تحديات في وجه الدولة السورية الجديدة
هوية بريس – بلال التليدي
من الواضح جدا، أن تجربة إسقاط بشار الأسد، وشكل التعامل مع النظام القائم وداعميه، ستدخل إلى دائرة الدراسات التي تعنى بتفسير موجات الانتقال الديمقراطي، فقد لاحظ الجميع، أن عملية الدخول للمدن، خاصة حمص ودمشق، كانت بسلاسة كبيرة، وأن المعارضة المسلحة اختارت، أن تفصل الرأس عن الجسد، وتتعامل بكل إيجابية مع حكومة النظام السابق، وأجهزته الإدارية، ورفعت شعار لا للثأر والانتقام، وهي عناوين مهمة لإجراء انتقال سلس، يجنب سوريا ما حصل في الحالة الليبية من صراع الأطراف، وصراع الأجندات الدولية والإقليمية.
ليس ثمة أدنى شك أن اجتماع الدوحة الرئيسي بين مكونات أستانا، واجتماع بعض وزراء الخارجية العرب على هامشه، قد سوى الطريق، ورسم مفتاح الحل ما بعد إسقاط بشار الأسد، فعلى الأقل، لم نر مقاومة إيرانية أو روسية، دون أن ندري على وجه التحديد الثمن الذي تم قبضه، أو كيف أضحت موسكو وطهران عاجزتين عن إيقاف مسار محكم، تضبط إيقاعه من جهة معارضة مسلحة قوية ومندفعة بقوة نحو دمشق، ومن جهة مقابلة نظام مهترئ، وجيش فقد الحافزية على الدفاع عن النظام، وقوى إقليمية، لم تعد قادرة على الاستثمار أكثر في دعم نظام لم يعد أحد في الداخل يريد استمراره، وتأكدت أن تركيا أتقنت قواعد اللعبة، وتحركت في الوقت الصحيح، الوقت الذي تراجع فيه نفوذ حزب الله وإيران في سوريا، والوقت الذي لم تعد موسكو قادرة على المواجهة على جبهتين، ووقت الفراغ الاستراتيجي في واشنطن، بعد سقوط جو بايدن الانتخابي، وانتظار تنصيب دونالد ترامب.
من السابق لأوانه اليوم التكهن بشيء حول مستقبل سوريا، وإن كانت العناوين الكبرى للانتقال للعملية السياسية الطبيعية تبدو جد مبشرة، فتنصيب حكومة مؤقتة أفقها شهر مارس، وتجسير عملية الانتقال من حكومة نظام الأسد إلى حكومة محمد البشير، فضلا عن إعلان أفكار عن طريقة التعامل مع الأجهزة الأمنية والعسكرية، كل ذلك يندرج في سياق الانتقال السلس الذي يجنب سوريا الوقوع في حرب أهلية جديدة.
في الواقع، ظهرت ثلاثة مؤشرات مقلقة، كلها تتعلق بالعامل الخارجي، أولا، الهجوم الإسرائيلي على مطار المزة، ومناطق عسكرية وأمنية في دمشق ودرعا والقنيطرة وغيرها، فضلا عن احتلال المنطقة العازلة في الجولان السوري.
والثاني، وقد حدث قبيل السيطرة على دمشق، وهو سيطرة قوات قسد على دير الزور، وما يرمز إليه ذلك من استمرار أجندة إقليمية تسعى إلى استدامة سياسة ابتزاز تركيا من خلال الأراضي السورية، والثالث، هو رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في التحرك السريع، ليس فقط لحماية مصالحها في سوريا، ولكن، لفرض أجندتها في انتقال السلطة، إذ يعزم وزير الخارجية الأمريكي للقيام بجولة للمنطقة تضم الأردن وتركيا، لإجراء محادثات حول دعم الانتقال في سوريا، فضلا عن الإدلاء بتصريحات تصب كلها في رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في المشاركة في صناعة مستقبل سوريا، بما في ذلك إعلان أنتوني بلينكن عن الشروط الأربعة للاعتراف بحكومة جديدة في سوريا.
في التعاطي مع هذه التحديات، كان الجواب مختلفا: مواجهة عسكرية في دير الزور حتى السيطرة عليها وطرد قوات سوريا الديمقراطية منها، وعدم الرد على الهجمات الإسرائيلية، وترك المنتظم الدولي أمام مسؤولياته، وإصدار مواقف جد معتدلة، تخص علاقة سوريا الجديدة بالدول الأجنبية وبمحيطها الإقليمي.
من الواضح جدا أن هناك بوصلة واضحة تؤطر نظرة المعارضة السورية المسلحة، فتجارب الانتقال في الدول العربية المختلفة، تركت خلفها عناوين هدامة ينبغي الالتفات إلى خطورتها حتى ولو كانت في عمقها تمتلك سندا من الحق والمعقولية، منها فكرة العدالة الانتقالية، والاقتصاص من المتورطين في جرائم وانتهاكات حقوقية ضد السوريين، ومنها القضية الطائفية وما ترمز له من ثأر من المكون الشيعي أو العلوي باعتبارهما كانا يمثلان قاعدة الحكم السابق وسنده، ومنها، أيضا الارتباطات الإقليمية، وما ترمز له من استخدام قوات قسد لسوريا كمنصة هجوم على تركيا، ومنها قضية التعاطي مع النظام السابق، احتواء رموزه أو تفكيكه، إذ تطرح الصيغتان تحديات من عودة الثورة المضادة، أو عودة الأجندات الإقليمية، ومنها قضية أخرى مرتبطة، باستكمال المهمة، فهناك من يعتقد داخل مكونات المعارضة المسلحة، أن الخطر الإيراني على سوريا، لا يمكن أن يؤمن إلا بحراك في العراق، ينتهي إلى نفس ما انتهت إليه سوريا من تحرير بلاد الرافدين من المحور الشيعي، ومنها قضية مرجعية الحكم، ومخاطر التركيز على فكرة إسلامية الدولة وتحكيم الشريعة.
لحد الآن، تبدو هذه التحديات كامنة، وتبدو بعض التصريحات مبشرة وتكشف عن فهم عميق لبعض هذه التحديات، لكن ينبغي التخوف من مخاطر الطرق الإعلامي الكثيف على سجن صيدنايا، وما ارتكب فيه من جرائم وانتهاكات حقوقية، فالصور الكثيفة التي تتحدث عن عذابات المظلومين، ومأساة كثير من المسجونين لا تخدم فقط هدف إدانة النظام السابق، وملاحقته جنائيا حتى في موسكو، مقر ملجئه، وإنما تخدم أيضا فكرة العدالة الانتقالية، وتحويل لحظة إسقاط النظام المبشرة، إلى عامل تأليب داخلي، يصعب معه الوصول إلى هدف سوريا موحدة، وذلك في ظل وجود إحباطات دولية وإقليمية، فواشنطن، وطهران، وحتى بعض الدول الخليجية، تبدو جد محبطة مما حصل، وهي تبحث عن أي ثغرة في الداخل حتى تعيد الدخول منها لتبرير نفوذها أو توسيعه أو استعادة المبادرة.
من المهم أن نفهم أن المطالبة بقميص عثمان هدم دولة الخلافة الراشدة، وفكرة العدالة الانتقالية، بعثرت أوراق الثورة في تونس ومصر وحتى في ليبيا، ومع أنها تتمتع بأعلى درجة من المعقولية والحق، إلا أنها في سياق بناء الدول، وبالأخص عند لحظة إحباط الأجندات الدولية والإقليمية، تصير ورقة مربحة لكل من يعتقد أن سوريا الجديدة، ستكون مناهضة للمشروع الصهيوني برداء سني (واشنطن وتل أبيب) أو من يعتقد أن سوريا الجديدة، هي مخطط صهيوني أمريكي (طهران) أو من يعتقد أن سوريا الجديدة هي أجندة تركيا الإخوان في المنطقة.