم متعة ونهما؛ ويرتقي به ذرى الفهم والإدراك؛ ويضفي على محراب العلم هيبة وجلالا؛ شرط ألا يتجاوز بها الباحث قدرها ومقامها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.



