فائدتان في مناهج التربية وفي حضور العوام مجالس العلماء
هوية بريس – د.عبد الرحمن زحل
قال الإمام الغزالي: (من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المعلم المتعلم عن سوء الأخلاق باللطف والتعريض ما أمكن من غير تصريح، وبطريق الرحمة من غير توبيخ. فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة، ويُورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويُهيج الحرص على الإصرار) نقله عنه المناوي في كتابه “فيض القدير” (ج2/ص573).
أتحفني أحد الأصدقاء بهذا النقل الجميل، ويتضمن منهجا قويما كان يسلكه معنا الوالد الشيخ محمد زحل رحمه الله فآتى أكله. فاجتهدتُ قدر المستطاع في سلكه أيضا مع أولادي وتلامذتي، وجنيت بعض ثماره بتوفيق الله والحمد لله. وهذا النقل من هذا الإمام المربي الجهبذ يظهر نجاعة هذا المسلك التربوي، وأكثر من يستفيد منه من لم يَخْبَر هذا المنهج عن اقتداء وتجربة.
ومعلوم أن كثيرا من مسالك التربية تُلتمس بالاقتداء بالمربين الربانيين، وهذه طريقة حسنة متبعة عند أهل السلوك تجعل من مقاصد مصاحبة المشايخ التأدب بأدبهم والاقتداء بمنهجهم في الأدب والتأديب. ولهذا قالت أم الإمام مالك لولدها عندما بعثته لمجلس ربيعة الرأي: (خذ من أدبه قبل أن تأخذ من علمه). وهذا الإمام مالك نفسه ينقل عنه تلميذه عبد الله بن وهب ما يفيد أثر أدب ربيعة عليه واستمرار سلسلة التأدب بالقدوة بين التلاميذ والشيوخ، وأن هذا مقصد أساسي من مصاحبة طلبة العلم للمشايخ وحضور مجالسهم، حيث نقل الذهبي في “السير” قول ابن وهب: (ما نقلنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه). وهذه من أعظم فوائد حضور مجالس العلم التي يستفيدها طلبة العلم والعوام على السواء، فقد نُقل في مناقب الإمام أحمد أنه (كان يجتمع في مجلس أحمد بن حنبل زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت).
وكان يحضر مجالس دروس الوالد رحمه الله المئات منهم دكاترة ومشايخ ودعاة وطلبة علم، لكن أكثر من ثلاثة أرباعهم من عامة الناس، وكان بعض هؤلاء العامة من خُلّص جلسائه ويَعدُّهم رحمه الله من تلامذته فأعجب لذلك. ولكن زال هذا العجب بعد معرفتي أن التتلمذ على الشيوخ لتعلم الأدب لا يقل قيمة عن التتلمذ عليهم لتعلم العلم، بل يفوقه أحيانا. فكم عرفنا من طلبة علم أضرَّهم علمهم أكثر مما نفعهم وقل انتفاع الناس بهم، وكم رأينا من العوام الذين نالوا المهابة والمنزلة الرفيعة بأدبهم وتقواهم واستُفيد من أدبهم على ضحالة علمهم. ولذلك يحسن بالعلماء أن تكون مجالسهم للعموم ولا تكون لهم مجالس خاصة مع طلبة العلم إلا لفائدة راجحة يرونها وتكون إضافية على مجالسهم العامة، فإقصاء العوام من مجالس العلماء يُفوِّت على العالم أجرا عظيما وعلى العوام فوائد كثيرة قد لا يفطن إليها المعلمون، فرُب مُبلَّغ أوعى من سامع، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
هداني الله وإياكم إلى حسن الأدب، وأعاذنا من علم لا ينفع، وجعلنا هداة مهتدين.