هل المغرب في زمن الاحتفاء بالجهل؟
ذ. إدريس كرم
هوية بريس – الإثنين 31 مارس 2014
المثقف العضوي الذي كان
حديثي لا يتعلق بالأمية، كما لا يتعلق بالتخصصات الغائبة أو الناقصة، ولكن يتعلق بما يعتبر من سمات المعرفة أو ما يسمى الحضارة التي جعلت قادة الغزو الفرنسي للمغرب في زمن لم تكن نسبة فكّ الخط تحسب، يقولون محذرين مخططين سياسة الحكم المباشر بناء على أن سكان المغرب همج رعاع لا يختلفون عن القبائل الإفريقية أو الهنود الحمر.
وأقصد بذلك ليوطي؛ الذي قال في بعض خطبه بأن على الجميع أن يتذكر أنه في بلاد يتواجد سفراؤها في أعظم البلدان، وأن لها حضارة ودولة قائمة لم تنتظرنا لنقيمها.
كما أحصى بعض الباحثين من المنظرين للسياسة التعليمة في العقد الأول من القرن الماضي بأن المدارس العتيقة والمساجد كانت تضم الآلاف من التلاميذ، وأن أولئك التلاميذ هم المسؤولون عن تلاحم مكونات المجتمع وترابطه، لذلك أوصوا بأن يحول بين الطالب وسكان الجبال، وأن لا يكون في المدرسة الفرانكووبربرية تواجد له، ليسهل انتقال الطفل الأمازيغي من لهجته للغة الفرنسية مباشرة.
بيد أن الأمر لم يستقم ولم تنجح تلك السياسة العنصرية، مثلما لم تنجح سياسة “تلميذ اليوم حاكم الغد“، والسبب هو أن المثقف الفقيه في ذلك الزمن الذي يوصف بأقدح النعوت، قام بالدور الذي تعارف عليه المجتمع، وهو نقل المعرفة وتعميم ثمراتها على الجميع بعدالة حددها المجتمع وليست الإدارة التي كانت صاحبة فكرة “تلميذ اليوم حاكم الغد“، والذي إذا لم يحكم سيكون بجانب الحاكم أو خلفه أو أمامه، لذلك كان التعليم يمنح بجرعات تجعل حاجة الإدارة محددا له بخلاف السابق حيث كان التعليم حسب حاجة المجتمع، لذلك كان المعلم والمتعلم مصدرا للاحترام في ذاته، وكان المجتمع يصغى لما يقول ويتداوله شفاهيا ومكتوبا.
عن صناع العادات
وقد سبق أن نشرنا في الثمانينيات دراسة حول صناع العادات بالمغرب، تُبين أن الفقهاء والنساء هم أهم صناع العادات، لما لهم من إلمام بحاجة المجتمع وقدرات الأفراد على تمثل المزاوجة بين القديم والجديد، والمنحوت والمبذول، والمرفوض والثابت، واللازم وآليات التداول والقلب، لذلك كان المثقف المنعوت بالتقليدي لا ينتظر مشغلا ولا حالاّ لمشاكله، ولا داعما لمكانته الاجتماعية التي لم تكن محل تشكيك إلا بقدر ما يشتط في سلوك معين تعتبره الجماعة سواء التي ينتمي إليها معرفيا أو اجتماعيا أو مذهبيا بالشاذ أو المنحرف، فينبري لمحاججته وتقويمه المماثل له والقادر عليه انطلاقا مما تعارف عليه المجتمع.
لذلك نرى أن المثقف التقليدي استطاع في مطلع القرن الماضي تأسيس ضوابط اجتماعية، وإنشاء مؤسسات جديدة من قبيل الجرائد والمجلات والمدارس والجمعيات والأحزاب وقاد الاحتجاجات، مما لم يكن للمجتمع به عهد دون النظر لسنه أو بلده أو عشيرته، فشباب العشرينيات الذين لم يكن بعضهم قد أدرك سن الرشد -الذي حدد اليوم- كانت له كلمة مسموعة في زمانه وأراء سياسية واجتماعية بدأت صغيرة أو إن شئت بسيطة سرعان ما تطورت لتصبح أدوات عمل، ثم قيما مشتركة، ثم عقائد تبذل من أجل تحقيقها المهج.
فأين هم الزعماء الذين قادوا الحركة الوطنية بالأمس مِنَ المفكرين الذين جاؤوا بعد الاستقلال وراكموا نظريات وأبحاث، لا نقول إنها ماتت مع موت بعضهم، ولكن نقول بأنها لم تتجاوز مقاعد الدراسة أو ملاسنات الجرائد، بل إن جمّا غفيرا من مثقفينا لا يستطيع أن يطبع تصانيفه، في الوقت الذي كنا نرى في الثلاثينيات والأربعينيات بل وفي العشرينيات قبلها شباب ذلك الزمان مفكرا ينشر كتبه ويبيعها قبل طبعها، والأمثلة على ذلك كثيرة.
فشل نموذج “تلميذ الأمس حاكم الغد” في الحصول على الشرعية المجتمعية
قد يقال بأن مجتمع اليوم هو مجتمع الصورة والحركة، مجتمع لا مكانة فيه للأعمى والبصير والأصم، وهو دليل على إفلاسه وسوء صنيعه ونزعته الاقصائية، بل حتى ولو أن الأمر كذلك فمن ينتج ما يُرى ويُسمع؟ ألا يتطلب معرفة وخبرة وإبداعا وقدرة على التمثل والتواصل؟
إن الخلل الذي وقع بعد الاستقلال هو التوسع في مفهوم “تلميذ اليوم حاكم الغد”، و”حاكم الغد” إنتاج أجنبي انطلق من سلطة الحماية، فمحميو الأمس هم الذين شرعوا لشروط من يجب أن يحكم، ولما استولى الفرنسيون على المغرب عمموا ضوابطهم فصار المفرنسون بعد الاستقلال خلفاء للفرنسيين في تدبير الشأن العام، وأبعدوا غيرهم بذرائع مختلفة، وحتى عندما نودي بالتوحيد والتعريب والمغربة بقيت السيادة للتقنية، والتقنية لها أصول وأصلها طبعا فرنسية حتى ولو غاب الفرنسيون فإنهم لم يعدموا مشايعين.
تلميذ الاستقلال معارض النظام ومتطلع له
حاكم الغد الذي جاء على فوهة مدافع الاحتلال، لم يجد من يعطيه الشرعية المجتمعية باعتباره مفروضا بالقوة، فما كان من الحاكم إلا أن بحث عمن يشرعن له عمله، فلم يجد غير التلميذ الذي لم يجد مكانا يحكم منه، ولكن وجد منفذا آخر يجعله جالسا قرب الحاكم أو يدبر له شأنه ويسهل له مأموريته، وهو هدف من أهداف المدرسة الاستعمارية التي أنشئت لتلبية حاجة الاستعماري لا لتلبية حاجة الشعب أو المتعلم نفسه، وهكذا ظهر كُتاب الحاكم ومعارضو الحاكم، فكان لزاما ظهور نمط جديد من التعليم والتكوين لتلبية هذه الحاجة، مما يجعلنا نقول بأن تلميذ ما بعد الاستقلال هو معارض النظام ورافضه بالنهار متلهف عليه بالليل، ولعل المتتبع لما ينشر من مذكرات يجد الجواب الشافي على توصيفنا غير الكافي في المسألة
منظر اليوم حاكم الغد
وبعد الإشباع وسوء المنقلب في كل ما له علاقة بالوصول للحكم والسيادة والريادة واستمرار حجب الشرعية الاجتماعية على من أخذها بغير حقها أراد البعض ممن يريد الوصول لتحقيق “مُنظر اليوم حاكم الغد” أن يبتدع شيئا جديدا وهو تجهيل الناس وجعلهم يفكرون بلذتهم بدعاوى مختلفة، حرية تارة، لذة أخرى، سيادة فردية، انتماء مغاير، أشكال من الدعاوى يمكن تلخيصها في “ملهي الناس اليوم حاكمهم غدا“، ولكي يتوصل لذلك يجب الدعوة إلى مزيد من الجهل والأمية الوظيفية والحضارية التي تعني انعدام الخلق والابتكار والعمل على تضبيع الناس وتجهيلهم من قبيل إعطاء السؤال والجواب وطلب الاتصال، أو جعل الزمن الإذاعي والتلفزي عبارة عن “أغني وأغني” وبين “كل أغنية وأغنية أغنية”، فلا تسمع شعرا ولا تاريخا ولا محاضرة، لأن الشعار هو “النشاط النشاط من المهد للحد”، ومن لم يصدق فلينظر حواليه ليرى الجهود المضنية لجعل الناس “دَوَابِّيُ المَنزع والمُشتهى”، ولا تشذ عن ذلك الجرائد والمجلات والإعلانات، بل حتى المتعلمين يراد تحويلهم أميون بفرض الدوارج عليهم لتجهيلهم من باب دمقرطة الجهل وعلمنته.
عاقبة دمقرطة الجهل
دمقرطة الجهل التي يحتفى بها بمناسبة وبدونها في المجتمع لن تطال عواقبها الخطيرة الجهلة، لأن الجهل الذي يسوق له لا يقتصر على جهل معرفي، وإنما هو جهل مركب تختلط فيه الجريمة المنظمة بالانحرافات المتعددة، التي لن تترك شريحة معينة تنعم بما ستراكمه من امتيازات أو تسعد بدموع الآخرين، ولن يكون المكرهون وحدهم من يؤدوا فاتورة التجهيل المكلفة.
بل إن أولئك الذين يروجون لهاته المنظومة من الأفكار هم أول من سيأسف على ذلك بعدما ستتضرر مصالحهم ومصالح من يمثلونهم، لأن الشعوب لا تحيى بالخبز وحده، وفي التاريخ الذي يهمل خير شاهد على ذلك.
لذلك لا يمكن أن تقوم للفكر قائمة ما دام الفكر متخارجا ولا يعبر إلا على منتجيه، ومنتجوه علاقة بمحيطهم محدودة لذلك لا تأثير له، فلا غرابة أن يعيش المفكر ويموت وفي نفسه شيء من جهل أمته به، بخلاف التقليدي الذي كان وما يزال وسيبقى بشكل أو آخر على الأقل مسموع الكلمة معترف به، راض عما وصله من التقدير لأنه على قدر أهل العزم تأتي العزائم.