قراءة في أسباب الظُّلم الاجتماعي
هوية بريس – د. عبد الله الشارف
إن الأحداث، والوقائع، والفتن، والاضطرابات الاجتماعية والسياسية، التي عاشتها البلدان العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أثرت تأثيرا عميقا في نفسية وعقلية المسلمين.
إن الغزو الأمريكي للعراق وما سبقه وأعقبه من تقهقر للقوى السياسية العربية الحاكمة، دليل على أن هذه القوى السياسية الحاكمة قد فشلت في إنجاز ما وعدت به، بل تواطأت مع المسؤولين السياسيين في الغرب،على قهر شعوبها وحصرها في مثلث الفقر والجهل والتبعية.
وبعد حادثة 11 شتنبر 2001 المصطنعة بنيويورك، أعلنت أمريكا بمباركة حلفائها، الحرب على ما سمي بالإرهاب؛ أي الحرب على الإسلام. وهكذا استعملت بلدان الحلف الصليبي اليهودي، بقيادة أمريكا، كل وسائل الإعلام لشن حرب قوية ضد الإسلام والمسلمين، حتى غدا لفظ الإسلام مرادفا للفظ الإرهاب.
وما أن بزغ العقد الثالث من العقود الثلاثة المشؤومة، حتى فوجئ المسلمون بحادثة الربيع العربي التي زادت الطين بلة، وخلفت المصائب والكوارث والخراب والدمار، كل هذا لتحقيق ما يصبو إليه الغربيون الصليبيون واليهود، من السيطرة الاقتصادية والسياسية على بلدان الشرق الأوسط، ولتظل أمريكا مهيمنة ثقافيا وسياسيا، ومتحكمة في الخيرات الطبيعية لهذه البلدان لا سيما معدن البترول.
إن المتأمل في أحداث المحطات الثلاث: (الغزو الأمريكي للعراق، حادثة 11 شتنبر 2001 والحرب على الإرهاب، الربيع العربي) يلاحظ مدى هيمنة العامل الخارجي في طبخ هذه الأحداث وصنعها.
وقبل ما يزيد عن قرن من الزمان اجتمع قادة وحكام أوروبا من أجل الاتفاق على خطة تقسيم العالم الإسلامي واستعماره. ثم لم يمض على استقلال الشعوب عقد أو عقدان، حتى شرع المسؤولون الغربيون في وضع الخطط السياسية الرهيبة والماكرة، لإحكام قبضتهم من جديد على المسلمين، وذلك من خلال الغزو الفكري والعولمة، وخلق أسطورة الإرهاب ومسرحية الربيع العربي. صحيح أن هذا العامل الخارجي هو العامل المهيمن والمتمكن على مستوى الخريطة السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية لبلدان العالم العربي، لكن من أين اكتسب هذا العامل الخارجي تلك القوة التي جعلته يتحكم في رقاب المسلمين وحياتهم ومصيرهم؟
لقد اكتسبها من ضعفنا، وجهلنا، وتخلفنا، وتمزقنا، وبعدنا عن ديننا حكاما ومحكومين.
إن هذا المشهد المؤلم والفظيع يصوره أو يجسده قول نبينا محمد صلى الله عليهِ وسلّم: “يوشكُ الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلةُ إلى قصعتها”، قالوا: أمن قلّةٍ نحنُ يا رسولَ اللهِ يومئذ؟ قال: “بل أنتم كثير ولكنّكم غثاءٌ كغثاءِ السّيل، وسينزعنَّ اللهُ الرّهبة في قلوبِ أعدائكم منكم وسيقذفنَّ في قلوبكم الوهن”، قالوا: ما الوهنُ يا رسولَ الله؟ قال: “حبُّ الحياةِ وكراهيةُ الموت.” (رواهُ أبو داوود وأحمد بن حنبل).
نعم لقد تداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها؛ إنه مشهد رهيب وحدث فظيع تنبأ به رسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، وذكره قبل قرون طويلة، وصوره تصويرا دقيقا كأنما ينظر إليه، كما أشار صلى اه؛ عليه وسلم، إلى السبب الرئيس في حدوث هذا المشهد الرهيب؛ ألا وهو الوهن الناتج عن حب الدنيا وكراهية الموت. هذا الوهن، الداء الخطير الذي أصاب الأمة المسلمة، تولد عنه تدريجيا، خلال القرون الثلاثة الأخيرة، تخلف وجمود علمي، وتقهقر حضاري وتفكك اجتماعي، الأمر الذي جعل الأمم الغربية المسيحية تتجرأ على المسلمين، وتطمع في خيراتهم، وتستعمرهم إلى أن أحكمت قبضتها عليهم.
لقد أهمل المسلمون بفعل هذا الوهن، رسالتهم الدينية والحضارية، فعاقبهم الله بأن سلط عليهم عدوهم. إنها سنة الله في خلقه؛ سنة ماضية مضطردة لا تتخلف أبدا.
لكن هل معنى هذا أننا نظل جامدين سلبيين، ننتظر الفرج من السماء؟ إن كثيرا من المسلمين يفكرون انطلاقا من هذا المنطق السخيف، بل منهم من يذهب إلى أن زماننا هذا هو آخر الأزمنة، وأن علامات الساعة الكبرى قد اقتربت، إلى غير ذلك من الأفكار والاعتقادات التي تعبر عن الجهل، والضعف، والغثائية، والانهزامية.
إن المسلم الرباني المسؤول، لا ينهزم ولا تؤثر في إرادته هذه الأحداث المؤلمة، والمؤامرات الإرهابية، التي يقوم بها أعداء الإسلام والمسلمين، من حكام الغرب، واليهود والصهاينة، والماسونيين، بتنسيق وتحالف مع كثير من الحكام والمسؤولين في البلدان المسلمة.
إن لهذا المسلم رسالة ينبغي أن يقوم بها انطلاقا من واجبه الديني. إنها رسالة الإصلاح والبناء، ونشر الوعي الديني، والتربوي بين المسلمين. إن المسلم الرسالي لا ينتظر “الكرامات”، وإنما يبادر انطلاقا من بيته وحيه، منخرطا في العمل الدعوي والجمعوي الهادف، لكي يسهم بما يملك من وسائل مادية ومعنوية، في عملية الإصلاح والبناء الاجتماعي والتربوي.
إن العمل الجمعوي الهادف، كثيرا ما تكون له نتائج اجتماعية وتربوية عظيمة، لا سيما إذا تولاه أشخاص رساليون صادقون. والمسلم الرسالي، من خلال عمله الفردي أو الجماعي، لا يتوقف عن رسالته ووظيفته، داخل دائرة الاستخلاف. فإذا كان أستاذا أو مربيا مثلا، فإنه يقوم بأداء مهمته التعليمية التربوية أحسن قيام، ويكون قدوة للمتعلمين في سلوكه وأخلاقه ومعاملته. وإذا كان طبيبا أو مهندسا، أتقن عمله وأخلص فيه. وإذا كان تاجرا تجنب الغش والكذب، وراعى مصلحة الزبناء، وابتعد عن الاحتكار وعن كل ما يفسد التجارة.
وهكذا تجد المسلم الرسالي في كل المهن، والحرف، والوظائف، يقوم بعمله أحسن قيام، ويتفانى في خدمة المسلمين. وكلما اجتهد أعضاء المجتمع المسلم في القيام بواجبهم ورسالتهم، من خلال وظائفهم ومهنهم ومختلف أعمالهم، فإن هذا المجتمع تصلح أحواله تدريجيا، ويستقيم سلوك أفراده، وتتقوى بنياته الاجتماعية.
إن من بين الأسباب الرئيسة المؤدية إلى التفكك الإجتماعي، والانهيار القيمي، والتخلف الثقافي، عدم قيام أفراد المجتمع بواجبهم ومسؤوليتهم، بحيث تنتشر روح اللامسؤلية، ويضعف الضمير الأخلاقي والوازع الديني، ويطغى مبدأ المصلحة الشخصية الفردية على المصلحة الجماعية، ويكثر الطمع والحقد والحسد، وينعدم التناصح، ويغيب مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينتشر الكذب والخيانة والنفاق وغيرها من الأوصاف والأخلاق الفاسدة.
إن هذه الأوصاف والمظاهر الاجتماعية السلبية وغيرها مما لم يذكر، تشير إلى أن أعضاء هذا المجتمع المسلم قد أصبحوا غثاء كغثاء السيل، وأصيبوا بالوهن الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت، كما ورد في الحديث النبوي.
ولقد أخطأ أو جانب الصواب من يظن أن الفساد الاجتماعي في البلدان المسلمة تنحصر أسبابه في العوامل الخارجية، أو الاستبداد السياسي الداخلي. نعم لا ينكر عاقل أثر هذين العاملين في تدهور المجتمعات المسلمة، لكن العامل الأساس هو ذاك المرتبط بسائر أعضاء المجتمع. والفساد ينشأ غالبا ويترعرع أسفل البناء الإجتماعي، أي لا ينزل من فوق أو من السماء. إن ظلم الحاكم وجوره، انعكاس لظلم المجتمع نفسه لنفسه.
إن الظلم السائد في القاعدة ينتج عنه ظلم على مستوى القمة. إن الآباء والمربين، والعلماء، والأطباء، والمهندسين، والقضاة، والإداريين، وأصحاب الأمن، والتجار، والمستخدمين، والمهنيين، والحرفيين،… كل هؤلاء وغيرهم ممن يعمل في مختلف قطاعات المجتمع، يشكلون من خلال أعمالهم وأدوارهم، أسس وأعمدة البناء الاجتماعي. فإذا قام كل واحد منهم بوظيفته وعمله أحسن قيام؛ كان المجتمع قويا متماسكا، وسرت في كيانه روح المحبة والتكافل، وانتشرت مظاهر الحضارة والسيادة، وكان ذلك سببا في إصلاح الحكام والمسؤولين، وجعلهم يغيرون سياستهم ويعاملون رعاياهم معاملة تتصف بالعدل والإنسانية. ومن هنا فإن إذعان الحكام والمسؤولين للسياسة الرشيدة، وإنصاف الرعية، والسهر على مصالحها، قلما يحصل بالثورة عليهم، وإنما يحصل بالإصلاح الديني، والاجتماعي، والتربوي، الذي يضطلع به العلماء، والمصلحون، والمربون، والدعاة، والأطباء، والإداريون، وغيرهم من الذين أشرت إليهم، لا سيما إذا تحلوا بالعلم والحكمة والصبر والإخلاص، بخلاف إذا ركن هؤلاء الأشخاص إلى الكسل واللا مسؤولية، وسادت بينهم الأخلاق والسلوكات القبيحة من كذب، وخيانة، وأنانية، واستبداد، ونفاق، وجهل، وإهمال للمصالح الاجتماعية، العامة، وإهدار لحقوق الإنسان، يشرع البناء الاجتماعي في التصدع ثم الانهيار، فينتصب الحكام والمسؤولون الظالمون، الذين هم أبناء ونتاج المجتمع الفاسد، للقيام بحكمهم الظالم الذي يناسب المجتمع الظالم لنفسه، إنها سنة اجتماعية ثابتة ومضطردة لا تتخلف.
إن الحاكم أو الوالي، يكون عادة من جنس المُولَّى عليهم أي رعيته، فإن كانوا صالحين كان صالحا والعكس صحيح. قال الألوسي في تفسير قوله تعالى: “وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون”:”إن الرعية إذا كانوا ظالمين سلط الله عليهم ظالما مثلهم. وفي تفسير القرطبي عن ابن عباس قال: “إذا رضي الله عن قوم ولِيَ أمرَهم خيارُهم. وإذا سخِط الله على قوم ولي أمرَهم شرارُهم.”
يقول الفقيه مدال بن قيم الجوزية في كتابه “مفتاح دار السَّعادة” (1/253):
” وليسَ في الحِكمةِ الإلهيَّةِ أن يُوَلَّى على الأَشرارِ الفجَّارِ إلاَّ مَن يَكونُ مِن جِنسِهم، ولمَّا كانَ الصَّدرُ الأوَّلُ خِيارَ القُرونِ وأبرَّها كانَت ولاَتُهم كذَلكَ، فلمَّا شابُوا شابَت لهم الولاَةُ، فحِكمةُ الله تَأبَى أن يُوَلَّي علَينا في مِثل هَذهِ الأَزمانِ مِثلُ مُعاويةَ وعُمرَ بنِ عَبدِ العَزيز فَضلاً عن مِثل أبي بَكرٍ وعُمرَ، بَل ولاَتُنا على قَدْرنا، ووُلاَةُ مَن قَبلَنا على قَدرِهم.”
إن الحكومات التي تتولى أمورنا لم تنزل علينا من السماء، وإنما هي نتاج المنظومة المجتمعية التي نعيش أزمتها، أي نتاج الواقع الاجتماعي للرعية الفاسدة المفسدة. إن أعضاء هذه الحكومات هم أبناء الوطن، وينتمون إلى النسيج الاجتماعي الفاسد نفسه، فأنى لهم بالإصلاح والتغيير الجذري النافع ؟ وهل يُصِلح العطار ما أفسد الدهر؟
إن الذين يكثرون من إلقاء اللوم على الحكام والمسؤولين، ويسبون النصارى واليهود والصهاينة، ويعتبرونهم سبب تأخرهم وتخلفهم، لو استعملوا عقولهم ورجعوا إلى أنفسهم لوجدوا أن الخلل كامن في أنفسهم وذواتهم لا خارجها. إن نفوسهم التي استمرأت الجهل والكسل والعجز، وما إلى ذلك من أوصاف الذلة والدعة والسفالة والانهزامية، هي التي تمنعهم وتحجبهم عن استعمال العقل النقدي، ورؤية طريق الإصلاح وتغيير ما بالنفس. قال تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (سورة الرعد: 11).
والعجب أنك تجد شخصا مسلما في بلدك، يعمل أستاذا، أو طبيبا، أو مهندسا، أو مديرا؛ يعني يشغل وظيفة رسالية، لكنه يُكرّس في حياته ذلك الخطاب أو السلوك الانهزامي، وينحصر تفكيره في حدود مصلحته الشخصية، ولا يؤنبه ضميره على سلوكه اللامسؤول، وتفكيره السلبي اللاإنساني.
فمتى يصلح المجتمع إذا كان أهم أعضائه أشرارا، ومنافقين وأنانيين، وظالمين لأنفسهم ولغيرهم؟
هو كذالك اخي العزيز