الازدواجية اللغوية “الدجلوسيا” بالمغرب

01 يوليو 2020 00:04

هوية بريس – أعظم خديجة

تعد اللغة ظاهرة اجتماعية بامتياز. وتهدف اللسانيات الاجتماعية (السوسيولسانيات) إلى ربط اللغة، ووظيفتها التواصلية بالسياق الاجتماعي. فتعنى بدراسة التنوع المشترك بين الظواهر اللسانية والمجتمعية، ورصد العلاقات الموجودة بين هذه الظواهر، و يعرفها “جون لاينز” John Lyons بأنها “دراسة اللغة من حيث علاقتها بالمجتمع”. ومنه فهي تركز على الوظيفة الاجتماعية للغة فتدرس قضايا من قبيل اللغة و المجتمع، والتطور اللغوي، والصراع اللغوي، والاحتكاك اللغوي، وعلاقة اللغة و اللهجة، والتعدد اللغوي، والتداخل اللغوي، والسياسات اللغوية، والازدواجية اللغوية موضوع هذا المقال.

إذا ما الازدواجية اللغوية؟ ما الفرق بينها و بين الثنائية اللغوية؟ كيف يعرفها عالم السوسيولسانيات“شارل فرجسون” ؟ وما تجلياتها في اللغة العربية؟ و ما هو دور التقريب بين العامية و الفصحى في مواجهة بعض المشاكل الناجمة عن الازدواجية اللغوية؟

  1. الإزدواجية اللغوية: المصطلح و المفهوم

يُعتقد أن الألماني “كارل كرمباخر” كان أول من تحدث عن الازدواجية اللغوية عام 1902م، لكن الفرنسي “وليم مارسين” هو الذي وضع بالفرنسية مصطلح “الازدواجية”La diglossia  ، وعرفه بأنه الصراع بين لغة أدبية مكتوبة، ولغة أخرى عامية شائعة. وظل هذا المصطلح محدود الانتشار حتى جاء الأمريكي “شارل فرجسون” فجعله ذائعا و متداولا، حين نقله إلى الإنجليزية، و عرفه بأنه الصراع بين تنوعين للسان واحد، أحدهما عالي التصنيف لكنه غير شائع، والأخر دون ذلك، ولكنه عام و شائع. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت الازدواجية جزءا لا يتجزأ من الدراسة اللغوية، و فرعا مهما من فروع علم الاجتماع اللغوي.

والمقصود بالازدواجية اللغوية (“الدجلوسيا”La diglossie ) استعمال مستويين لغويين مختلفين، أحدهما من مستوى فصيح يستخدم في المناسبات الرسمية والكتابة الأدبية والتعليم، والثاني عامي يستعمل في الحياة اليومية.   وقد تعني “الازدواجية اللغوية” التنافس بين لغة رسمية مكتوبة ومدونة، ولغة عامية شعبية شفهية.

  1. الثنائية اللغوية مقارنة بالازدواجية اللغوية

تباينت الآراء في بيان حد مصطلح “الازدواجية” ومفهومه، و بدا في دراسات معظم اللغويين مختلطا بمصطلح     “الثنائية اللغوية”، ومتداخلا معه. فأطلق مصطلح “الازدواجية” على “الثنائية” و”الثنائية” على “الازدواجية”، ونشأ عن هذا الاختلاط والتداخل خلط جلي في المفهومين، و اختلاف واضح بشأن مكونات كل منهما.

وما يميز مصطلح الازدواجية، عن مصطلح الثنائية المتداخل معه والمشتبك به، أن أحدهما داخلي و يمثله علاقة الفصحى بالعاميات، وهو ما يعرف ب “الازدواجية اللغوية”. و الآخر خارجي و يتمثل في علاقة الفصحى مع اللغات الأجنبية الوافدة و يطلق عليه “الثنائية اللغوية Bilinguisme”.

  1. 3. شارل فرجسون و الدجلوسيا

يعد الأمريكي “شارل فرجسون” من أهم رواد اللسانيات الاجتماعية. وقد ركز كثيرا على الازدواجية اللغوية.      و يعود له فضل السبق في استخدام مصطلح الازدواجية اللغوية (الدجلوسيا La diglossie)، ثم ما لبث أن انتشر وشاع لدى علماء اللسانيات الاجتماعية.

ويعرف شارل فرجسون “الدجلوسيا” بأنها حالة لغوية ثابتة و قارة، تتضمن نمطين لغويين:

نمط لغوي عال، وراق، ورفيع معترف به، يتعلمه الناس في المدارس الحكومية، ويتخذ طابعا رسميا ومؤسساتيا، ويستخدم لأغراض كتابية وتواصلية، وأيضا في المحادثات الرسمية، كاللغة العربية الفصحى-مثلا-.

ونمط عامي، وشعبي متدني، يستعمله الناس لأغراض تواصلية شفوية عادية، كما يستعمل داخل المنزل، والأسرة   والشارع، كما هو حال الدارجة المغربية.

و يرى “فرجسون” أن الازدواج اللغوي لا يظهر أو ينشأ في مجتمع بعينه إلا بتوافر ثلاثة شروط:

  • توافر مادة أدبية كبيرة بلغة ذات صلة وثيقة باللغة الأصلية للمجتمع، أو مماثلة لها، تمثل جزءا مهما من قيم المجتمع الأساسية.
  • اقتصار الكتابة على نخبة قليلة في المجتمع.
  • مرور فترة زمنية طويلة تقدر بقرون عديدة على توافر الشرطين السابقين.

وقد درس فرجسون أربع لغات: العربية، واليونانية، والألمانية السويسرية، واللغة الهجينة في هايتي، بغية معالجة ظاهرة الدجلوسيا. ومن هنا، فقد ميز مستويات هذه اللغات وأنماطها الراقية، والشعبية في الجدول التالي:

الحالةنمط راق وعالنمط شعبي وعامي
المواعظX 
التعليمات للعمال و لخدم X
الرسائل الشخصيةX 
محاضرات الجامعةX 
الخطابات السياسيةX 
الحديث مع الزملاء والأصدقاء وأفراد العائلة X
إذاعة الأخبارX 
التمثيليات الاجتماعية في الإذاعة X
أخبار الصحفX 
التعليق على الكاريكاتير X
الشعرX 
الأدب الشعبي X

 

إذا يتحدث شارل فرجسون عن ظاهرة الطبقات اللغوية في علاقتها بالطبقات الاجتماعية، مع التمييز بين الجملة المعيارية، والجملة الشعبية. كما تحدث عن مستويين من اللغة: المستوى العالي، والمستوى المتدني، ويعني هذا أن فرجسون يميز بين العربية الفصحى، والعاميات العربية. والألمانية المعيارية والألمانية السويسرية. وفرنسية هايتي المهجنة والمختلطة. أي بين مستوى لغوي مفضل، و آخر مستهجن.

  1. الدجلوسيا واللغة العربية:

ازدواجية اللغة هي قدر كل اللغات، وتنشأ من طبيعتها لتصبح سمة لازمة من سمات اللغة. ولكن العربية تتميز بكونها من أكثر اللغات التي سيطرت عليها مثل هذه الازدواجية، وهو أمر دفع على الدوام باتجاه النظر فيها وفي لهجاتها المتفرعة عنها، ودراستها دراسة تعتمد الزمان والمكان والجنس، كما تعتمد الصيغة والبنية والصوت، وهو ما كان له الأثر البالغ في تطوير الدرس اللغوي وتعميقه وإثرائه.

والتقابل اللغوي بين الفصحى والعامية هو تقابل داخلي تبرز فيه العاميات بوصفها تفرعات لهجية للفصحى. حيث تمثل الفصحى والعامية في سياق اللغة العربية مستويين بينهما فرق أساسي حاسم، يتمثل في أن الفصحى نظام لغوي معرب، أما العامية، فقد سقط منها الإعراب بصورة شبه كلية.

  1. الدجلوسيا في المغرب

حسب التمييز النوعي الذي قام به “فرجسون” تعتبر العربية الفصحى هي النوعية العالية و العربية المغربية النوعية الأدنى، و تختص كل نوعية بمقتضى التوزيع الوظيفي بوظيفة معينة في مجال معين، حيث تستعمل العربية الفصحى في نفس المجالات التي تستدعي النمط اللغوي الراقي، في حين توظف العربية المغربية في مجالات النمط العامي والشعبي.

وتمتاز العربية الفصحى عند أفراد المجتمع المغربي بالحظوة؛ إذ ينظرون إليها نظرة تقديس وإعجاب، وتعلم اللغة العربية معناه عندهم تعلم العربية الفصحى ليس إلا، كما يعتقدون أن العربية الفصحى أجمل وأكثر منطقية من العربية المغربية. وإجمالا فهم يفضلون العربية الفصحى عن العربية المغربية، ويعزى هذا التفضيل بالنسبة لفرجسون إلى ارتباط النوعية العليا بالدين.

ويوجد على المستوى النحوي اختلاف كبير بين العربية الفصحى والعربية المغربية، و كذلك الشأن على مستوى المعجم. وباعتبارها لغة أدبية تعتبر العربية الفصحى أداة لنقل، واستعمال، وتوظيف التراث الأدبي. وقد خضعت العربية الفصحى لدراسات نحوية تقليدية ولها قواميس ودراسات في النطق على عكس العربية المغربية الني لم يبدأ الاهتمام بها إلا في العقود الأخيرة. ويرى فرجسون أن من الصواب اعتبار الأنظمة الصوتية للنوعين تشكل بنية فونولوجية واحدة وأن السمات الفونولوجية المختلفة هي بمثابة نسق فرعي.

و في حين تكتسب العربية المغربية تلقائيا في المؤسسة العائلية، فإن العربية الفصحى يتم تعلمها في المؤسسات التعليمية.

  1. التقريب بين العامية والفصحى

يعتبر التقريب بين العامية والفصحى خيارا إجرائيا لتفادي المشاكل الناجمة عن الدجلوسيا، شريطة أن يكون بارتقاء العامية إلى الفصحى، و ليس العكس.

وفي هذا الصدد، يرى كثير من المختصين والدارسين أن العامية تتجه يوما بعد يوم إلى ما يسميه بعض الباحثين ب “العربية الوسطى” أو “اللغة الثالثة”، أو”دارجة المثقفين”. ويعزى مثل هذا التوجه في تفصيح العامية إلى تراجع نسبة الأمية في الوطن العربي، وتنامي معدلات التعليم وانتشاره الواسع، وازدياد الوعي بأهمية اللغة الفصحى ودورها في تعزيز ثقافة الانتماء، وأيضا إلى انتشار الصحافة والإذاعة، والاطلاع على ثقافة الغرب ومعارفه.

والعربية الوسطى تقوم أساسا على أصول الفصحى في كل مستويانها؛ الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، فالعربية خلافا لكل اللغات العالمية الحية، تحافظ على نسقها العام، و لا تتبدد أو تتغير تغيرا جذريا أو كبيرا كما هو حال معظم لغات العالم.

و المستوى الكتابي للعربية الوسطى هو من الفصحى باتفاق، إنما يبقى الخلاف قي التلفظ و الخطاب، حيث تميل العربية الوسطى إلى التسكين و خاصة في أواخر الكلمات، و عند الوقف، و هو أمر يخرج – إلى حد ما – عن طبيعة الفصحى المعربة التي تمنح الأواخر حركاتها المناسبة.

و يبدو تعميم الفصحى المعاصرة وجعلها متداولة على مستويي الكتابة والخطاب، الحل الأنجع لتجاوز بعض مشاكل الازدواج اللغوي (تنامي قوه العاميات المختلفة على حساب الفصحى، وما له من أوجه وتداعيات)، وهو حل واقعي ويمكن تحقيقه على النحو التالي:

  • إعادة النظر في المناهج التربوية والتعليمية المتداولة، بحيث تخلص هذه المناهج لتحقيق هذه القراءة والكتابة الصحيحتين.
  • إنشاء أسواق لغوية وأدبية، تعمم من خلالها العربية المعاصرة، ويتم ذلك بالتشجيع على إنتاج مواد أدبية، وإلقائها في مثل هذه الأسواق، ونشرها، كي تسهم في جعل اللغة المعاصرة لغة متداولة في المحافل الأخرى أيضا.
  • تعريب التعليم الجامعي، وإعادة النظر باللغة التي تعلم بها مواد التخصصات المختلفة، لجعل الجامعة سوقا أخرى مفتوحة لنشر العربية الوسطى وتعميمها. ويأتي في هذا السياق، تشجيع البحث العلمي باللغة العربية الوسطى.
  • تطوير وسائل الإعلام و تطويعها لحمل العربية الوسطى وجعلها لغتها الرسمية.

لقد أقنعت الدراسة العلمية للغة معظم علماء اللسانيات بأن كل اللغات، وبالتالي كل اللهجات “جيدة”، على حد سواء، باعتبارها أنساقا لغوية تخضع لبناء معين، وتنطوي على نسبة من التعقيد، وتحكمها قواعد، وتستجيب تماما لاحتياجات الناطقين بها.

ولعل أهم ما يميز الوضعية المتسمة بالازدواجية اللغوية هو التخصيص الوظيفي للصنفين اللغويين، فمن غير المقبول أو بالأحرى مما يبعث على السخرية استعمال صنف لغوي خارج سياقه الوظيفي.

و في كل الأحوال، فإن الازدواجية اللغوية كظاهرة -تفرض نفسها بصورة حتمية تتشارك فيها العربية مع غيرها- ستظل دائرة حول الرأيين المتباينين بين قبولها والتخاصم معها. فما بين خطر الاندثار وطبيعية الازدواج، وضرورة الاحتراس وهدوء التصالح ستبقى الأسئلة قائمة حتى يُجاب عنها بشكل فعلي، فإما أن يتحرك الفريق المناهض لإثبات واقعية فروضه في مقاومتها، وإما أن يثبت الحدث والزمان أن الأمر عفوي بالفعل وبين صعود وهبوط.

  • المراجع:

1- عباس المصري، وعماد أبو حسن، الازدواجية اللغوية في اللغة العربية، المجمع، العدد 8 (2014)،ص37-76

2- جميل حمداوي، اللسانيات الإجتماعية، موقع الأنترنيت: شبكة الألوكة http://www.alukah.net/literature_language/0/88751/

3- علي عبد الواحد وافي، اللغة والمجتمع، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، مصر، الطبعة 1، سنة 1971م.

  • محمود إبراهيم كايد، العربية الفصحى بين الازدواجية اللغوية، والثنائية اللغوية، “المجلة العلمية لجامعة الملك فيصل، العلوم الإنسانية و الإدارية”، المجلد الثالث، العدد الأول، ذو الحجة 1422ه / مارس 2002م.
  • أحمد سعود، الدجلوسيا في المغرب، جامعة الحسن الثاني عين الشق، كلية الاداب والعلوم الإنسانية عين الشق، الدار البيضاء، المغرب.
  • بيتر ترادجل، السوسيولسانيات: مدخل إلى دراسة اللغة في علاقتها بالمجتمع، ترجمة: محمد كرم الدكالي، أفريقيا الشرق، ، الدار البيضاء، المغرب. 2017م

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M