العلم يؤتى ولا يأتي

17 مايو 2024 01:46

هوية بريس – دة.صفية الودغيري

لقد اشتهرت مقالة الإمام مالك لهارون الرَّشيد: “إنَّ العِلْم يُؤْتى ولا يَأْتي“؛ وذلك حين وجَّهَ إليه هارون الرَّشيد الدَّعوة، ويسأله أن يأتيه ليحدثه بالموطَّأ.

وهي إنَّما قيلت لمناسبة ما للعِلْم وما للعالم من المكانة والتَّعظيم لشأنهما، والإجلال لقدرهما، وصون ما جعله الله تعالى لهما من العزَّة والشَّرف؛ حتّى لا تدنِّسهما الأطماع ولا تذلُّهما بوضعهما في مواضع الإذلال والامتهان، والتَّقليل من وظيفتهما بالوقوف بهما في مواطن الرّيب والشُّبهات والمحرَّمات، أو لإرضاء ذوي الجاه والمال والسُّلطان ..

وصدق القائل:
يا معشرَ القرّاء يا ملحَ البلد … ما يصلحُ الملحَ إذا الملحُ فسد؟
ولله درُّ القاضي الجرجاني حيث قال:
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم … ولو عظّموه في النفوسِ لعُظِّما!
ولكنْ أهانوه فهان ودنّسوا … مُحيَّاهُ بالأطماعِ حتى تجهَّما!

وعن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: لو أنَّ أهلَ العِلْمِ صانوا العِلْمَ ووضَعوهُ عندَ أَهْلِه، لسادوا بِهِ أهلَ زَمانهِم، ولكنَّهُم بَذَلوهُ لأَهْلِ الدُّنْيا لِيَنالوا بِهِ من دُنْياهُم، فهانوا عليهِم”.

ولكن وللأسف قد أساء -أبناء هذا العصر والزَّمان- فهمهم لمقالة الإمام مالك؛ فوجَّهوها -بقصدٍ أو عن غير قصد- توجيهات باطلة، جهلاً منهم بمقاصدها ومآلاتها، أو لعدم تقديرهم لمناسبتها لزمانها ومكانها وظروفها، ولم يفطنوا إلى أنَّ استعمالاتهم لها ينبغي أن تسير وفق قياسٍ معتبر، ووفق ما وُضِعَت له ولأجله، وتغافلوا ـ بجهل وسوء فهم وعلم وفقه .. ـ عن كون المقاصد والنّوازل قد تتغيّر، وأنَّه لابدَّ من مراعاتهم لهذا الفارق في التَّغيير، ولما يستجدُّ ويحدث ويختلف ويتغيَّر مع تغيُّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنِّيات والعادات..

وأنَّ الواجب عليهم مراعاة ذلك، والوقوف عند مقالة الإمام مالك وقفة نظر واعتبار، وعلم وفقه، والاحتراز من استعمالها استعمالات باطلة، وتسديد وترشيد متلقّيها والعامل بها،

وأنَّه ليس هناك تعارض بين توقير العالم والعلم، وأنَّ العالم والعلم يُقْصَد ويُؤتى ولا يأتي، وبين نزول العلماء إلى النّاس، وخروجهم من عزلتهم وصومعتهم إلى ميدان العمل ومخالطة الناس، ومشاركتهم قضاياهم وهمومهم، فيكتبون وينشرون، ويُعَلِّمون ويُرْشِدون، ويَخْطُبون ويَعِظون ..، ويشاركون في البناء والتأسيس، والتَّغيير والتَّنمية، وأن يظلّوا على اتِّصال دائم بالحياة العامَّة، وعلى اتِّصال بشؤون مجتمعهم ومحيطهم وأمتهم، وأن لا يفرّوا من المسؤوليّات المنوطة بهم..

وهذه مقالة عظيمة المعنى، سامية الغاية والمقصد، تسدِّد وترشِّد وتفصِّل ما سبق أن أسهبنا فيه إجمالا، وهي للشيخ البشير الإبراهيمي في مقالته: “وظيفة علماء الدين”:

“واجب العالِم الدّيني أن ينشط إلى الهداية كلّما نشط الضَّلال: وأن يسارع إلى نصرة الحقِّ كلَّما رأى الباطل يصارعه، وأن يحارب البدعة والشَّر والفساد قبل أن تمدَّ مدَّها، وتبلغ أَشُدَّها، وقبل أن يتعوَّدها النّاس فترسخ جذورها في النُّفوس ويعسر اقتلاعها.

وواجبه أن ينغمس في الصُّفوف مجاهدًا، ولا يكون مع الخَوالف والقَعَدة، وأن يفعل ما يفعله الأطبّاء النّاصِحون من غَشَيان مواطن المرض؛ لإنقاذ النّاس منه، وأن يغشى مجامع الشُّرور لا ليركبها مع الرّاكبين بل ليفرِّق اجتماعهم عليها.

وواجبه أن يطهِّر نفسه قبل ذلك كلِّه من خلق الخضوع للحُكّام والأغنياء وتملُّقهم؛ طمعًا فيما في أيديهم، فإنَّ العفَّة هي رأس مال العالِم، فإذا خسرها فقد خسر كلَّ شيء، وخلَّفها الطَّمع فأَرْداه.

إنَّ علماء القرون المتأخِّرة ركبتهم عادةٌ من الزَّهو الكاذِب والدَّعوى الفارغة، فجرَّتهم إلى آداب خصوصيَّة، منها أنَّهم يلزمون بيوتهم أو مساجدهم كما يلزم التّاجر متجره، وينتظرون أن يأتيهم النّاس فيُعَلِّموهم، فإذا لم يأتهم أحدٌ تَسَخَّطوا على الزَّمان وعلى النّاس، ويتوكَّأون في ذلك على كلمةٍ إن صَدَقَت في زمان، فإنَّها لا تَصْدُق في كلِّ زمانٍ وهي: “إنَّ العِلْم يُؤْتى ولا يَأْتي”؛ وإنَّما تَصْدُق هذه الكلمة في عِلْمٍ غير عِلْمِ الدّين، وإنَّما تَصْدُق بالنِّسبة إليه في جيلٍ عرف قيمة العِلْم، فهو يسعى إليه، أمّا في زمننا وما قبله بقرون، فإنَّ التَّعليم والإرشاد والتَّذكير أصبحت بابًا من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، وإنَّما يكون في الميادين حيث يلتقي العدوُّ بالعدوِّ كفاحًا، وقد قال لي بعض هؤلاء وأنا أحاوره في هذا النَّوع من الجهاد، وأعتب عليه تقصيره فيه: إنَّ هذه الكلمة قالها مالكٌ للرَّشيد، فقلت له: إنَّ هذا قياسٌ مع الفارق في الزَّمان والعالِم والمتعَلِّم، أمّا زمانك هذا فإنَّ هذه الخلَّة منك، ومن مشائِخِك ومشائِخهِم أدَّت بالإسلام إلى الضَّياع وبالمسلمين إلى الهلاك؛ فالشُّبهات الَّتي تَرِد على العوامّ لا تجد من يطردها عن عقولهم ما دام القسّيسون والأحبار أقرب إليهم منكم، وأكثر اختلاطًا بهم منكم، والأقاليم الإفرنجيَّة تغزو كلَّ يومٍ أبنائي وأبناءك بفتنةٍ لا يبقى معها إيمانٌ ولا إصلاح، ففي هذا الزَّمن يجب عليَّ وعليك وعلى أفراد هذا الصِّنف أن نتَجَنَّد لدفع العَوادي عن الإسلام والمسلمين، حتّى يأتينا الناّس، فإنَّهم لا يأتوننَا وقد انصرفوا عنّا وليسوا براجِعين، وإذا كان المُرابطون في الثُّغور يقِفون أنفسهم لصدِّ الجنود العَدُوَّة المُغيرة على الأوطان الإسلاميَّة، فإنَّ وظيفة العلماء المسلمين أن يقِفوا أنفسهم لصدِّ المعاني العَدُوَّة المُغيرة على الإسلام وعقائده وأحكامه، وهي أفتك من الجنود؛ لأنَّها خَفيَّة المَسارِب، غَرّارةُ الظَّواهر، سهلة المَداخِل إلى النُّفوس، تأتي في صورة الضَّيف فلا تلبث أن تطرد ربَّ الدّار..”.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M