عندما تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة

09 سبتمبر 2019 00:57
بين الكلب والحمار وفرعون وعصيد

هوية بريس – محمد بوقنطار

دخلتْ القاعة في زهو تمشي في خيلاء على غير استحياء، تترصد حركاتها وخطواتها وإشاراتها عدسات المصورين وتسلط على خشبتها أشعة نيون الكاميرات المبثوثة في كل جانب من جنبات القاعة، متوجهة هي إلى الأمام حيث انتهى بها المشي إلى جلوسها وراء طاولة عرضها عرض منصة القاعة، وقد تحلقت واصطفت أمامها مجموعة من المكروفونات ذات الألوان والعناوين والأسماء الدالة على مسميات المواقع والجرائد والمجلات الصحفية، وقد قابلها في تسفل سحيق جمهرة من الصحفيين والصحافيات، يتعاقبون في عجلة واهتبال وتشوف إلى مبادرتها بالسؤال، وأي السؤال فلا يهم، فالمهم هو الحظوة بهذا الامتياز المردوف بحظ التقاط إجابتها أو استدراكها أو نقدها أو سبّها لغائب أو ملاسنتها لحاضر أو حاضرة، وكأني بها تبيع للحاضرين أنفاس الحياة وعبقها، وكأني بها طبيبة توصلت إلى ترياق الحياة وشبابها، وكأني بها أديبة ملأت دنيا المعرفة بنصوصها وأشعارها ومصنفاتها في الأدب الرصين، وكأني بها مهندسة قد شيّدت الصروح والناطحات ومدّت القناطر والجسور، كأني بها سيدة فهرية تبرعت من حر مالها لبناء جامعة أو إقامة مستشفى أو جامع تقام فيه الصلوات وينصر فيه القرآن وتدرس في جنباته علوم اللغة وضروب المعرفة الإنسانية، وكأني بها مخترعة ابتكرت ما يجعلنا في مصاف الدول الصناعية، أو أستاذة تخرج من حضنها العلمي والمعرفي الأعلام من العلماء والأدباء…

وللأسف لم تكن هي برسمها واسمها وفنها الطافح بما إذا أقبل فتن وإذا أدبر قتل من هذه المعطوفات شيئا مذكورا، فيا لحيرة الحيارى من سر هذا التقصف والبك والتهارش الذي حام حول هذه السيدة أو الشابة على أصح تقدير من طرف هؤلاء الصحفيين والصحافيات، حتى لكأنك كنت تحسب الموقف فوزا برهان حجرته ثقيلة ومكانته متسامية وغنمه فيض من غيض، موقف التطلع إلى نوال حظوة عنوانها ونصيب لغوبها سماع صوت هذه الشابة التي توارى وجهها النحيف وراء ملحمة من الأسباغ والأقنعة، وبدت صنعة تبييض الأسنان وموضتها بادية على الثغر من عريض ابتسامتها الساخرة أو المتهكمة أو المتعالية في جفوة وسطوة مجادلة، وتلك والله مصيبتنا وآفتنا من أقصى المشرق إلى أدنى المغرب، آفة لها قصتها ومصيبة لها حكايتها، ولكل من الحكاية والقصة أبطال وشواكل وأتراب وأضراب، حشف تمر وتهافت كيّال، جرّأ علينا هذا المروق وغلّب كفة الإتراف على عمل الأشراف حتى بلغ مبلغا جعل فنانا مغنيا يتبرأمن بدايته المهنية كمعلم في المدرسة العمومية واصفا الوضع بكونه ضرورة دفعه إليها تحمله المسؤولية مبكرا لفقر والديه -ولا يهمنا إن كان كاذبا في فحوى مسوغ الفقر أم صادقا وقد عُلم بالصوت والصورة ما وصل إليه حال الأسرة بعد استدراك الإخوة الغاوين-ولكن الأهم هو الوقوف على ماهية هذه الحيدة الأخلاقية التي كرّست الاعتبار الذي يشير إلى مهنة التعليم كنقيصة ومعرّة تم تصحيحها في مستقبل أيام هذا المغني عبر مساره الفني الناجح والمتميّز على حد تعبير الجهة المحاورة.

وربما كان الخطب هنا غير جلل إذا ما قورن بثالث وقد نال شهادة الدكتوراه تخصص فيزياء نووية من إحدى الجامعات السويسرية ليحوِّل الوجهة وينسخ المجهود ويقتحم عالم الغناء الشعبي ضارباثراته المعرفي الأكاديمي في الصفر، ومعلقا عن هذه الردة الأخلاقية بكون سعادته في طلب العلم إنّما كان المسار تحت طائلة الإكراه والنزول عند رغبة وآمال الوالدين وقد تم الوفاء بالوعد ليستجيب في الأخير إلى نداء الذات وجمالية الحياة، وقريب منه قبلا وسبقا نجد سيرة الطبيبة الجراحة التي فضلت الغناء على متاعب مهنة الطب، وثالث تأبط دفا “بنديرا” يطوف به من عرس إلى عرس ومن سهرة إلى أخرى ومن مهرجان إلى آخر، وذلك بعد حصوله على درجة الماجستير في الرياضيات التطبيقة، ورابعة فضلت التمثيل على ما تحصل لها من شهادة الدكتوراه في الصيدلة حيث آثرت تسويق الداء على بيع الدواء، وآخرون كان شرفهم من شرف معلومهم،ولكنهم استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويا ليت الاستبدال أردفه الاستغفار ولكنه انتقال عاشه هؤلاء بإصرار واستبشار وافتخار، صدقه وعضد من شبهته ثراؤهم الذي وصلوا إليه عبر أقرب طريق وقليل مجهود نربأ بأنفسنا تكرار حساب ما جنوهواغترفوه وتلصصوه من جيوب الثمالى والمترفين وصناديق الدعم المتكفلة بصب الوقود في محركات هذا العبث وهذا المجون وهذا اللهو الذي أصاب الأمة في مقتل.

تذكرت وأنا أتابع هذا الهرج نظرية المقريزي وأساسها الذي يقوم على مبدأ أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة،ثم ربطت هذه النظرية المالية في ذهني لتتلاقح مع التهمة القديمة المتجددة، وأعني بها تهمة التطهر والنأي عن التنجس بنوعيه الحسي ذي الجِرْمِ، والمعنوي ذي الحكم المانع مصداقا لقوله تعالى “وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون”، ولا شك أنه طرد وأنها تهمة لهما ظل ما فتئ يُبسط له ويُستزاد أهله من زاد التمكين ومن رصيد سطوة التوجيه الذي يسوق الناس من خلفهم كافة، سوق الأنعام في تسفل هو أضل سبيلا من سيرة الأنعام نفسها وفق الاستدراك الرباني العادل الحكيم عند قوله تعالى “أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا”.

تذكرت قول من أخبرونا حقا وصدقا أن شرف العلم من شرف المعلوم، وعلمونا أن المرء في موقف المقارنة بين السائغ والنجار، فهو لا يقارن بين وجه أملح وآخر أقبح، أو بين لون أسود وآخر أبيض، أو بين عربي وأعجمي، فتلك ظواهر لا اعتبار لها في دائرة سرائر الصنعة، ولذلك فالمقارن يتسفل إلى مادة الصنعة ليعمل ميزان التفاضل بين مادة صنعة الأول ومادة صنعة الثاني، ولما كان الذهب أفضل وأثمن وأندر من الخشب كان السائغ أفضل من النجار وفي كل خير إذ التفاضل في دائرة الفضل شرعا وعرفا، فأين شرف العلم، وأين شرف المعلوم وقد انفصمت العروة وانقلبت المفاهيم، وأين دائرة الفضل بساكنيها من جنس السائغ والنجار، بلأين المهندس والطبيب والمخترع والأستاذ أمام هذا الزحف الناسخ والسيل العرم الماسخ.

لقد ضاعت بوصلة الصوب وضاعت مع التيه والزيغ الحصانة العلمية وفقدت الحصافة المعرفية مكانتها وسط هذه اللجة الماخورية النوع، التي صار فيها من كانوا حتى الأمس القريب صغراء كبراء ووجهاء وقدوات أشداء الوطأة لهم القوة والصدارة البعيدة كل البعد عن وحي الأخلاق وضوابط الضمير الاجتماعي المعهود طبعا وفطرة وصبغة.

ولك في ظل هذا الاجتياح الظالم والفوضى العاتية ذات العود الجاهلي الأول ألا تستغرب من ذهاب أي شيء جميل ورحيل كل أمر أصيل، لك ألا تأسف عن رحيل العقول الكبيرة وهجرة الكفاءات الوطنية العظيمة، حيث الوجهة والقرار هناك في دولة الرجل الأبيض حيث تعض المؤسسات الحكومية الغربية على أسراب الهجرة هذه بنواجذ الحرص  والاستغلال والنفعية..

كما لك ألا تتعجب إذا رأيت طبيب المكث والإقامة قد استحال إلى تاجر مستثمر في الأجساد والأكباد المحلية فلا تراه يرقب في المريض ولا المريضة إلّا ولا ذمة، وكيف تحوّل المهندس والأستاذ الجامعي إلى أشباه مقاولين همّهم ووجهتهم الربح واللحاق قدر الإمكان بركب المحظوظين من جوقة القدوات الجديدة..

كما لك ألا تستغرب إذا تذوقت طعم الخيانة والردة والذهول عن الماضي الحافل بالوعود من طغمة السياسيين وقد لامس ردفهم جلد الكراسي السلطوية..

كما لك ألا تستفهم عن أسباب غرق المجتمع بشرائحه الأفقية والعمودية في مستنقع كل نقيصة ورذيلة وسلوك حائد يقطع ما أمر الله به أن يوصل، ويسترخص الحقوق، ويستبيح الحمى ويبغيها عوجا..

ولك ألا تغضب إن وجدت العملة البشرية السائدة عبارة عن جمهرة من الأفاكين الذين يؤثرون الخيانة على الأمانة، والكذب على الصدق، والجور على العدل، ويملأون الآفاق والأرجاء ومناكب الأرض بالمآثم والمظالم والضحايا والمظلومين والمنكوبين، ذلك أن بيئة ومناخا يسود فيه ويتصدر ويعتلي ويتقدم ويُعظم ويُشَاوَر فيه أمثال من وطأنا ببعض من سيرتهم ابتداء، لمجتمع حري به أن يستجدي الدواء والغداء والماء ونقي الهواء، وحري بأهله أن لا يستدركوا أو يناقشوا أو يرفعوا شكوى أو يخطوا لافتة تستنكر ما وصلت إليه الأوضاع في دروب وأروقة المؤسسات الحكومية والجامعية والتعليمية والتكوينية من مآس وسقطات وتراجعات بات يعرفها الكل وينخرط في مشروع الغناء والرقص على ركامها المفلس، فليس ثمة دخان بغير نار، وليس ثمة فول معروض في تكرر بغير كيّال، فإن لكل فولة كيّال كما قيل، ولا ريب أن معروضهم من الفول لا يزال له كيّال من عندنا، شواكل وأصناف ممن تنقلهم إلينا موجات أثير تلفزتنا المفلسة بالصوت والصورة، من ذلك البحر اللجّي الذي تعلوه ظلمة العبث من الواقفين أمام منصات الشطح والغناء من رواد المهرجانات التي استوعبت تراب الوطن وما فتئت تحت وطأة حرارة الصيف تتناسل تناسل الفطر في يوم ممطر نسأل الله العفو والمعافاة.

[email protected]

آخر اﻷخبار
2 تعليقان

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M