كلام عصيد في الأحاديث النبوية و”الجرح والتعديل” عورة وجب سترها
هوية بريس – سامي فسيح
رأيت مقطعا لعصيد يقول فيه إن نقد المسلمين للأحاديث قائم على قضية الجرح والتعديل وأن هذا ليس علميا، وأن العلمي هو الحُكم على معنى الحديث..
قلت: هذا الكلام عورة وجب سترها، وجهل مركب يعجب منه كل من تملك تصورا ضروريا حول علوم الحديث، أو كون تصوره على النظر والممارسة النقدية، وهذا ليس سبا لكنه توصيف للعلة ووضعها في مكانها الصحيح في سلم الإدراك والعلم.
وهو كلام مجمل نقله عن غيره ممن قرأتُ كلامهم سابقا من المستشرقين الذين يزعمون أن الغرب يقدم اليوم بديلا علميا يقينيا في نقده للمرويات الحديثية، ثم لما تقرأ لعلمهم هذا ونقدهم تجد الهواء.
وبيان جهله المركب، يتأتى من وجوه أذكرها هنا دون تسوير لحدودها:
أولا: لا أجد حديثا رده مستشرق من المستشرقين إلا بمنهجية لا قرابة بينها وبين اليقين، فالذي يقول لك لن نقبل الحديث إلا بناء على ما توافر لدينا من أدلة التاريخ المادي الأركيولوجي والإبيغريفي ويحصر الحجية التاريخية فيهما ويشكك في المصادر الإسلامية، يفترض أنه أتى باليقين، في حين أن ما يأتي به لا يخرج عن حيز الشك، لأنه لا يستطيع الزعم أنه محيط بخبر كل المدفونات والمنقوشات المخطوطات الغابرة، ولذلك تظهر في بعض الأحيان مخطوطات فتهدم نظريات كبيرة ومعقدة بنيت في أصلها على دليل تاريخي مادي اعتقد صاحبه لما أتى به بأنه جاء باليقين.
أضف إلى ذلك أن كل هذه المدفونات والمنقوشات ليست إلا أدلة صامتة يتعامل معها وفق منهج ظني وهو التأويل والتفسير الذي يقدمه لها المؤرخ المادي.
فإن كان العلم عند عصيد هو اليقين، فإن مناهج العلوم الحديثة لم تأت بيقين ولا بظن، بل أتت بالشك ولم تتجاوزه بعد، وهو يعلم أن أزمة العلوم الإنسانية والتاريخية في الغرب تأتت من رغبتهم في بلوغ الدقة نفسها التي بلغتها العلوم الطبيعية مع كانط، لكنهم فشلوا في ذلك ودخلت علومهم الإنسانية في دوامة الشك والعدم واللايقين، فهل يستطيع عصيد الخروج إلى الناس ليقول لهم أن اليقين ولا حتى الظن الغالب لا وجود له في العلوم التي يريد الحكم بها على أحاديث البخاري ومسلم؟
ثانيا: إن علم الجرح والتعديل الذي يختزل علوم الحديث فيه، ليس إلا علما واحدا من علوم الحديث ولونا واحدا من ألوان النقد فيه، ومن الحقائق التي تبده الذهن، أن النقد المتون لا يمكن أن يُقدم على نقد الأسانيد، إذ بنقد الإسناد نتخلص من مرويات كثيرة للكذابين والوضاعين وضعفاء والثقات الضعفاء في بعض الرواة، والثقات الذين ثبت لدينا اختلاطهم أو ضياع نسخهم الخطية التي يروون منها أحاديث شيخ من الشيوخ أو مصر من الأمصار وغير ذلك.
ثالثا: بعد نقد الإسناد عبر علم الرجال، ندخل إلى لون من علوم التاريخ الذي تُضبط فيه السماعات وإمكان اتصال الرواة ببعضهم فيُتخلص هنا من كم هائل من المرويات التي تبث انقطاعها أو ارسالها.
رابعا: ثم تأتي مرحلة نقد المتن عبر كشف الشذوذ في مناقضة متن الحديث للقرآن الكريم، ومرويات الثقات، ومنافاته لضرورات العقل، وهنا يكون الاشتغال عن المتن.
لكن عصيد يريد أن يبدأ من حيث انتهى العلماء في انتحار علمي يدخله أمام خليط روايات لن يعرف من أين يبدأ نقدها، ثم يزعم المنهج العلمي، فأي منهج علمي هذا الذي يتحدث عنه؟
ثم خامسا: يأتي العلماء في مرحلة النقد المتقدم للحديث في الفحص الدقيق لمرويات الثقات التي سلمت من ذاك التسلسل النقدي المنطقي والمتدرج ليكشفوا عن أخطاء الثقات بضرب الروايات ببعضها البعض، فيُنظر كم أخطأ مالك وابن عيينة في الزهري وكم أخطأ حماد بن سلمة في ثابت البناني، وهكذا، وتثمر عمليتهم النقدية هذه نتائج مبهرة في الكشف عن أخطاء المبرزين من الرواة..
فإذا اكتملت العملية النقدية تحصل الظن الغالب بصحتها، وهنا لا نقول الشك كما يقول العصيد الذي يزعم أنه أستاذ فلسفة، ثم لا يدرك الفرق بين الوهم والشك والظن واليقين، فيقول عن ما ثبت بهذه الطريق أنه ثبت بالشك، بل نقول أنها ثبتت بالظن الغالب لحتفاف القرائن الباعثة على الاطمئنان بالخبر وقبوله، وقد يتحصل اليقين النظري للناقد الذي يتعامل مباشرة مع شبكات الأسانيد فيقف نظريا على القرائن المؤكدة لهذا المعنى في نفسه، وهنا أقول اليقين النظري لا اليقين الضروري.
ثم من قال لعصيد إن المسلمين مأمورون بحصر تعبدهم في اليقينيات؟ إن اليقين عزيز في سائر أمور الدنيا حتى في أمور العلوم التجريبية التي يتوهم عصيد وأمثاله من كهنة العالمانية أنها متحصلة ومتوفرة، وقرأ في ذلك ما كتبه كارل بوبر وغيره في هذا الصدد.
إن المسلم مأمور يقينا بالتعبد بالظن، ولا يلزم من نفي اليقين نفي الحكم، إذ الحكم العقلي باليقين يعسر لقدرة العقل الدائمة على توليد الاحتمالات النافية له، فما ثبتت بحكم العادة استحالة تواطئ رواته على الكذب، جاز بحكم العقل هذا التواطؤ، فيتولد الإشكال عند من لا يفرق بين العقليات والعاديات فيرفض ما لا يتجاسر العقلاء على رفضه بناء على انتفاء القطع العقلي فيه، وهذا جهل، والمسلم لا يُطلب منه تحقق القطع لا في ثبوت النص ولا في دلالته، بل يتوجب عليه العمل لمجرد رجحان كفة الظن لديه الذي قد يمثل لديه نسبة 95 مئوية، ثم يعمل بما ثبت لديه أو ما فهمه دون التفات إلى تلك النسبة المتبقية.
ثم إنني نظرت في من زعم أنه يقول علما، فوجدته يحكم على متون الأحاديث بما قدح في نفسه من شعور ومزاج نفسي تجاه الحديث، أو بما جال في قلبه من خواطر، فنقول لهم أين حكم العقل هنا؟ وهل تعلمون معنى العقل أصلا، وما موجبات رد الشيء بالعقل؟
والحكم على الأشياء بالشعور والخواطر والأمزجة النفسية، ليس بالعلمي، فمشاعر الناس متعددة، وأمزجتهم النفسية مختلفة وستتعدد أحكامهم حول الروايات بتعددهم، فمنهم من سيرد الحديث مثلا ومنهم من سيقبله، وهذا لا علاقة له بالعلم لا من قريب ولا من بعيد.
فلا تضحكوا على الناس الذين شغلتهم الدنيا والسعي في طلب الرزق عن طلب العلوم الإسلامية والعقلية من منبعها الأصيل، فحبل الكذب قصير ولن يطول الأمر حتى يُكشف أمركم ودجلكم.