يوم عادي في حياة ممرّض

16 سبتمبر 2016 20:29
يوم عادي في حياة ممرّض

هوية بريس – عبد العزيز غياتي

توقّعت مقدّمة النشرة الجوية أنّ المحرار سيسجّل خمسة وأربعين درجة مئوية، وأعتقد أنّنا سننافس اليوم بعض مدن العالم الحارّة على الخمسين درجة، وإن كانت بعض الاختراعات التكنولوجية مثل المكيّف والمروحة والثلاجة تهوّن من وقع الحرارة على الإنسان، فإنّ بعض الظواهر الاجتماعية والانحرافات البشرية تزيد تحت المرجل جمرة أو جمرتين أو أكثر، وبالأخص حين يكون هذا الإنسان بصدد أدائه مهامه.

قد تستطيع وأنت في الطريق إلى مقرّ عملك تجنّب الكلاب الضالّة بالسّير الهوينا دون النبس ببنت شفة وغضّ الطرف واجتناب إظهار تعابير عدوانية، فكيف ستتجنّب خلال أدائك مهامك استفزاز المرتفقين والمرافقين لهم؟

وإن استطعت تحمّل العمل في حرارة تُجاوز خمس وأربعين درجة مئوية داخل البناء المفكّك وبدون مكيّف، فكيف تستطيع وأنت تتصبّب عرقا وتتنفّس تلوّثا التظاهر بعدم سماع كلمات مهينة في حقّك وحقّ المهنة وحقّ كلّ المهنيين سواء تناهت أصداءها إلى مسمعك أو فجّرها أحدهم في وجهك؟ وإن استطعت ذلك مرّة أو مرّتين أو ثلاث، فهل تستطيع تحمّل أن يتكرّر ذلك مرارا خلال سنة أو سنتين أو سنوات؟

كيف ستقنع مغسول الدماغ أنّ الدواء الذي يسأل عنه غير متوفّر مؤقّتا أو مطلقا، وأنّ الخدمة التي يطلبها من صلاحيات مؤسّسات أخرى؟ هل سيجديك التوسّل في سبيل ذلك بالتفسير المملّ المفعم بالخشوع والمودّة، أو بالحلف الصادق بأغلظ الأيمان، أو بسرد الروايات والأساطير البيّن تهافتها؟

وكيف تقنعه أنّ مهام المركز الصحّي يدور أغلبها حول الوقاية وليس حول الاستشفاء كما يعتقد البعض ويسوّق البعض في وسائل الإعلام؟ أليس من البلادة إن لم يكن من الوقاحة أن يحتجّ ذلك الزائر الذي تسلّم للتو قنينة أنسولين أو اثنتين أو خمس قنّينات يناهز ثمن كلّ واحدة منها مائتي درهم، ويُزبد ويُرغد وهو يهمّ بمغادرة المؤسّسة الصحيّة لأنّه طلب مرهم عيون لا يتجاوز ثمنه خمسة دراهم ونصف درهم تَعوّدَ استعماله فلم يجده نظرا لنفاد المخزون؟

وكيف تقنعه قبل ذلك أنّه بصدد التعامل مع مهنيين في قطاع اسمه وزارة الصحّة تشتغل وفق سيّاسة معيّنة وبرامج متعدّدة طوّرتها خلال سنوات تدندن كلّها حول صحّة المواطن، مهنيّون تكوّنوا من أجل ذلك عدّة سنوات في معاهد ومدارس وجامعات وخضعوا لتدريبات وامتحانات قبل أن يباشروا عملهم، وليسوا مستخدمين في محلّات بقالة أو متاجر تسوّق أسمدة أو مواد فلاحية أو غير ذلك يشتغلون تحت شعار ما يطلبه المستمعون؟

 كيف ستقنع مائة أمّ تحمل كلّ واحدة منهنّ رضيعا وتجرّ صغيرا، وترافقها أمها أو حماتها ويلتحق بها زوجها من حين إلى آخر ليطمئنّ على الأسرة التي حضرت على بكرة أبيها من أجل تلقيح مولودها الجديد؟ كيف ستقنع هذه الأمّة أن المجال لا يتّسع للجميع والأكسيجين لا يكفي للجميع وأنّ الحمّام التقليدي أرحم من هذه البناية الضيّقة التي انتهت صلاحيتها منذ زمن على حدّ تعبير أحد الوزراء، وبأن شخصين لا يمكن أن يقوما بالمهمّة إضافة إلى مهام أخرى بالسرعة التي يحلم بها المرتفقون؟ كيف ستقنع هذه الأمّة التي تغلي من شدّة حرارة الصيف وحرارة العَجَلة أنّك وإيّاهم في المعاناة سواء؟

كيف ستقنع من يعرقل السير العادي للمصلحة بضرورة إفساح المجال للآخرين، وتُسابق إحساسه الكاذب بإهانة الطرد؟ من أي قاموس ستنتقي الكلمات والعبارات من أجل ذلك إن نسج خياله الواسع نظرية المظلومية و(الحكرة) وأقنع بها نفسه غصبا؟ كيف ستقنعه بطَرق أبواب الاحتجاج الحضارية بدل سلك قضاء الشارع؟

وفي نهاية المطاف هل تستطيع ضبط الأمن داخل المؤسّسة، كما تعوّدت فعل ذلك مع النظافة؟ وهل يعتبر الأمن ضمن مهامك في غياب من يخوّل له القانون ذلك؟ وماذا أنت فاعل حين تُترك وحدك في مواجهة ذي سوابق إجرامية أو متمارض أو مريض عقلي لم يتناول دواءه منذ مدّة عطّل المصلحة وجمّد حركة الخدمة؟

لم أجد أبلغ من هذه الأسئلة لتوصيف بعض ممّا يعانيه الممرّض في حرب غير متكافئة ضد الزمن الرديء يدخلها كلّ يوم بعدد ضعيف وعدّة صدئة متهالكة وتغطية قانونية منعدمة أو ضعيفة، وقد تتزامن كلّ تلك الأحداث أو بعضها أو جلّها في يوم واحد، هو يوم بدون أداة تعريف لأنّه لم يتحدّث عنه أحد أو نادرا ما تحدّث عنه غير صاحبه، يوم أصبح عاديا من فرط التطبيع مع أحداثه، في حياة نكرة لمهني لم يلتفت إليه أحد ولا يريد أن يعرفه أحد، مهنيّ كلّما أصبح الملك لله أصبح لا يرجو منه تعالى سوى أن يمرّ اليوم بسلام، وكلّما سمع القول الذي أضحى اليوم نادرا “الله يدوّز سرابسك على خير” أمّن ألف مرّة ومرّة لعلّ الله يستجيب الدعاء وتسلم الجرّة ولو في هذه المرّة.

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M