همسة في آذان أعداء العلوم الإنسانية

14 أبريل 2024 21:18

هوية بريس – محمد كرم

وصلني في بحر الأسبوع الماضي شريط فيديو استفزني أيما استفزاز و أبيت إلا أن أعقب على صاحبه بالتي هي أحسن … أو بالأحرى بالتي هي أبسط .

فحوى الشريط عبارة عن مقارنة تهكمية بين علماء الغرب و ما تحقق على أيديهم من اختراعات و بين علماء الدين المسلمين الذين لم يبرعوا طوال حياتهم العلمية إلا في فن الكلام و الوعد و الوعيد و لم ينفعوا لا بني جلدتهم و لا غيرهم من الأقوام بشيء يستحق الذكر، حسب تعبير الشاب الوسيم صاحب هذا الاستنتاج “الثوري”. و ما زاد الطين بلة أن منتج الشريط ربما تعمد تعديل صور بعض علمائنا فبدت وجوههم و كأن بها مسحة كاريكاتورية الغاية من إضافتها تنفير المتابعين منها و حملهم هم أيضا على الاستهزاء بها. و كان من “الطبيعي” أن ينال منتوجه العجيب المئات من قلوب الإعجاب، و كان من “المنتظر” أيضا أن يتفاعل الكثير من مستهلكي المنشورات الإلكترونية مع محتوى الفيديو و ذلك بتحرير تعليقات صب جلها في اتجاه الزيادة في جرعة التهكم في حق من أبوا إلا أن يحملوا على عاتقهم رسالة تحقيق الأمن الروحي للناس و يكرسوا حياتهم لتنوير بني البشر بدعوتهم إلى سلك الصراط المستقيم أو بتفسير ما استعصى على الفهم أو بالخوض في القضايا الشرعية و الفكرية الصغرى منها و الكبرى، و لو ظل نشر الأفكار يتم بالطرق التقليدية لما سمح الرقيب لهذا الصنف من المحتوى بأن يجد طريقه إلى القراء أو المستمعين أو المشاهدين لما فيه من مغالطات و خدش صارخ لصورة ورثة الأنبياء. لقد اختلط الحابل بالنابل عندما ساوت وسائل النشر الحديثة بين العالم و الجاهل حتى أصبح المتلقي المنتمي لعامة الناس في حيرة من أمره إذ لم يعد يعرف ما إذا كان عليه أن يأخذ بحجج الأول أم بهرطقات الأخير.

و في واقع الأمر لا يتوقف استخفاف صاحبنا و أمثاله من السطحيين و عديمي المناعة الحضارية عند العلماء الربانيين بل يتعداه في الغالب ليشمل كل المنخرطين في العلوم الإنسانية أيضا بما أن المنتسبين لهذه الفئة من المثقفين لا ينتجون هم كذلك غير الأفكار و تعوزهم القدرة على الإتيان باختراعات مادية تضاهي في قيمتها قيمة الصواريخ الباليستية أو الطائرات النفاثة أو البينيسيلين أو الأنسولين. و لهذا السبب أجدني مضطرا إلى توسيع النقاش ليشمل كل هؤلاء أيضا.

للأسف الشديد، لقد أضحى تمجيد الماديات و التخصصات الدنيوية الحديثة ثقافة راسخة في طريقة تفكير الكثير من المجتمعات المتخلفة و هذا ما يفسر احتقار المغاربة لما يصطلح عليه ب “الشعب الأدبية”  لدرجة أن رسو اختيار أحد الأبناء على علم من العلوم الإنسانية يعتبره معظم الآباء كارثة بل و  وصمة عار على جبين العائلة. هناك اليوم حاجة ماسة إلى حث شرائح واسعة من المجتمع على إعادة النظر في مقاربتها لهذا الصنف من العلوم و على التوقف عن تصنيف المسالك الأدبية ضمن الملاجئ المفتوحة حصريا في وجه طلاب العلم المتوسطين الذين لا يجيدون غير الحفظ عن ظهر قلب (يا له من تبسيط سخيف !!). المسألة إذن مسألة عقلية قاصرة و تربية معيبة في غياب الوعي بأهمية تكامل العلوم. فالتلفاز مثلا كاختراع علمي يشهد الجميع بأهمية دوره  في التثقيف و الإخبار و التسلية لن يصلح بالتأكيد لأي شيء إذا ظل مجرد صندوق، إذ لابد أن يشتمل على مضمون يحمل توقيعات إعلاميين و فنانين و فلاسفة و منشطين و مفكرين و أدباء و غيرهم ممن لا علاقة لهم إطلاقا لا بالرياضيات و لا بالكيمياء و لا  بالفيزياء و لا بعلوم الحياة و الأرض، و أوراش من قبيل بناء سد كبير أو إقامة منطقة صناعية مندمجة أو شق طريق رئيسية جديدة من المفترض ألا تفتح إلا إذا خضعت المشاريع المعنية بالأمر لدراسة سوسيولوجية مسبقة يكون الإنسان محورها.

طبعا مقارنة تنطوي على قدر هائل من التبسيط كتلك التي جاء بها الفيديو المعلوم لا يمكن أن تصدر إلا من جاهل أو من تافه منبهر بالماديات و يختزل مقومات الحياة على الأرض في الأزرار و الشاشات و الأسلاك الكهربائية و الهياكل الحديدية و السبائك الفولاذية و  الألواح القصديرية و القطع البلاستيكية و المطاطية و المكونات الإلكترونية و الميكانيكية، أما باقي عناصر الحياة من تفكير و تدين و تربية و تعليم و إبداع  و تشريع و نشر للوعي فلا تستحق أي اهتمام أو تنظير أو تأطير في تصوره إلى أن يدرك يوما ما بأن المصير الحتمي للماديات هو مطارح الأزبال و مقابر العربات و أسواق المتلاشيات و ذلك بمجرد ما يظهر اختراع جديد جاء ليعوض اختراعا تجووزت  موضته أو انتهت صلاحيته أو بمجرد ما تطرأ إضافة على اختراع متداول.

إن الاختراعات مهما علت قيمتها و تأكدت فائدتها لا تجلب الوئام  و لا تخلق السعادة و الطمأنينة و التوازن النفسي و لا تضع حدا للمشاكل الاجتماعية العويصة و لا و لن تعوض الإنسان أبدا في العناية بالأطفال و تربيتهم و لن تقف في وجه الموت و إن أفلحت في تمطيط الحياة ببضع سنوات. الخلود يكون دائما للأفكار السوية (و حتى المنحرفة أحيانا) و للإبداع الأدبي و الفني البناء (و حتى الهدام أحيانا) و لا أدل على ذلك من أن زبدة تفكير أفلاطون و ابن رشد و ديكارت و روائع موليير و توفيق الحكيم و شكسبير و درر دوستويفسكي و مصطفى محمود و هنري ترويا و حتى “انحرافات”  كارل ماركس و أبي نواس و نوال السعداوي لم تتوقف أبدا عن المساهمة في إدارة دواليب المطابع، و لو لم يكن الأمر كذلك لما رفضت كل المتاحف التاريخية الكبرى تخصيص فضاء لعرض الآلات و الأجهزة المصنعة و لما تشكلت أساسا معظم حكومات العالم من ذوي التخصصات المرتبطة بالعلوم الإنسانية بحكم قربهم من هموم الناس و نظرتهم الشمولية للملفات المطروحة و قدرتهم على القراءة الذكية و التعبير و التواصل و استشراف المستقبل و لما كادت شوارع العالم بأسره أن تخلو من أسماء المخترعين المعاصرين و تعج في المقابل بأسماء المفكرين و المصلحين و المبدعين و المقاتلين و رجال السياسة  و ذلك حتى في الدول الغربية مهد المستجدات التكنولوجية … و شاء من شاء و أبى من أبى ستظل ألعاب القوى أم الرياضات، و سيظل المسرح أب الفنون، و ستظل الفلسفة (و كل ما تفرع عنها) أم العلوم.

لقد عاش الإنسان لآلاف السنين بوسائل بسيطة و عمر الأرض و أبدع في أكثر من ميدان و لم يثبت أبدا بأنه خرج يوما ما في مسيرة مليونية للمطالبة بابتكار أدوات توفر عليه الوقت و الجهد و تؤمن له المزيد من الراحة و الرفاهية إلى أن فرضت عليه هذه الأدوات بشكل فجائي و انتهى به المطاف إلى الاستئناس بها،  لكنه في المقابل عبر عند الاقتضاء و غير ما مرة عن حاجته إلى السلم و السكينة و العدل و الحب و التعاون و الإخاء، و هذه حاجيات لا تدخل تلبيتها ضمن أهداف المختبرات العلمية . و لم يكن هذا الكائن أيضا بحاجة إلى الذكاء الاصطناعي بما أن ذكاءه الطبيعي مكنه دائما من تطويع الطبيعة و تدبير أموره و قضاء مآربه بشكل مرض  بل و أهله أيضا لوضع الأسود في أقفاص على الرغم من ضعف بنيته مقارنة ببنية هذه الكائنات الرهيبة. و في غياب الطائرة تمكن أجدادنا من الوصول إلى السند و الهند، و في غياب السينما و يوتوب و التلفزيون لم يقفوا مكتوفي الأيدي و راحوا يرفهون عن أنفسهم  بطرق أخرى، و في غياب وسائل التطبيب الحديثة توكلوا على الله و جربوا الوصفات التقليدية و خبروا  ثنائية الحياة و الموت كسابقيهم و معاصريهم و من أتى بعدهم من الكائنات الحية، و في غياب تقنية التراسل الفوري اكتفوا بوسائل الاتصال التقليدية و لم يشتكوا أبدا من بطء أدائها، و في غياب الإنترنت ظلوا يلهثون وراء المعلومة بشتى الأساليب البدائية إلى حين العثور عليها.

لا شيء إذن يبرر تمجيد تكنولوجيا العصر إلى حد العبادة و خاصة عندما نلاحظ ما آلت إليه أمور بعينها بسببها. انظروا مثلا إلى تأثير الهاتف المحمول على سلوك الأشخاص، و انظروا إلى تأثير الإنترنت على أداء الكسالى و الغشاشين من المتعلمين و الباحثين، و انظروا إلى ما فعلته و ما زالت تفعله الألعاب الإلكترونية بعقول الأطفال، و انظروا إلى الإحراج و الانزعاج اللذين تتسبب فيهما كاميرات المراقبة و كاميرات التصوير عندما يدرك المرء بأنه في مرمى عدساتها في أكثر من فضاء، و تخيلوا معي ما سيكون عليه كوكبنا لو قدر لأزرار الترسانات النووية أن تصبح تحت تصرف مجموعة من الزعماء الحمقى … و ما هذا سوى غيض من فيض. الأنكى من هذا و ذاك أن العلم المادي الحديث رهن حياة الناس بشكل غير مقبول، إذ يكفي مثلا أن ينقطع التيار الكهربائي لتشل الحركة بالكامل، و يكفي أن يتسرب فيروس إلى حاسوب أو مجموعة حواسيب لتصبح المعطيات المعلوماتية المخزنة في خبر كان … و يكفي أن تـتـذكر و أنت بمقر عملك أو على متن سيارتك أو بسوق حيك أنك نسيت محمولك بالبيت ليجن جنونك  !!!!

لست هنا بصدد التقليل من أهمية المستجدات التكنولوجية المتواترة. أنا أريد فقط إثارة انتباه الناس إلى ضرورة تثمين كل التخصصات بدون استثناء حتى لا ندفع من حيث لا ندري في اتجاه تكريس الطابع التقني لمنظومتنا التعليمية و تجريدها في المقابل من رسالتها الإنسانية المتمثلة في ربط المتعلم بهويته الموروثة مع مساعدته على الانفتاح على مختلف التيارات الفكرية و الإبداعية العالمية و مع تمكينه من أدوات البحث و النقد و التحليل. المجتمع بحاجة إلى المخترع و الطبيب و الطيار و الميكانيكي بنفس درجة حاجته إلى الفقيه و السياسي و المهرج و الكاتب العمومي.

إن انبهار الناس بحاملات الطائرات الأمريكية و الفرنسية و بناطحات السحاب النيويوركية و الخليجية و بالسيارات الرباعية الدفع اليابانية و الألمانية  و إن كان هناك ما يبرره فإنه لن يحول أبدا دون استمرار تأثير الفلاسفة و الأدباء و الشعراء و الفنانين في حياة المجتمعات و لن يحول دون استمرار تقبيل أيادي العلماء الربانيين في مشارق الأرض و مغاربها رغم كل المحاولات الرامية إلى تقزيمهم. فمهام كل هؤلاء  و إنجازاتهم، و إن كنا لا نراها دائما بالعين المجردة، إلا أن أثرها على سمو النفس و الروح و دورها في الارتقاء بالسلوك البشري و العلاقات الإنسانية و في تشكيل الرأي العام لا يخفيان حتى على فاقدي حاستي السمع و البصر… و الثورات الشعبية التاريخية الناجحة عبر العالم ما كانت لتحدث لو لم يمهد لها الطريق المثقفون و المفكرون و محبو الحكمة العظام و الذين لا تفرخهم الجامعات بالعشرات، إذ لابد من انتظار عشر سنوات أو عشرين سنة ليبرز إسم من عيار محمد عبده أو عبد الوهاب المسيري أو عبد الله العروي و هذا في الوقت الذي تضمن فيه دولة بمقدرات و وسائل دولتنا تخرج ما يناهز 2000 مهندس و 2000 طبيب سنويا.

فليكف البعض إذن عن اعتبار العلم حكرا على طبقة من العلماء دون غيرهم. فالعلم في نهاية المطاف هو ما نعرفه و ما لا نعرفه. هكذا كانت قناعة كونفوشيوس فيلسوف الصينيين قبل حوالي 2500 سنة.

 

إضافة لها علاقة بما سبق :   

مرت بريطانيا بضائقة مالية من جراء مشاركتها في الحرب العالمية الثانية فما كان من أحد أعضاء مجلس العموم إلا أن وقف ليقترح على رئيس الوزراء آنذاك ونستون تشرشل تقليص ميزانية وزارة الثقافة ضمن حلول أخرى ممكنة. لم يتوسع هذا الأخير في رده على اقتراح النائب البرلماني واكتفى بقول ما معناه : إذا كان علينا خفض ميزانية وزارة الثقافة فما هو مسوغ انخراطنا في الحرب أصلا؟

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M