هذه ترجمة للشيخ محمد زحل -رحمه الله- كتبها بقلمه ونشرها على موقعه الإلكتروني:
المولد والمنشأ وظروف النشأة:
وبه سبحانه أستعين،
ولدت في سنة 1943م – 1363هـ في بلدة تيلوى دوار إكوزلن، فرقة أيت بها، قبيلة نكنافة حاحة الشمالية الغربية فرع من قبائل حاحة الكبرى التي تمتد بمفهومها الحديث فيما بين الصويرة ومدينة أڭادير على الساحل الغربي للمحيط الأطلسي بينما هي في إطلاقها القديم تشمل كل المناطق الممتدة من عبدة وحوز مراكش إلى تخوم تارودانت فيما يعرف قديما بقبائل المصامدة. يدل على ذلك أن صاحب المعجب في تاريخ المغرب عبد الواحد المراكشي الأديب المؤرخ المشهور لما ذكرشيشاوة قال: نهر ببلاد حاحة، كما أن الحسن الوزان في كتابه وصف إفريقيا لما ذكرالصويرة القديمة التي على الساحل فيما بين الصويرة وآسفي وهي في أرض قبائلعبدة حاليا، صنفها مع مدن حاحة وكان المغرب في هذه الحقبة التي ولدت فيها في أسوء مراحله التاريخية عسرا وصعوبة فهويتململ تحت هيمنة الاستعمار الفرنسي ويعاني من ويلاتها خاصة المناطق الجبلية والريفية التي يعيش فيها قواد القبائل فسادا في الأرض ويستذلون السكان ويظلمونهم ويخنقون أنفاسهم، أضف إلى ذلك كله أن الحرب العالمية الثانية قائمة شرسة لا تبقي ولا تذر والمغرب منخرط فيها بكل قواه إلى جانب فرنسا والحلفاء والأوبئة المتفشية المستعصية على العلاج تأكل الأخضر واليابس، ففي عام 1946م مات نصف سكان المغرب من الطاعون كما تذكر تقديرات المستعمر الفرنسي وإحصائياته فبلادي الحبيبة كانت في هذه الفترة أسيرة أعدائها الأربعة، فرنسا المستعمرة والظالمة المؤذية والثلاثة الآخرين، الجهل والفقر والمرض بالإضافة إلى الخرافات والبدع وانحراف التدين عن المنابع الصافية للدين التي لم يشبها الكدر من الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة والهدي العملي لخير القرون المشهود لها بالفضل والخيرية وقد اضطر الوالد رحمه الله تحت وطأة الأسباب والظروف الآنفة الذكر إلى مغادرة بلدتنا بحثا عن حياة أقل شدة وعيشة أقل ضنكا، فلم يجد أمامه غير مدينة الصويرة التي عمل في أحد مساجدها إماما ومحفظا لكتاب الله تعالى ويرجح أن هذه الهجرة للوالد والأسرة كانت وأنا في العام الثاني من عمري في سنة 1944م. لم تكن الأسرة في السنوات الخمس التي قضيناها فيالصويرة أسعد حالا ولا أكثر استقرارا كما كانت ترجوبل مات أخي الأكبر وأخواي الآخران اللذان جاءا من بعدي فتشاءم الوالد بالصويرة والإقامة فيها فشد أمتعته وغادرنا الصويرة غير آسفين عائدين إلى قبيلتنا نكنافة من جديد وذلك في عام 1949م بعد عام من نكبة ضياع فلسطين وقيام دولة اليهود بها.
الشروع في التعلم:
كان نموي بطيئا وبنيتي شديدة الهزال ولذلك لم يشرع والدي في تعلمي مبادئ القراءة والكتابة إلا في سنة 1950م ولم يكن الوالد يمارس الزراعة بنفسه بل كان يعطي الأرض لمن يزرعها مقابل جزء مما يخرج منها وكانت له بعض المواشي لكن لما بلغت سن الدراسة باع كل شيء وقال لو احتفظت بهذه الماشية فسيكون ابني جاهلا راعيا ولن يكون متعلما ولم يكن في مناطقنا إذ ذاك مدارس نظامية ولا تعليم رسمي وإنما كانت هناك الكتاتيب القرآنية والمدارس العتيقة فترك الوالد البيت والفلاحة وجعل يشارط في مساجد المداشر والدواوير يؤم الناس في الصلاة ويعلم كتاب الله وكان الذي أجبره على هذا العمل كما يقول أن يكون ابنه من المتعلمين وليس من الجهال الرعاة للمواشي.
تعلمت مبادئ القراءة والكتابة على يد الوالد رحمه الله وبدأت أحفظ كتاب الله بدءا من قصار السور من آخر المصحف كما جرت العادة والعرف وما إن وصلت إلى سور تبارك الملك حتى أصبت بشلل تام منعني من الدراسة وحال بيني وبين القيام على رجلي، ولم تفكر الأسرة في طبيب ولا علاج ولكنهم كانوا يذهبون بيإلى بعض الأضرحة -غفر الله لهم- بقيت أسير الشلل ثلاث سنوات إلى آخر سنة 1953م وهي السنة التي نفي فيها السلطان محمد الخامس وأسرته خارج الوطن،استأنفت حفظ كتاب الله تحت رعاية الوالد رحمه الله فأتقنته وأحكمته لفظا ورسما بفضل من الله وفتح منه تعالى في سنتين ونصف بحيث لم يأت النصف الأخير من سنة 1956م وهي فجر الاستقلال إلا وقد بعثني الوالد إلى المدرسةالجزولية لتعلم مبادئ العربية والفقه ومفاتيح العلوم الأخرى تحت رعاية الشيخ أحمد بن عبد الرحمان السليماني الحسني ولما كان صديقا للوالد فقد أولاني رحمه الله عناية خاصة وحفظت على يديه كثيرا من المتون في العربية والفقه كالاجرومية ونظمي الزواوي والجمل ولامية الأفعال وألفية ابن مالك وتحفة ابن عاصم ومتن المرشد المعين ومتن الرسالة لابن أبي زيد القيرواني وبعض المتون الأدبية، كما حضرت أيضا شرح كثير من هذه المتون صحبة زملائي الطلاب وتلقيناه عنه رحمه الله وكان الذي استفدناه من أدبه وسمته وحزمه وصرامته أكثر مما استفدناه من علمه.
مكثت عند هذا الشيخ سنة وبضعة أشهر.
كان الطلاب من الجيل السابق لجيلي ممن سبقني إلى طلب العلم يدرسون في مدرسة أخرى بمركز تنمار الإداري في قبيلة «إذاﯖلول» من قبائل حاحة الكبرى وكانت تبعد عن الجزولية بحوالي ستين كيلومترا، وكان لها صيت وشهرة، وكنا حين نلتقي بطلابها نلاحظ فيهم شجاعة أدبية وجرأة على الكلام وانتقاد الأساليب العتيقة في التعليم لدى بعض الشيوخ كما كنا نعجب كل العجب من هجومهم على الطرق الصوفية وانتقادهم لزواياها واعتراضهم على الأضرحة وغلوالناس فيها، وما يساق لها من القرابين والنذور فطلبت من الوالد رحمه الله أن يأذن لي بالالتحاق بالمدرسة الهاشمية بتنمار، وآنست منه عدم الرضى إلا أنني لم أزل به حتى أقنعته فوافق على انتقالي إليها وكان اسم الشيخ الذي يديرها ويدرس فيها هوالعلامةالخلوق السمح سيدي البشير بن عبد الرحمان السوسي البرحيلي المنبهي الملقب بتوفيق وهووالد الدكتور محمد عز الدين توفيق الأستاذ الداعية المعروف، وقد استفدنا من علمه وأدبه وخلقه وسمته ونفعني الله بذلك.
ثم التحقت بعد سنة أخرى بالمعهد الإسلامي بتارودانت الذي بناه المحسن الكبير «الحاج عبد السوسي» وتديره جمعية علماء سوس، وكان من الأساتذة الذين تلقيت عنهم في هذا المعهد في مختلف العلوم والفنون جماعة منهم السادة الأفاضل محمد السرغيني والطيب الباعمراني وعبد المالك أزنير وعبد الرحمان الرسموكيوأحمد الوجاني البودراري وأحمد العدوي وغيرهم، ثم غادرت تارودانت لأسباب لا يتسع الوقت لذكرها بعد سنتين متجها إلى مدينة مراكش حيث التحقت بكلية ابن يوسف ذات الصيت الذائع والتاريخ العريق وأخذت فيها عن شيوخ نظاميين كانوا يتولون التدريس في الكلية وآخرين غير نظاميين كانت لهم دروس خاصة في المساجد. فمن الأولين الشيوخ الأجلاء السادة: الحسين راغب، وأحمد أملاح، وحسن جبران، وعمر فوزي والمختار السباعي، ومحمد التازي ومحمد الحيحيالمعروف ببزي وغيرهم، ومن الآخرين غير النظاميين، العلامة الرحالي فاروق رئيس المجلس العلمي بمراكش، وعبد السلام جبران، والقاضي عبد السلام السرغيني وغيرهم.
فترة العطاء في ميداني التعليم والدعوة:
تخرجت من كلية ابن يوسف في منتصف سنة 1963م.
واتجهت إلى مدينة الدار البيضاء العاصمة الإقتصادية للملكة حيث شاركت في مباراة مدرسة المعلمين دورة شتنبر ونجحت صحبة مجموعة من الزملاء ممن درسوا معي بمراكش وبعد سنة من التكوين في الدروس النظرية والعلمية تخرجت بنجاح وتفوق مما خولني التعليم بنفس المدينة وكان نشاطي مزدوجا حافلا متواصلا بإذن الله، فكنت أقوم بالتدريس في المدارس الحكومية وأمارس الدعوة في المساجد والأندية ودور الشباب والجمعيات الثقافية.
وهكذا خطبت الجمعة في مساجد: جامع الحجر بدرب غلف، ومسجد الحاج علي الهواري بالقريعة ومسجد السنة بدرب الطلباء وجامع الشهداء بالحي المحمدي . وألقيت دروسا متوالية طويلة الأمد في كل من المسجد اليوسفي بقرية الأحباس والمسجد المحمدي بها ومسجد الفوارات بالحي المحمدي،والجامع العتيق بعين الشق ومسجد الحفاري بدرب السلطان ومسجد بين المدن ومسجد التوحيد، بحيث ابتدأت تفسير القرآن العظيم سنة 1976م من سورة الفاتحة وانتهينا هذه السنة (2008م) إلى سورة الحشر.
كما شرحت كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب داعية النوحيد في نجد والجزيرة، في مسجد الفوارات.
ودرَست آيات الأحكام في المسجد اليوسفي، كما فسرت سور المفصل فيه وفي المسجد المحمدي، وباشرت شرح صحيح الإمام مسلم على امتداد سنتين في جامع الشهداء الذي كنت خطيبه أيضا.
ودرَست جزءا كبيرا من جامع الترمذي في مسجد الفوارات. وشرحت صحيح البخاري على امتداد ثلاث عشرة سنة في جامع عين الشق العتيق من أوله إلى كتاب المظالم حيث وصلنا هذه الأيام.
وشاركت في تأسيس الحركة الإسلامية أوائل السبعينات بمعية الأساتذة عبد الكريم مطيع وإبراهيم كمال وعبد اللطيف عدنان وعلال العمراني وعمر عصامي وإدريس شاهين وآخرين.
وأسست مجلة الفرقان سنة 1984م وأدرتها عشر سنوات بمعية الدكتور سعد الدين العثماني وكتبت فيها مقالات مختلفة ونبذا من تفسير آيات الأحكام. كما عملت في جمعية أنصار الإسلام صحبة الفقيه العلامة محمد مفضال السرغيني والأستاذ محمد الجبلي وكنت كاتبا في التوجيه الإسلامي في جمعية شباب الدعوة الإسلامية التي كان مركزها في عين الشق وكنت عضوا في رابطة علماء المغرب وحضرت مِؤتمرها السابع بمدينة أكادير صحبة المرحوم إدريس الجاي ومحمد فوزي وأحمد العمري كما حضرت مؤتمر اتحاد الطلبة المسلمين في أوربا فرع إسبانيا في مخيم رالفكار بضاحية غرناطة سنة 1972م وألقيت فيه قصيدة صحبة الأساتذة الإخوة عبد الكريم مطيع وإبراهيم كمال، كان من جملة من كان معنا في هذا المؤتمر، الأستاذ زهير الشاويش رئيس المكتب الإسلامي ببيروت والعلامة محدث الشام الأستاذ ناصر الدين الألباني وقد دام المؤِتمر أسبوعا كاملا، وكان المِؤتمر تحت إشراف الأستاذ نزار الصباغ السوري الذي قتل شهيدا ببرشلونة رحمه الله ،وأنا الآن عضو مؤسس بمنظمة الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين وقد حضرت مؤتمرها الأخير في مدينة إستانبول بتركيا منذ سنتين (2006م).
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رحم الله الفقيد وأسكنه الفردوس الأعلى، ورزق أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.