قل هو من عند أنفسكم
د. أحمد اللويزة
حال الأمة لا يخرج عما أخبر به النبي عليه السلام فيما أطلعه الله عليه من الغيب المتعلق بآخر الزمان، وإن المتمعن في نصوص الوحي وهي تحكي الواقع قبل أن يقع يجد أنها تحكيه وصفا وتقرر السبب وتحدد الحل والمخرج.
لكن تصرفنا نحن لا يرتبط بهدي الوحي أو لا يريد أن يخضع له كلية، ويكتفي بالانتقاء الذي يلبي حظ النفس في أغلب الأحوال.
وتأتي العاطفة ورد الفعل في المقدمة لتقود المواقف وتحدد القرارات، ثم تحشر لها النصوص حشرا لتثمين تلك المواقف لتعطاها الصبغة الشرعية.
وهذا الأمر هو ما يزيد الأمر تعقيدا وصعوبة في التعاطي من الإشكالات، ويجعل الحل بعيد المنال، بل تجعلنا في مشكلين بدل واحد أو مشاكل بدل اثنين. وعوض الانكباب على الحل بتصور جماعي صادر عن نصوص الوحي تتشرذم الأمة حول تشخيص الداء وتحديد أسبابه واقتراح السبل والطرق المعالجة. فتضيع الجهود ويبقى المشكل يتفاقم ويزداد سوء يوما عن يوم كلما تأخر إيجاد الحل الجدري وليس الترقيعي.
نحن فعلا في زمن الهرج والمرج وهيشات الأسواق، حيث بين رؤية الحق والحقيقة غبار كثيف من التلبيس والتدليس، وبين سماعه ضجيج وعويل اختلطت فيه الأصوات والشعارات، وهكذا تجد الأمة نفسها في مفترق الطرق؛ كل له رؤيته وحلوله وطرقه، هذه للعلماني وهذه للشيوعي وهذه للملحد وتلك عرقية وأخرى إسلامية وفي كل واحدة مشارب وطرائق قدادا…
وفي خضم هذه الجلبة وهذه العاصفة هناك اتهامات متبادلة، وتخوين وتحميل للمسؤولية للآخر، ويبقى الحل والخروج من الأزمة بعيد المنال صعب التحقق وأقرب إلى المستحيل ما دامت المسؤولية لا أحد يريد أن يحملها نفسه ويتهمها في المشكل ليكون جزءا من الحل.
عندما يكون المعني بالأمر هم المسلمون فمن العيب والعار أن يعيشوا حالة الذل والهوان وعندهم الوحي الذي جعله الله حلا لكل مشاكل العالم وليس المسلمين فحسب، من العيب والعار أن يتركوا الوحي ويبحثوا عن حلول خارج الوحي فلا يزيدهم ذلك إلا هوانا وذلا.
لقد كان الوحي صريحا حين شخص الواقع مبينا الأسباب والحلول. وأغلبها قائم على إصلاح النفس والاشتغال على تقويمها وحملها على شرع الله حتى يستقيم دينها فيتفضل الله عليها باستقامة دنياها. ونحن أمة الإسلام هذا قدرنا ألا تستقيم دنيانا إلا باستقامة ديننا ولا تصلح حياتنا إلا بصلاح آخرتنا.
ويكفى أن نورد بعض النصوص للتدليل على المقصود ونأخذ مثلا قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا).
فالآية صريحة ولا أراها تحتاج إلى شرح، فصلاح دنيا رهين بصلاح الدين، ونؤكد ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح أبي داود عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُم) .
وفي هذا الحديث الموالي بلاغ واضح منه عليه السلام عن السبب والنتيجة، وهو متضمن للحل بترك السبب مع ضميمة الحديث السابق الذي يؤكد على العودة إلى دين الله مطلقا، يقول عليه الصلاة والسلام: (…ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم…) رواه ابن ماجه في سننه.
إن الذي لا شك فيه أن أغلب الناس اليوم يشتكون من فساد دنياهم وسوء معيشتهم، غير مبالين بفساد دينهم وسوء تدينهم، ثم هم يرومون إصلاح دنياهم ولو على حساب خراب دينهم، وهذه في حد ذاتها فتنة لا تصيبن الذي ظملوا خاصة، بل يعاني ويلاتها العامة والكافة.
لكن متى يقتنع الناس أنهم لن ينعموا بحياة ملؤها الأمن والاستقرار والرخاء والسعادة الحقة ما لم يرجعوا إلى دينهم حكاما ومحكومين، ويحكموه في تفاصيل حياتهم وإن عاشوا على الكفاف والعفاف فلن يعدموا سعادة بالغة هي التي يبحثون عنها اليوم في رغد العيش ودعة الحياة وسكونها.
مشكلتنا اليوم ليس فقر الجيوب ولكن فقر القلوب، ولا ظلم الحكام ولكن ظلم المحكومين. فقد يناسب الظالم أن يظلم وعنده مقومات تدفعه لذلك، لكن ليس من المقبول بأي اعتبار أن يكون الظالم متعدما لا يدفعه إلى الظلم إلا الحقارة والوضاعة. ثم هو يلوم الآخرين عن ظلمهم، ولا يرى أن ذلك جزاء من جنس العمل وأن الله سلط عليه عقابا مماثلا لا يرفعه عنه حتى يتوب من ظلمه، والظلم أنواع أقبحها ظلم الإنسان لربه وعن هذا النوع حدث لا حرج، فكيف يطيب لهذا الإنسان الذي يقابل ربه بالظلم أن يكرمه الله باستقامة عيشه ورحمة مسؤوليه وهلم جرا.
لقد حدثنا القرآن عن خيرة الناس بعد رسول الله عليه السلام من الصحابة الأبرار وكيف عاقبهم الله عز وجل بسبب مخالفة هي في أعيننا كالشعرة لكن الأثر كان شديدا والسبب بسيطا بالمقارنة مع ما نحن عليه اليوم.
فقد كان كافيا أن يترك الرماة في غزوة أحد مكانهم مخالفين أمر رسولهم الكريم، فكان ما كان، فعاتبهم القرآن في قوله تعالى: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) فلما استفسر الصحابة عن سبب هذا الجزاء القاسي كان الجواب (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا، قل هو من عند أنفسكم).
نعم قل هو من عند أنفسكم أيتها الشعوب المقهورة المهضومة، وعلى ذمتي فلو بقينا إلى يوم القيامة على هذا الحال لن يتغير الحال بل لن يزداد إلا سوء.
ولقد جرب الناس الثورات والمسيرات والاعتصامات، ورسم الناس لذلك ألواحا وردية للرخاء والازدهار والرقي والعزة والحرية والكرامة فانقلب ذلك إلى كوابيس مفزعة وكوراث مهلكة، وجروحا لم تندمل إلى اليوم، والسعيد من وعظ بغيره.
أفلا نجرب الوصفة الربانية ونعود إلى الدين اهتماما وتعلما وتطبيقا، وإن شاء الله -تحقيقا لا تعليقا- ستعود للأمة كرامتها وعزها ومجدها.
وإلى أن ييسر الله تفضلا منه من يحمل هذا المشعل ويقود مسيرة التغيير بالرجروع إلى الدين، أقول لهذه الأمة ما قال الله جل في علاه، الذي بيده مقاليد التغيير.
{قل هو من عند أنفسكم} و{وبما كسبت أيديكم} و{حتى يغيروا ما بأنفسهم}.