الربا في الحضارات السابقة

21 أبريل 2024 19:09

هوية بريس – ذ. نبيل العسال

تقديم:

نلقي في هذا البحث الموجز نظرة عن موبقة الربا في الحضارات السابقة للإسلام؛ وقد جاء محتواهُ في تسلسُلِه التاريخي على النحو التالي:

التعريف بالربا في الحضارات الشرقية القديمة، ثم الكلام عن الربا في الحضارة اليونانية -أي الحضارة الإغريقية- وأبرز منظِّريها: (أفلاطون وأرسطو)، ثم الكلام عن الربا في الحضارة الرومانية التالية لليونانية.

ثم الكلام عن الربا أو سعر الفائدة في الديانة اليهودية، ثم في الديانة المسيحية. ونتعرض بالبحث أيضا إلى الربا في المجتمع الجاهلي قبل الإسلام، وإلى الربا في العصور الوسطى في أوروبا قبل مجيء الإسلام وبعده.

ثم يأتي الكلام أخيرا عن سعر الفائدة بعد مجيء الإسلام في شتى الأقطار.

الربا في الحضارة الشرقية:

عرفت الحضارة الشرقية القديمة الفرعونية والسومرية والبابلية والآشورية نظام التعامل بالربا، بموازاة بروز الحركة التجارية؛ حيث بلغت أسعار الفائدة مستويات كبيرة جدا بنحوٍ من 33%، مما أثَّر سلبا على الاقتصاد بشكل عام، حيث اضطر بعض الحكام وأصحاب القرار إلى إصدار قوانين تحد من الارتفاع الفاحش في نسبة أسعار الفائدة، أي الربا. وقد لقي التعامل بالربا استنكار معظم الفلاسفة والعلماء؛ حيث كان يعتبرُ شكلا من أشكال الاستغلال الفاحش.

الحضارة الفرعونية:

تجاوزت الربا في الحضارة الفرعونية رأس المال، مما اضطر الملك الفرعوني “بوخريس” إلى أن يضع قانونا يقضي بعدم تجاوز الربا لرأس المال الأصلي مهما طالت مدة القرض. وقد صارت القوانين البابلية والآشورية وعلى نفس هذه الخطى. لذا قال بعض الفلاسفة كالفيلسوف المصري “سولون” مثلا، بضرورة إلغاء الربا لتحقيق سياسة اقتصادية ناجعة وناجحة في المجتمع. أما عن الحضارة البابلية فقد ورد نص في “قانون حمورابي” يقضي بإلغاء التعامل بالربا كليا.

الربا عند اليونان:

 انقسم المجتمع اليوناني حول هذه المسألة؛ حيث وُجد من كان يشجع الربا ويناصره، بينما كانت فئة أخرى تقبح التعامل به وتُنفر منه. ونذكر على سبيل المثال: الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي ذمَّ الربا وأدانَ والمُرابين وشنَّ عليهم في كتابه “القانون”، وقال لا يحِلُّ لشخص أن يُقرض بالربا (1) وقال أيضا: وأعتبر الفائدة كسبًا غير طبيعي.  ونذكر أنَّ أفلاطون قد ذكر كل هذا الذم للربا والإدانة للربا والمرابين في معرض حديثه عن المدينة الفاضلة. وكذلك فعل تلميذه: أرسطو، حيث نهج نفس النهج، فيقول بأن النقود غير منتجة في حد ذاتها وهي مجرد وسيط للتبادل. وإذا استعملت النقود للحصول على اقتراض وتضمنت زيادة معينة، أي: الربا، فإن النقود حينها تخرج عن وظيفتها الأساسية كوسيط للتبادل ولا حاجة لهذه الزيادة.

ولقد تعرض للموضوع في حديثه عن الفن اكتساب الثروات، فهو يرى أن الربا أحقر أنواع الكسب وأخسَها، ونذكر هنا أنه هو صاحب المقولة المشهورة: ” النقد لا يلد النقد والنقد عقيم”، في حين يذهب معاصرو كل من أرسطو وديموستين إلى العكس؛ فهم لا يرون الربا مذموما. وبذلك يتضح أن التعامل بالربا قديم في الزمن وفي التعامل البشري، ولكنه كان موضع خلاف بين المفكرين والفلاسفة وذوي المال والجاه.

الربا عند الرومان:

أما عن الرومانيين الذين تأثروا كثيرا بالحضارة اليونانية فقد حرموا التعامل بالربا في الإمبراطورية الرومانية  في عصرها الأول،  لكن و بالتدريج بعد توسع الإمبراطورية، ونفوذ طبقة النبلاء، سنَّت هذه الأخيرة قوانين لحماية المدنيين المستغلين من طبقة النبلاء أبشع استغلال إلى حد الاستعباد. ثم تطور التعامل بين طبقات المجتمع الى شيوع الربا بينهم في روما وفي باقي مدن الإمبراطورية الرومانية .

والجدير بالذكر، أن القرض الربوي لليهود قد ظهر في الإمبراطورية الرومانية التي كان يعيش بها 6 ملايين يهودي، حيث صاروا هم “الحرفيون والتجار والمقرضون والسماسرة “. وفي عام 66 قبل الميلاد تعرض اليهود للإبادة على يد الرومان، حيث استولى” نيرون” على حصن “ماسادا” الذى شهد انتحارًا جماعيا لليهود.

الربا عند اليهود:

أما عن بيان الربا في الديانة اليهودية فقد قال الله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما [سورة  النساء: 160] وهذا دليل واضح على أن الربا كان محرما في الديانة اليهودية ؛ وهو منصوص عليه في كتبهم كذلك؛ لكن تعرضت التوراة كما نعلم لتحريفات لنصوصها. ومن بين التحريفات التي طالتها: اعتقادهم كون  الربا محرما بين اليهود فيما بينهم أخذا وعطاءً ، وأنه ليس بحرام بين يهودي وآخر غير يهودي، ذلك  لأنهم يرون أنفسهم الشعب المختار وأن باقي الشعوب والأعراق هم كالبهائم لا حرمة لهم، لذلك لا يحرمون الربا بينهم وبين الشعوب والأعراق الأخرى، لذا  قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير [سورة المائدة: 18] وسيأتي فيما بعد أن اليهود الأوروبيين كان لهم  دور مهم للغاية في شرعنة التعاون بالربا في أوروبا.  ونشير إلى أن كلمة الربا يقابلها في العبرية ‘نيشيخ’، وهي تعني قضمة أو قطعة.

الربا عند النصارى:

أما عن الربا في الديانة النصرانية، فقد حرمت الربا سواء ما بين النصارى فيما بينهم أو بين النصارى وغيرهم؛ خلافا لليهود. فهذا التحريم للربا أصبح فعالا في عهد ” تشارلمان ” في القرن التاسع، حيث كانوا يعتبرون أن الفقير أو المسكين يجب أن يقرض المال بدون فائدة، أي: ما نُسميه في شريعتنا القرض الحسن. وهذا التحريم – أي تحريم الربا في القرن التاسع – الذي حرم على الشعب صار مُطبقا على أنه المذهب الوحيد في المجتمعات الأوروبية طوال القرون الوسطى (3)

وبهذا يتبين بأن كل الديانات السماوية كانت تحرم الربا.

 الربا عند العرب قديما:

أما عن الربا في المجتمع العربي قبل الإسلام؛ فقد كانت التجارة مزدهرة في مكة والطائف، وكان التعامل بالربا أمر شائعا حيث بلغت الفائدة أكثر من 40%، وقد تمكن المرابون من السيطرة والهيمنة على الحياة الاقتصادية في المجتمع الجاهلي وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلّ أجل الدَّين قال من هو له لمن هو عليه: أتقضي أم تُربِي؟ فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي عليه، وأخّر له الأجل إلى حين. ورغم ذلك فإنهم كان يشمئزون من عملية الربا وينظرون إليه نظرة ازدراء ويعدونه من الطرق غير السليمة في الكسب.

ومما نذكر هنا أنهم لما أرادوا إعادة بناء الكعبة، حرصت قريش أن تجمع الاموال اللازمة لذلك من البيوت التي لا تتعامل بالربا، لأنهم يعتبرونه سحتا من الناحية الأخلاقية، حيث كان يسود نوعان من الربا في ذلك الوقت: ربا القرض؛ حيث إنه كان ينتج عن عملية الإقراض لمدة معينة وعند عدم تمكن  المدين من سداد القرض في تاريخ محدد يطلب المدين  أن يزيده الدائن مقابل امهاله مدة إضافية فيتم إضافة زيادة معينة تصل أحيانا إلى ضعف الثمن الأصلي للدين.

أما النوع الثاني، هو الربا الذي ينتج عن عملية بيع السلعة التي يتم تسديد ثمنه لاحقا، فعند عدم تمكن المشتري من تسديد الثمن خلال الأجل المضروب، فيضافُ مبلغ معين على الثمن الأصلي؛ وهذا هو ربا الجاهلية. أما في الإسلام، فمعلوم أن الربا محرم بالكتاب والسنة والاجماع، فهو من الكبائر، ولا خلاف في ذلك. وسنتطرق لذلك في حلقة مقبلة بالتفصيل.

الربا في أوروبا

كانت أوربا التي تدين بالنصرانية تحرم الربا وتنهى عن التعامل به، أما اليهود ـ والذين كانوا يمتنعون من التعامل بالربا فيما بينهم ـ كانوا ممنوعين من التعامل به مع غيرهم تحت وطأة الكراهية والذل الذي كانوا فيه.

وبعد انتقال اليهود إلى أوروبا عقب سقوط بغداد والخلافة الإسلامية، وتحول مركز الثقل إلى أوروبا، كانت هذه الأخيرة تشكو حاجتها إلى النقد المعدني، ولم يكن هناك ما يكفي من الذهب والفضة لضمان إجراء العقود والمعاملات. وفى هذه الوضعية قرب العام 1000 م وجد اليهود الذين قدر عددهم في أوروبا بنحو 150000 فقط أنفسهم في وضعية مستثناة، بحيث أصبحوا الوحيدين الذين لهم حق منح قروض، بينما كانت الحاجة إلى المال قوية، وكانت هذه المهمة هي الوحيدة المسموح لهم به: ” لقد كانوا نافعين والمسيحيون اعترفوا لهم بذلك”، وخلال القرون الثلاثة التالية لعب اليهود أدوارا سياسية من بوابة المال، فقد عايشوا في أوروبا مرحلة إنشاء الدول القومية، فأخذ الملوك أيضا يقصدونهم “وكان اليهود مستعدين للدفع من أجل أي شيء، حتى من أجل المعارك والحروب الصليبية”.

ونظرا لتعاملهم بالربا؛ فإن اليهود تمكنوا في وقت قصير من مراكمة ثروات طائلة، فكانوا يقرضون المال لمدة عام أو أقل مقابل فوائد كبيرة، مما ضاعف أموالهم بنسبة 50 إلى 80 %، فتراكم المال عند اليهود بسرعة (4).

وفي أواخر القرن السادس عشر ميلادي، بدأت أوروبا بالتمرد على هذا الحكم الإلهي: وهو تحريم الربا، حيث كانت هناك بعض المحاولات والخروقات فردية؛ إلا أن الربا لم ينتشر ولم يقر كقانون معترف به إلا بعد الثورة الفرنسية، فكانت ثورة على الدين والحكم الإقطاعي والملكي..

ومن جملة تلكم الأحكام الدينية في أوربا كما علمنا: تحريم الربا، فنبذ هذا الحكم ضمن ما نبذ من أحكام أخرى، وكان لا بد أن يحصل ذلك، إذ إن اليهود كانت لهم اليد الطولى في تحريك الثورة الفرنسية واستغلال نتائجها لتحقيق طموحاتهم، من ذلك إنشاء مصارف ربوية، لتحقيق أحلامهم بالاستحواذ على أموال العالم. ثم استغل هذا الظرف أثناء الثورة، وأحل الربا وأقر:

فقد قررت الجمعية العمومية في فرنسا في الأمر الصادر بتاريخ 12 أكتوبر سنة 1789م أنه يجوز لكل أحد أن يتعامل بالربا في حدود خاصة يعينها القانون.

ثم صدرت فرنسا هذا التمرد على الدين وعزله عن الحياة إلى سائر الأقطار الأوروبية، ومن ذلك التمرد على تحريم الربا، وقد كان اليهود في ذلك الحين من أصحاب المال، وذلك إبَّان الثورة الصناعية، واحتياج أصحاب الصناعات إلى المال لتمويل مشاريعهم، فأحجم أصحاب المال من غير اليهود عن تمويل تلك المشاريع الحديثة خشية الخسارة.

وفي المجال المالي، ظهرت إمبراطوريات مالية يهودية في أوروبا وامتد نشاطها إلى أمريكا. ومن أبرز تلك الإمبراطوريات المالية عائلة (روتشيلد) اليهودية وغيرها التي قامت بتمويلِ الحركات الثورية والمنظمات الصهيونية التي تخدم مصالح اليهود. فاستطاع اليهود أن يتغلغلوا في الأوساط الدينية والاجتماعية والمالية والعلمية والسياسية في البلاد الغربية ذات النفوذ العالمي مثلِ: بريطانيا وروسيا وفرنسا ثم أمريكا وغيرها.

أما في المجال العلمي، فقد سيطر اليهود عن طريق المال بشرائهم وإنشائهم للمؤسسات العلمية المقروءة والمسموعة والمرئية، مما مكنهم من التحكم في الحكومات والشعوب وتوجيههم حسب خططهم وأهدافهم ومصالحهم.

أمثلة:

بادر اليهود الإقراض بالربا في أوروبا، حيث الربح المضمون ولو كان على حساب إفلاس المقترض. وقد كانت أوربا في ذلك الحين مستحوذة على بلدان العالم بقوة السلاح، فارضة عليها إرادتها، فلما تملك اليهود أمرها وتحكموا في إرادتها صارت إليهم السيطرة والتحكم في العالم أجمع، ومن ثم فرضوا التعامل بالربا على جميع البلاد التي تقع تحت سيطرة الغرب، فانتشر الربا وشاع في كل المبادلات التجارية والبنوك، فاليهود كانوا ولا زالوا إلى اليوم يملكون اقتصاد العالم وبنوكه.

فاليهود هم وراء نشر النظام الربوي في العالم، وكل المتعاملين بالربا هم من خدمة اليهود والعاملين على زيادة أرصدة اليهود ليسخروها في ضرب الإسلام والمسلمين وكافة الشعوب. فانتشر بهذا الربا ومعه كافة الأمراض الاقتصادية والسياسية والأخلاقية الاجتماعية.

الربا عند المسلمين

إذا نظرنا في واقع المسلمين ومنذ البعثة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، فإننا نلحظ بشكل جلي انعدام التعامل الربوي بأي صورة من صوره في المجتمع الإسلامي عبر العصور المختلفة، بما فيها أزمنة الخلافة الإسلامية التي بلغت القسطنطينية وبعض الحدود الأوروبية. ومع هذا الانتشار الواسع للحضارة الإسلامية لم يكن للربا وللمعاملات الربوية أي حظ في تجاراتهم ونشاطهم الاقتصادي، بل كان البعد عنه مصدر قوتهم اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا بشهادة الجميع. وهذا الواقع ينسف بشدة المقولة الرائجة التي تعتبر قوة كل اقتصاد مرتبطة بالربا، وهو تنظير باطل يهدم أسسه واقع النظام المالي الإسلامي بشتى أشكاله وصوره.

 خاتمة:

من خلال ما تقدم عرضه؛ فإننا نلحظ بشكل لا يدع مجالا للريب، أن التعامل بالربا كان مذموما ومستقبحا في مختلف الحضارات السابقة وعبر العصور، حيث كان عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين والعلماء ورجال السياسة ينتقدون كل المعاملات الربوية ويذمونها أشد الذم.

كما أن هذا النوع من المعاملات كان دائما ما يشكل حجرة عثرة في مختلف المجالات الاقتصادية والمالية، مما يدفع الجهات الحكومية دومًا إلى التدخل لإنقاذ ما تخلفه الربا من آثار مدمرة للاقتصاد واضطرابات في المجتمعات.

وقد شهد هذا القرن الميلادي، ومنذ سنة 1929 إلى يومنا هذا نحوا من مائة أزمة مالية بسبب المعاملات الربوية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

(1) مجلة المسلم المعاصر، العدد: 23، سنة 1400 (ص:100).

(2) كتاب شرائع السماوية تحرم الربا في الإقراض والاقتراض في العمليات التجارية والمصرفية، للدكتور القاضي برهون الصفحة 57.

(3) الدراسات الإسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية، محمد عبد الله دراز صفحة 151 وما بعدها.

(4) كتاب اليهود العالم والمال، الدكتور جاك آتالي.

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M