استراتيجية الإسلام (32).. الأسرة- في المنهج

29 مايو 2024 12:50

هوية بريس- محمد زاوي

7-الأسرة

-في المنهج:

يتأسس المنهج الأسري في استراتيجية الإسلام على إقامة علاقة زوجية مشروعة ومعترف بها شرعا ونظاما (عرفا أو قانونا في المجتمعات القانونية)، فذلك هو السبيل الوحيد لتفعيل مبدأ الزوجية (“ومن آياته أن خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة”/ سورة الروم، الآية 21) ومعنى النكاح (“فانكحوا ما طاب لكم من النساء”/ سورة النساء، الآية 3) وشعور المحبة (“لم نرَ للمتحابين مثل النكاح”/ رواه ابن ماجة). وبذلك يكون الإسلام قد أخرج من دائرته كافة العلاقات الجنسية الخارجة عن إطار الزواج بين جنسين مختلفي النوع، “ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا” (سورة الإسراء، الآية 32). وقد نظم الإسلام الأسرة القائمة على هذا الأساس المنهجي بعدة قواعد تحفظ:

*هيبة الأسرة:

فالزواج “رباط مقدس” (سيد قطب في “السلام العالمي والإسلام”) لم يتركه الإسلام لاختيارات الأفراد متحللا من ضوابط المجتمع وسلطته، وإنما أوجب توثيقه عرفا (قبل الكتابة) أو كتابة بعد توفر أركانه وشروطه، وميزه عن علاقات الزنا بإثبات البنوة (“الولد الفراش وللعاهر الحجر”/ رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري) وترتيب حقوق الزوجية والإرث، كما وضَعه الفقه في أيدي القضاة أو من ينوب عنهم تحت إشرافهم. وفي الزمن الذي تُستهدَف فيه الأسرة عالميا، وبمختلف الوسائل والأساليب الثقافية والاقتصادية والإعلامية والتشريعية، تسعى إرادات لا إنسانية إلى إفراغ “الرباط المقدس” من محتواه الشرعي والمسطري. وإذا ما علمنا أن “الجنس أصيل وغريزي، وأن الزواج تنظيمي وطارئ” (عبد الصمد بلكبير في مقال “الحب والاشتراكية”)، سنعرف إلى أي حدّ نحن في حاجة إلى “قدسية الزواج”. “وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا” (سورة النساء، الآية 21).

*نظام الأسرة:

مرّ نظام الأسرة في التاريخ بمراحل؛ من “ما قبل الأسرة”، إلى الأسرة الأمومية، إلى الأبوية البطريركية، فالأبوية النووية. وإن الخلاف الحضاري وبكل موضوعية قائم اليوم بين “الزواج الأحادي بين زوجين مختلفي الجنس” من جهة، و”زواج متعدد بين رجل وعدة نسوة/ حدد القرآن عددهن في أربع” من جهة أخرى. النموذج الاقتصادي السائد عالميا يفرض الزواج الأحادي ومعه انفلاتات وشذوذات جنسية متفاقمة، فيما تقاوم مجتمعات الأطراف/ الجنوب لتحافظ على بعض من خصوصياتها في أفق تحرر الحضارة الإنسانية من قبضة النظام الاجتماعي الغربي، الذي أريد له أن يصبح عالميا بالاستعمار في نسختيه القديمة (العسكرية) والجديدة (الناعمة). إن التعدد الذي أباحه الإسلام (“فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع”/ سورة النساء، الآية 3)، يعبر اليوم عن نقيض حضاري لأنانيات لا تاريخية أريد لها أن تنتج القابلية للاستغلال في بنية إنتاجية أسرية محدّدة على المقاس. السؤال اليوم مطروح على النموذج الأبوي الجديد مقارنة مع نموذج الأبوة القديم، من منهما أكثر حفظا للنسل، أي للإنسانية. وذلك قبل مقارنتهما بزمن الأمومة السابق عليهما معا، فالأولوية للممكن تاريخيا (حفظ تاريخي للنسل) لا للمطلوب إنسانيا (حفظ إنساني لا استغلالي للنسل).

*تيسير الأسرة:

وفي التيسير جاء تخفيف المهر (“خير النكاح أيسره”/ حديث عقبة بن عامر، رواه أبو داود)، وفُتح باب الاجتهاد القضائي لمنح الأهلية أو منعها حسب أحوال من هن “دون سن الأهلية” (“يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج”/ حديث عبد الله بن مسعود، رواه البخاري). وذلك بغض النظر عن تأثير زواج “الصغار” (دون سن الأهلية) من عدمه على التعلم وتنمية الوعي لدى الرجال والنساء والمشاركة في الحياة العامة، وبغض النظر أيضا عن مدى دقة الخبرات والمعايير التي يعتمدها القاضي لمنح الإذن بزواج مَن دون 18 سنة من الفتيات. فهذا يحتاج دراسات سوسيولوجية وقانونية واقتصادية وتعليمية، وانفتاحا على التجارب الغربية (خاصة الأمريكية منها). وغيرُه ما هو إلا انعكاس للتعقيدات السوسيو-ثقافية التى فرضها التقدم المختل للعالم، ومصادرة للحقوق دون طلب من أصحابها، وإرباك لنظم المقاومة (أبرزها النظام الفقهي) بغير روية ولا حكمة ولا خبرة في قراءة التاريخ ومختلف التجارب البشرية، وتعسير لسبل الزواج في زمن العزوف.

*تحصين الأسرة:

بجعل الطلاق “أبغض الحلال” (“أبغض الحلال إلى الله الطلاق”/ رواه ابن ماجة)، والترغيب في الصلح بين الزوجين (“والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح”/ سورة النساء، الآية 128)، وفتح المجال لإمكان التراجع عن الطلاق (“وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا”/ سورة البقرة، 228)، ووصل الرباط الدنيوي بآخر أخروي (“جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم”/ سورة الرعد، الآية 23)، وتوحيد المرجعية التشريعية. فالمرجعية إسلامية في كل العالم الإسلامي، ومذهبية حسب خصوصية كل دولة. إن الموقف المقاصدي تتويج للموقف الأصولي والفروعي، وليس تحللا منهما. أما المذهب فهو نظام في المجتمع والدولة، كما هو نظام في الفقه والاستنباط. وأن يصبح محكوما في مقاصده بالمرجعية الأممية، لا بمرجعيته هو في ذاته، فذلك نوع من الارتهان للتشريع الدولي على حساب الخصوصية الفقهية، وهي ناجعة في تحصين الأسرة وحفظها، كما هي ناجعة في مسائل وقضايا أخرى؛ فإذا استهدِفت في مجال الأسرة فبأي مسوغ نستدعيها لقضايا أخرى في السياسة والمجتمع؟!

*تمويل الأسرة:

وهو ما يتم بإيجاب النفقة والقوامة على الرجال (“الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم”/ سورة النساء، الآية 34)، والنساء استثناء، حفظا لمعاش الأسرة واستمرارها في “الوجود الاجتماعي” (“ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، نحن نرزقهم وإياكم”/ سورة الإسراء، الآية 31). كما يحصل بتنظيم المِلكية في الأسرة بعدل خاص يختلف عن “مساواة” مبتذلة لا تعبر عن الواقع الاجتماعي المطلوب والممكن تاريخيا؛ وكذا بتنظيم “بث الأموال في الأجيال” (بتعبير أبي الأعلى المودودي في “نظام الحياة في الإسلام”)، بنصوص قطعية لم يجُز للمسلمين التدخل فيها بتقدير خاص للمصلحة (“للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، مما قل منه أو كثر، نصيبا مفروضا”/ سورة النساء، الآية 7). فمن شأن الخروج عن حيز الإلزام دون مسوغ فقهي أن يربك المرجعية الإسلامية (وهي مرجعية الدولة والأمة)، كما من شأنه أن يفكك الوحدة القانونية التي تنظم الملكية الخاصة في إطار الملكية العامة؛ وكله يضعف استراتيجية الإسلام في مواجهة الاستعمار والاستغلال.

(…) يتبع

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M