حصة دراسية.. من جمهوريتنا الفاضلة
هوية بريس – زينب أحمد
بعد الاستراحة، كانت نفوس التلاميذ ما تزال مشتعلة من فرط الحركة والجري في الساحة.. نظرتُ إلى الأقفاص الصدرية وهي ترتفع وتنخفض مُفصحةً عن مَعَامِلَ ضخمة تختفي بين الخلايا والعروق وهي تنتج وتستهلك في حركة شبيهة بحركات الأفلاك والضوء والطاقة والمجرات… تحكمها نواميس ينأى عن فهم كثير منها -بله التحكم فيها أو تغييرها- هذا الإنسان الضعيف..
طلبُ الأكسيجين.. الامتصاص على مستوى الخلايا.. الدخول في سلسلة معقدة من التحولات.. إنتاج للطاقة.. تخزين على مستوى العضلة.. استهلاك في خلال الحركة.. تحول إلى حمض.. الشعور بالإعياء… وفي خلال كل هذا وقبله وبعده.. إلكترونات وهرمونات وأحماض وجزيئات طاقية وبروتينات ودهنيات.. وأجسام عديدة تتزاحم وتتراكم ثم تتحول تركيبتها الأولى لتعطي تركيبتها الثانية – أو كما يلخصها العلم: “لا فقدان ..لا خسارة.. الكل يتحول”.. ثم تأتي الفتوى الإلحادية الركيكة : “إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع”.. لتكون دليلا صريحا عن أن العبث لن يأتي في أقصى تطاوله الفكري بأكثر من العبث..
لكن كيف سأمرر المعرفة وسط هذا الجو؟
عندما يكثر الصخب.. وتحتدم الكلمات في فضاء السمع والبصر.. فيختلط الحابل بالنابل.. الغث بالسمين.. الصواب بالخطأ..
في هذه الفوضى.. ينغلق أفق الحكمة.. وتتمايل في السراب طريقه، حتى تبدو للغادي فيها متعددة كثيرة.. فإن هو سار في أحدها ثم تاه.. لربما كفر -بعد التّيه- بالحكمة وبخرائطها وتَسَخَّطَ على كلها جملةً..
لا يمكن الخوض في هذا المخاض.. فإن كان حقا مسَّته نجاسة الباطل فاختلط عليك قبل سامعيك.. لا يمكنك تَبَصُّر الماء من السراب إن كنت عطشانا ضائعا في الفيافي القفار.. فحواسك عند الضعف والهوان منقادة لرغباتك ، أكثر مما هي -في لحظة قوّتك- منتشيةٌ بمؤازرة رُشدك..
كان لا بد لي من شحذ مخزون الطاقة في هؤلاء، وشفطه عن العضلات، حتى يتحقق فيها بعض سكونها.. لتعطي للحواس فرصتها في التلقي أو الإلقاء بحسب ما يأتي به الفهم.. أو بذلك التعبير التربوي المشهور: “أشغل الطفل قبل أن يُشغلك”.
نظرتُ نظرةً صامتة إلى الجميع وأنا واقفة لا أبدي حراكا.. أبحث بين خبايا الذاكرة عما يمكن أن ألفت به الانتباه.. فوُلد بينهم صمت صغير ثم بدأ يكبر ويتضخم إلى أن نظر الجميع إلي نظرة استفهام..
أجل.. إنه الصمت.. موضوع الصمت محير للكثيرين.. كثيرون هم الذين يصمتون ويحدثوننا خلال صمتهم بالكثير.. آه صحيح.. هل الذين يكتبون ما يجدون في أنفسهم، صامتون في الحقيقة؟!
نظرة التلميذ أفلاطون إليّ كانت مستفزّة.. سألته: أفلاطون.. كيف يكون الصمت في المدينة الفاضلة؟
– يكون نتيجة طبيعية لانشغال الجميع بالحرث!!
– وفي غير الفاضلة؟
– تلك العملة النادرة!!
طلبت منه تسجيلها على سبورته والتفت إلى جلوكون الذي كان منشغلا بزخرفة سور على بيت رَسَمَهُ بعناية..
أخبرني يا جلوكون.. ماذا لو جعلنا للصمت مكانة خاصة في دستور الجمهورية؟؟
– سيكون رائعا.. ونجعل عقوبة خرق الصمت.. لمن لم يأت في خرقه ذاك بأي نفع.. وصمة «أخرق» تلاحقه في كل الدروب.. سيكون هذا أقوى سلاح نحمي به أسوار المدينة من الداخل..
سجل على سبورتك يا جلوكون : «الحماية.. الحماية من التفاهة.. إنها أعظم ما ستتمناه البشرية في المستقبل..».
خلالها لاحظت أن أديمانتوس ينظر سابحا بعينيه إلى الفضاء خارج النافذة.. فقلت: أليس جميلا يا أديمانتوس أن نصمت؟
تصور يا عزيزي.. خارج أسوار المدينة هناك في السراب.. أقوام يُهْدُون أمواتهم لحظة صمت.. لا تضحك.. إنها الحقيقة..
– لكن.. لماذا يفعلون ذلك؟
– لا أدري.. ربما لأنّهم شعروا بأنّ الصمت شيء ثمين فقدموه هدية.. أو لعلّهم لم يُفكّروا حتى في معنى هذا الإهداء، فاكتفوا بالصمت لذات الصمت؟!
غريب أليس كذلك؟.. داخل المدينة نصمت رحمة بالأحياء.. وهم، خارجها يصمتون كنوع من الإهداء.. ولغير الأحياء؟!
إذن اكتب يا عزيزي: «الصمت ينفع الأحياء لا الأموات».
كان سقراط ينظر هو الآخر من النافذة لكن عينيه كانتا تتبعان حركة السحاب في السماء: أتعلم يا سقراط كيف يتناغم الصمت والفلك؟ ..يبدو كسفينة تحملك من اعتبارات الذوات إلى الكون الفسيح.. تترك الهرج والمرج لتغوص في ذاتك.. تحملها منها إليها.. أووووف يبدو شعارا مستهلكا في البرامج التلفزية والانتخابية والخطابات الرئاسية.. وفنون صناعة الكذب.. لكن صدقا.. ألن يكون جميلا إذا استطعنا أن نحدثهم بعد موتنا..
– يآآآآآ إلهي.. حلم جميل..
– أجل.. لكنه مستهلك هو الآخر.. إيه يا عزيزي.. لقد تصدأت الكلمات تحت وطأة الاستهلاك العشوائي.. فهل سيصلح الصمت في ترشيد استعمالها مجددا؟!
– ربما..
إذن اكتب على سبورتك: «رجاء.. اصمتوا قليلا رحمة بالكلمات».
قفز لهذا الرجاء ثراسيماخوس.. التلميذ الشاعر المرهف الحس.. الذي يرى في الكلمات حبيبته التي عليه ملاحقتها دائما: ثراسيماخوس.. كيف يكون شكل الحكمة بعد سيادة الصمت على شعب الإمبراطورية؟
ألا تبدو.. كسياحة معفية من ضريبة استحضار الآخر في كل جولاتها!!
أليست في حلولها بالفؤاد كما تتراءى زينة النجوم في سماء الصحراء.. نقط لامعة موزعة وسط سواد الجهل الكاتم على أنفاس المعرفة الصادحة بوجودها هناك، خلف تلك الضبابية.. ثم ستتزين النفس ببعض تلك المعرفة حتى لو كان السواد طاغيا.. المهم أن يبقى لمعان المعرفة.. في انتظار الليلة القمراء..
– لكنني أجد الصمت ذلك السواد القاتم
إذن اكتب: «إذا كان الصمت سواد السماء في ليل الصحراء.. فيجب أن يكون الكلام بحجم شعلة النجمة في تلك السماء».
عليّ.. أجل التلميذ عليّ.. يعيبون عليه ذاكرته الوهاجة التي تذكر تفاصيل الأسماء والتواريخ والنقط والحروف والحركات.. بينما يبقى مستوى ذكائه هذا، لا يجدون له مثيلا اليوم إلا في الاستعانة بالآلة: عليّ يا بُنيّ.. هل تلخص لنا درس اليوم؟
– أما القاعدة الفقهية التي أتى بها الشافعي استقراءً من الشريعة والواقع وهي: «لا ينسب للساكت قول»، فإن كان صمته في معرض الحاجة أصبح بيانا.. فقد أزالت الإشكال عن كل ساكت أن تطاله أيدي العدوان.. ثم خارج القضاء، وداخل تضارب النفس مع الأهواء.. يكون الصمت حديثا مستعرا يعمل فيك عمل اللهيب بحشيش الأرض اليابس تحت وهج الشمس.. وهو وإن كان مُتجاوزا عنّ أمّتنا لا تؤاخذ به رحمة بها.. رغم ذلك، فإن هو تُرِك من غير قيد ولا تطويع.. شقّ طريقه إلى اللسان وأتى في معرض الحديث بالإفصاح والبيان عما يعتمل في النفس من فنون الهذيان.. إذ أنت وإن كنت محدث نفسك، قد يكون للشيطان -في حديثك ذاك -قسط النزغ1.. فيكون -آنذاك- مما يستوجب استعاذة بالجهر والكف على الفور2.. إذ أن إملاء النفس عليك.. لا بد له من ردّ.. فإما إقرار وقبول في صمت (فذاك من التدبر والتفكر المأمور به شرعا3).. وإما رفض ونفور (لتحقيق صريح الإيمان4) في إملاءٍ على نفسك بالصوت.. فهذا في عجالة ما تم تقريره في حقيقة الصمت.. دونه يا أستاذتي الكريمة فلسفةٌ تشبه خرط القتاد.
تلاشت تلك الخريطة الذهنية البرّاقة في ذهني، والتي كنت أعدّها كخلاصة احتفالية للحصة.. فقلت: «شباب امسحوا ألواحكم واكتبوا على دفاتركم: ((…وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ))5».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- “وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ” [الأعراف:200].
2- صحيح البخاري: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى، يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ“.
3- “أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” [محمد:24].
“كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ” [ص:29].
4- صحيح مسلم: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: “ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ“. وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ. ح وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاق، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوَّابِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ كِلَاهُمَا، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ.
5- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ“.