مغناطيس الخوف وصناعة الوهم الطبي

مغناطيس الخوف وصناعة الوهم الطبي
هوية بريس – عبد الإله الرضواني
في عصر تحولت فيه شاشات الهواتف الى عيادات افتراضية مزيفة، والبثوث المباشرة (لايفات) على مواقع التواصل الاجتماعي الى خطب دينية للكذب الصحي، برز جيل من المؤثرين المحتالين في مجال الصحة لا يكتفون بصناعة محتوى ترفيهي رخيص، بل يتسلقون منصاتهم كحراس كاذبين للحقيقة المحرمة، وانبياء صغار يرددون شعار المحتالين: “هم يكذبون عليك… وانا الوحيد الذي يجرؤ على قول الحق”. هؤلاء النصابين لا يبيعون وصفات غذائية ومكملات فحسب، بل يبيعون رؤية كاملة للعالم مبنية على الخداع: عالم تظهر فيه الحكومات وشركات الادوية والجامعات والمختبرات كأطراف في مؤامرة كبرى مصطنعة لابقائك مريضا ضعيفا، بينما يتقدم المؤثر الفرد ببطولته الوهمية كبديل سحري ومنقذ من الضلال. هذه الرواية ليست عرضية، بل تلاعب نفسي مدروس يستغل أعماق مخاوف المواطنين، الخوف من المرض والخيانة والعجز، ليخفي المعلومات المضللة تحت قناع القوة والتمكين، وفي النهاية يحصد امواله بالباطل.
أسطورة الشهيد المعرفي
تقوم هذه الرواية المضلِّلة على صناعة صورة «الضحية المنفية»: مؤثّر يدّعي أنه مُنع من الكلام وتعرّض للهجوم فقط لأنه يقول الحقيقة، بينما هو في الواقع شخص يبيع الوهم لجمع المال. أي اعتراض علمي أو نقاش مبني على الأدلة يُقدَّم للناس على أنه دليل على مؤامرة لإسكاته، بدل أن يُفهم كجزء طبيعي من طريقة عمل العلم. بل إن التحكيم الأكاديمي، الذي وُجد أصلاً لاكتشاف الأخطاء وتصحيحها، يُصوَّر كأداة قمع تستخدمها «المنظومة» لإسكات من يكشفون الحقيقة. المشكلة هنا أعمق من مجرد تضليل إعلامي؛ فهي تنقل الناس من شك صحي يدفع إلى التفكير، إلى شك خطير يقول إن لا شيء يمكن الوثوق به. والحقيقة أن العلم لا يدّعي الكمال، بل يقوم على التجربة، والمراجعة، وتصحيح الأخطاء. رفض هذا المنهج لا يحرّر الناس، بل يتركهم فريسة سهلة لمن يسرقون ثقتهم وأموالهم باسم «الحقيقة الخفية».
التغذية: كيمياء الرعب المصطنع لسرقة جيوبكم
في مجال التغذية يدعي هؤلاء المحتالون ان السكر يسبب السرطان والزيوت النباتية سم خفي والطعام العصري مصمم خصيصا ليمرضك، وكلهم يبيعون مكملاتهم الطبيعية بأسعار فاحشة دون دليل. غالبا ما تبدأ ادعاءاتهم من حقائق جزئية، مثل استهلاك بعض خلايا السرطان للجلوكوز بمعدل اعلى او أخطار الافراط في الاطعمة المعالجة، لكنها تبالغ فيها وتسيء تفسيرها لخلق سرد خداع واسع، وفي الختام يدفعونكم لشراء منتجاتهم غير المنظمة التي لا تفيد، بل قد تضر. على سبيل المثال صحيح ان بعض خلايا السرطان تستهلك الجلوكوز بكثافة اعلى (ظاهرة واربرغ المعروفة) لكن هذا لا يبرر الغاء الكربوهيدرات كما يوصي هؤلاء اللصوص؛ في الواقع قد يؤدي ذلك الى تجويع المريض نفسه ويعرضه لنقص الطاقة وضعف المناعة وتدهور حالة المريض. تعقيد الكيمياء الحيوية لا يتسامح مع عالم التواصل حيث تزدهر عباراتهم البسيطة والمناشدات العاطفية بدل الفهم المعمق الذي يتطلب تجارب مخبرية ودراسات سريرية. هدف الرعب المصطنع الذي يصنعه هؤلاء المحتالون هو أولا وأخيرا بيع برامج ومكملات وخلطات لا يوجد دليل على فعاليتها.
الطب واللقاحات: قصة فردية ضد احصائية للاحتيال
في مجال الطب واللقاحات، يعتمد هؤلاء المحتالون على حيلة بسيطة: يلتقطون حالات نادرة لآثار جانبية، ثم يضخّمونها ويعرضونها وكأنها دليل قاطع على أن النظام الطبي كله فاسد. فجأة تصبح قصة فرد واحد أقوى من دراسات إحصائية شملت ملايين الناس وأثبتت أمان اللقاحات. والهدف في النهاية ليس حماية الصحة، بل تخويف الناس حتى يبيعوا لهم بدائلهم الخاصة. هذا الأسلوب يقوم على تحيّز خطير؛ فالطب لا يبحث عن الكمال، بل يوازن دائمًا بين المخاطر والفوائد. كل علاج، من قرص الأسبرين إلى أخطر العمليات الجراحية، يحمل نسبة من الخطر. لكن حين تُقدَّم القصص العاطفية على الأدلة العلمية، يتحول الشك المشروع إلى أداة احتيال، تُستخدم لسلب ثقة المرضى وأموالهم.
وهم الخبراء الذاتيين: ثقة المحتالين مقابل كفاءة العلماء
ما يجعل الظاهرة مقلقة بشكل خاص ان أبرز هؤلاء المؤثرين لا يملكون اي تدريب أكاديمي رسمي في المواضيع التي يناقشونها؛ يعتمدون على تعليم ذاتي او شهادات بديلة غير موثوقة لا تعادل الخبرة الحقيقية، والثقة ليست بديلا عن الكفاءة، بل غطاء للاحتيال. يرفضون المؤهلات الاكاديمية، ويقدمون أنفسهم كسلطة وحيدة على الصحة والعلم والمجتمع، مقدّمين اجابات مبسطة لمشاكل معقدة متجاهلين سنين من المعرفة الجماعية، وكلهم يهدف الى بيع منتجاتهم وأكل أموال المرضى بالباطل. الواقع ان عملية العلم الحديث تتطلب سنين من التدريب والتعاون لأن العالم معقد جدا؛ هذا ليس تفاخرا، بل اعتراف بصعوبة فهمه، بينما هؤلاء المحتالون يسرقون ثقة المتابعين بكلام منمق، فارغ، ولا أساس علمي له.
التفريق الزائف: الطبيعي مقدس والصناعي شيطان
أحد أخطر الاخطاء الفلسفية التي يروج لها هؤلاء المحتالون هو ايهام المتابعين بان كل طبيعي نافع بالضرورة وكل صناعي ضار بطبعه. هذه فكرة تمثل مغالطة منطقية تعرف بمغالطة الاحتكام الى الطبيعة، وغالبا تستعمل للاحتيال على المرضى واقناعهم بمعرفة خفية لا يدركها الآخرون مقابل دفع اموال طائلة. في الواقع الحقائق العلمية لا تحتمل اللبس: السيانيد وسم الافعى والعقرب مواد طبيعية لكنها قاتلة، بينما الانسولين المصنع ينقذ حياة ملايين مرضى السكري يوميا؛ معيار السلامة او الفائدة لا يقاس بكون الشيء طبيعيا او صناعيا، بل بآثاره في اختبارات سريرية على الاف الاشخاص. يستغل بعض المؤثرين هذه المغالطة لتسويق منتجات أو أنماط حياة تُوصَف بأنها طبيعية، في حين أن الطب الحديث والعلاجات الدوائية لا تتعارض مع الطبيعة، بل تستند إلى فهم آلياتها وتتدخل عند إخفاقها. الانبهار بما هو طبيعي لا يعني الجودة، والإذعان لهذه الفكرة الساذجة ليس إلا استسلامًا لأوهام تسويقية تُبنى على حساب وعي المرضى وصحتهم.
الخوف: اختصار للمعرفة واداة السرقة
يشكّل الخوف أحد أهم أسباب انتشار هؤلاء المحتالين وجاذبيتهم لدى الجمهور، لأنه أداة نفسية فعّالة يسهل استغلالها. فعندما يشعر الإنسان بالخوف، يضيق مجال انتباهه، ويضعف تفكيره المنطقي، ويصبح أكثر اندفاعًا وأقل قدرة على التحليل والمقارنة. وتُظهر أبحاث علوم الأعصاب أن الخوف يفعّل ما يُعرف باستجابة «القتال أو الهرب»، وهي آلية بدائية في الدماغ صُمّمت للنجاة السريعة، لكنها في الوقت نفسه تُعطّل التفكير النقدي الهادئ. في هذه الحالة، يبحث الشخص عن أي مخرج سريع، حتى لو كان غير منطقي أو غير مثبت علميًا.
يدرك هؤلاء المحتالون هذه الحقيقة جيدًا، لذلك يملؤون خطابهم بقصص الرعب عن اللقاحات، والأدوية، والغذاء «المسموم»، والطب «القاتل»، ويقدّمون أنفسهم كملاذ أخير قبل الكارثة. الخوف هنا ليس عرضًا جانبيًا، بل وسيلة تسويق مدروسة تهدف إلى دفع الناس لاتخاذ قرارات سريعة وشراء منتجات أو برامج علاجية مشكوك في فائدتها.
وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مضاعفًا في هذا التضليل؛ فخوارزمياتها تكافئ المحتوى الذي يثير الصدمة والغضب والخوف لأنه يحقق تفاعلًا أعلى ومشاهدات أكثر. ومع تكرار هذا النوع من المحتوى، يدخل المتلقي في دائرة من القلق المستمر، حيث تبدو كل معلومة طبية تهديدًا وكل نصيحة علمية مؤامرة. وهكذا يتكوّن ما يُعرف بـ«اقتصاد الغضب والخوف»، الذي يربح فيه هؤلاء بتقديم إجابات بسيطة وسريعة لمشاكل صحية معقّدة، بينما يدفع المرضى الثمن من صحتهم وأموالهم، وربما من حياتهم أيضًا.
التناقض التجاري: بيع الحقيقة بمنتجات زائفة واحتيال فاضح
من المفارقات المضحكة ان الكثير من المؤثرين الذين يدينون أرباح شركات الادوية ينتهي بهم الامر الى ترويج منتجاتهم الخاصة مثل المكملات الغذائية وبرامج التخلص من السموم وخدمات التوجيه، وغالبا تكون هذه المنتجات غير منظمة وبدون دليل علمي تدعمها وتسوق كعلاجات دون اختبار. هذا ليس عملا مناهضا لشركات الادوية الكبرى، بل نموذج تجاري يستغل نفس الثغرات التي يدعي كشفها؛ النظام نفسه الذي ينتقدونه يستخدم لتمويل امبراطوريتهم من المنتجات الزائفة التي يسرقون بها اموال الناس بالباطل، محتالين صريحين يستنزفون جيوب المرضى اليائسين.
التكلفة الاجتماعية لمناهضة العلم: ثمن سرقة المحتالين
عندما يُدفع الناس الى رفض آراء العلماء والخبراء الذين كرسوا حياتهم للبحث، ويطالبون بالثقة بشخصيات كاريزمية لا تمتلك تأهيلا علميا او طبيا، فان الثمن الذي يدفعه المجتمع فادح بسبب سرقة هؤلاء المحتالين. تنخفض معدلات التطعيم وتزداد قابلية تفشي الاوبئة، ويتأخر المرضى عن العلاجات المثبتة، وتترسخ المعلومات المضللة التي تضعف الثقة بالعلم. في مثل هذا المناخ يتحول النقاش العلمي الى سجال آراء وتعامل الحقائق كوجهات نظر، ويبدأ نسيج الواقع المشترك في التمزق بفعل شائعاتهم ونظرياتهم المؤامراتية التي تخدم جيوبهم فقط.
الخلاصة: التفكير النقدي ليس خيارًا، بل مسؤولية
التفكير النقدي الحقيقي لا يعني رفض العلم بالكامل. بل يعني فهم أن العلم مؤقت، وليس مطلقًا، وأن التفكير القائم على الأدلة هو أفضل أداة لدينا للتمييز بين الحقيقة والزيف. أخطر المؤثرين ليسوا أولئك الذين يطرحون أسئلة صعبة، بل أولئك الذين يؤكدون أن لديهم جميع الإجابات، دون الخبرة، أو التواضع، أو الأسس العلمية لدعم مزاعمهم. إذا كنا جادين في البحث عن الحقيقة، يجب أن نكون مستعدين لمواجهة التعقيد، واحتضان عدم اليقين، والاعتراف بأن لا شخص واحد، مهما كان كاريزميًا، يملك احتكار المعرفة. الحقيقة ليست أبداً بسيطة على شكل “هم يكذبون عليك وانا سأريك الحقيقة”.



