“انفصال القبائل”.. حين يلتقي تفكيك الجغرافيا بخراب البوصلة

15 ديسمبر 2025 21:58

هوية بريس – متابعات

لم يكن الإعلان الذي أطلقه فرحات مهني من باريس بشأن ما أسماه “الدولة الفيدرالية للقبائل” حدثًا عابرًا أو مبادرة معزولة في مسار سياسي شخصي، بل يندرج ـ وفق تحليل الباحث في علم الاجتماع ورئيس المرصد المغربي لمناهضة التطبيع أحمد ويحمان ـ ضمن مشروع تفكيكي قديم يتجدّد بأدوات جديدة، ويستهدف الدول الوطنية من داخلها عبر اللعب على وتر الهويات الفرعية.


ويؤكد ويحمان أن منطق الهيمنة في صيغته المعاصرة لم يعد يعتمد فقط على الاحتلال المباشر، بل على إعادة هندسة المجتمعات على أسس إثنية وعرقية وثقافية، بما يفتح الباب أمام التفكك الداخلي ويُضعف مناعة الدولة، تمهيدًا لاختراقها سياسيًا واستراتيجيًا.

مشاريع التقسيم… تاريخ يتكرر بلا صدفة

يربط الكاتب بين الحراك الانفصالي الحالي وتوقيت إقليمي ودولي بالغ الدلالة، يتزامن مع عودة خطاب “التقسيم” بوصفه حلًا إنسانيًا لأزمات صُنعت أساسًا بفعل التدخلات الخارجية، كما هو الحال في السودان، حيث انتهى مشروع التقسيم إلى واقع دموي لا يزال يلقي بظلاله على المنطقة.

ويستحضر ويحمان معطيات تاريخية تعود إلى سنة 1966، حين جرى التخطيط لتقسيم السودان، في سياق أوسع كانت فيه الخرائط تُرسم في الخفاء، قبل أن تتحول لاحقًا إلى وقائع سياسية.

وفي الفترة نفسها، يشير إلى تكليف شخصيات صهيونية بالإشراف على مشاريع تقسيم في منطقة المغرب الكبير على أسس عرقية، ما يفسر ـ يضيف ويحمان ـ نشأة كيانات “ثقافية” في أوروبا لم تكن بريئة من الخلفيات الإيديولوجية والسياسية.

من باريس إلى الكنيست… مسار يكشف الخلفيات

أحد أبرز العناصر التي يتوقف عندها المقال هو إعلان فرحات مهني سنة 2012 ما سماه “دولة القبائل” من داخل الكنيست الصهيوني، إلى جانب مسؤولين في المؤسسة التشريعية للكيان الصهيوني.

ويعتبر ويحمان هذه الواقعة وثيقة سياسية لا يمكن فصلها عن طبيعة المشروع الانفصالي نفسه.

فطلب الشرعية من مؤسسة تُمثل كيانًا استيطانيًا قائمًا على الاحتلال، يسقط ـ وفق التحليل ـ أي ادعاء بالتحرر أو الديمقراطية، ويكشف عن تلازم بنيوي بين خطاب الانفصال ومسار التطبيع، حيث يتحول الانفصال إلى بوابة، ويغدو التطبيع مآلًا منطقيًا له.

الهوية حين تُستعمل ضد الوطن

ينبه الكاتب إلى أن الخطاب الانفصالي غالبًا ما يتوسل باللغة والثقافة والهوية لتبرير مشاريعه، غير أن التجارب التاريخية تُظهر أن الحقوق الثقافية لا تتحقق خارج الأوطان ولا عبر تفكيكها، بل داخل إطار الدولة الوطنية الجامعة.

ويشدد على أن القبائل ليست نقيض الجزائر، كما أن الجزائر ليست سجنًا للقبائل، بل يجمع بينهما تاريخ مشترك من المقاومة ضد الاستعمار، وذاكرة وطنية امتزجت فيها التضحيات دون تمييز عرقي أو ثقافي.

ومن هذا المنطلق يطرح ويحمان معادلة واضحة: الجزائر في قبائلها، والقبائل في جزائرها، تمامًا كما يُقال إن المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها.

حين يلتقي الانفصال بالتطبيع

يرى ويحمان أن تقاطع الأطروحات الانفصالية مع شبكات الضغط الصهيونية في الغرب ليس أمرًا اعتباطيًا، بل يعكس جوهر المشروع الصهيوني القائم على تفتيت المحيط وتحويل الدول إلى كيانات ضعيفة، تبحث عن الحماية خارج حدودها، وتفقد بوصلتها السيادية.

ولهذا ـ يضيف الكاتب ـ تُفتح المنابر الإعلامية الغربية أمام بعض الأصوات الانفصالية، في الوقت الذي يُضيَّق فيه على خطاب الوحدة والمقاومة والسيادة، في مفارقة تكشف ازدواجية المعايير وازدواجية “الخطاب الحقوقي” المستعمل عند الحاجة فقط.

خراب واحد مهما اختلفت الرايات

في خاتمة مقاله، يؤكد أحمد ويحمان أن النقاش حول هذه القضايا، رغم اختلاف المقاربات، يلتقي عند حقيقة مركزية: تحويل الهويات الجزئية إلى مشاريع سيادية منفصلة يفتح الباب أمام الاختراق الخارجي، ويخدم منطق التفكيك لا التحرر.

فالانفصال ـ كما يخلص ـ يُفكك الجغرافيا، والتطبيع يُفكك البوصلة، والنتيجة واحدة: خراب واحد مهما اختلفت الشعارات والرايات. ومن يبحث عن “دولة” في الكنيست الصهيوني، لن يجد ـ في نهاية المطاف ـ إلا نفسه خارج التاريخ.

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. الخطاب الذي يُحمِّل “المؤامرة الخارجية” مسؤولية كل تعبير يتجاهل أصل المشكلة: التمييز العرقي-الثقافي بدأ مباشرة بعد الاستقلال حين تبنّت الدول الشمال-إفريقية نموذج دولة أحادية الهوية، فتم إنكار الأصلي لغةً وثقافةً وتاريخًا، تحويل ما هو أصيل إلى “مسألة” أمنية. هذا الإقصاء هو الذي صنع القطيعة والاحتقان، ثم جرى لاحقًا توظيفه لتبرير التخوين واتهام المطالب بالانفصال أو التطبيع. وبذلك ينقلب المنطق رأسًا على عقب: بدل مساءلة الدولة عن فشلها في إدارة التعدد، يُدان الضحية ويُقدَّم الإنكار كحماية للوحدة، مع أن التاريخ يثبت أن الوحدة التي لا تعترف بهوياتها الداخلية و الاصيلة تهيّئ شروط التفكك بدل أن تمنعه.
    في العمق، لا يدافع المقال عن “الواقع”، بل عن توازن نفسي هشّ لا يحتمل مساءلة الذاكرة ولا الاعتراف بأن ما غاب لم يغب اختيارًا بل إقصاء.

التعليق


حالة الطقس
15°
16°
الخميس
15°
الجمعة
15°
السبت
16°
أحد

كاريكاتير

حديث الصورة