“مُتلازِمة تازة” Taza Syndrome

06 يوليو 2025 23:17

هوية بريس – د.لطفي الحضري

“تازة قبل غزة”: من عبارة عابرة إلى بنية نفسية خاذلة

“تازة قبل غزة”، عبارة انتشرت في بعض الأوساط خلال أحداث مفصلية، بدت للوهلة الأولى مجرّد شعار عابر يُعبّر عن حالة انشغال بالشأن المحلي في مواجهة القضايا الكبرى. لكن هذا الشعار، مع تكراره وتبنّيه، بدأ ينتقل من كونه تعبيرًا ظرفيًا إلى كونه نمطًا من التفكير، يحمل دلالة نفسية واجتماعية وأخلاقية عميقة، تستحق التوقف والتحليل والتفكيك.

هذا الشعار ليس له أي علاقة بمدينة تازة أو بسكّانها الكرام، ولا يتّصل بأي انتماء جهوي، بل جاء اختيار اسم “تازة” فقط لما بينه وبين “غزة” من تناغم صوتي سهّل انتشار العبارة. لكن وراء هذا التناغم الظاهري، يختبئ خللٌ في ترتيب القيم، وتشوه في سلم الالتزامات، وتفكك في البنية النفسية للانتماء.

فما الذي يجعل البعض يرفض الانشغال بقضية مثل غزة، لا لأنها بعيدة، بل لأنها “غير أولى”؟

وما الذي يدفعه لتبرير هذا الرفض بشعار يبدو بريئًا في ظاهره، لكنه يحمل في باطنه انسحابًا من الضمير، وتنكرًا للألم، وتخليًا عن الواجب؟

لهذا السبب، نقترح فهم هذا السلوك من خلال ما نُسمّيه: “مُتلازِمة تازة”، وهي حالة من “جحود الألم”، يُصبح فيها الإنسان غير معنيّ بغيره، حتى لو كان ذلك الغير يُقصف، أو يُحاصر، أو يَستغيث باسم الدين والإنسانية.

ومن خلال نظرية علم النفس الفطري، الذي تركّز على البنية الأصلية السليمة للنفس البشرية، نرى أن هذه المُتلازِمة تُمثّل انحرافًا عن مبدأ أصيل في تكوين النفس السوية، وهو مبدأ التعاطف الفطري والارتباط بالحق.

فالإنسان، في أصل خَلقه، مفطور على الشعور بآلام إخوانه في الدين، ومهيّأ كذلك للتفاعل الإنساني مع معاناة الناس جميعًا، لأنه مفطور على الرحمة، والاستجابة للضعف، ونصرة المظلوم، كما قال تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾. وهذه الفطرة لا تُقيّد بالانتماء الضيق، بل تتسع لتشمل كل مَن يُنتقص حقه، وتستنكر الظلم أينما وُجد، وتُحرّك الضمير في اتجاه الحق، لا في خدمة الهوى أو الحسابات المصلحية.

وحين يختفي هذا الشعور، فإننا لا نواجه مجرد رأي مختلف، بل نواجه اختلالًا داخليًا يمسّ جوهر التكوين النفسي الفطري للإنسان.
ضبط المنهج: من نُخاطِب؟

من المهم قبل الخوض في التحليل أن نُحدّد بوضوح وجهة الخطاب، لأن الخطأ في توجيه الخطاب يؤدي إلى خلل في المنهج، وضعف في التأثير.

فحين نتحدث عن قضايا مثل غزة، والانتماء، والنصرة، فإننا لا نخاطب كل الناس بمنطق واحد.

فخطابنا هنا موجّه ابتداءً إلى من يقول: “أنا مسلم”. ولا يصح منهجيًا أن نستعمل في الوقت نفسه أسلوبًا موجهًا لأخٍ في العقيدة، وآخر موجهًا إلى عدوٍ في العقيدة، لأن لكلٍ منهم مدخلًا، ومنطقًا، وحُجّة مختلفة.

الخلط بين الخطابين يُفسد الرسالة ويُضعف المعنى.

بل قد يُتيح لآخرين أن يجرّوك إلى منطقٍ آخر، يُضيّع أولويتك، ويُحوّلك من صاحب موقف إلى مجرد جدليّ تائه. لذلك، نُعلن بوضوح أن خطابنا في هذا السياق موجه إلى المسلمين الذين ينتمون إلى الأمة قولًا واعتقادًا. وهؤلاء – بحسب تفاعلهم مع قضايا الأمة – يمكن تصنيفهم إلى أربع فئات رئيسية:

1. الفريق الحي الملتزم: هو الفريق الذي لم يُصب بعدوى “مُتلازِمة تازة”، بل لا يزال قلبه حيًّا، وعقله مرتبطًا بضمير الأمة. هذا الفريق يَعتبر أن قضايا المسلمين قضيته، وأن الظلم لا يُجزَّأ، وأن الألم المشترك مسؤولية مشتركة. وهو ملتزم بحديث النبي ﷺ: “من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.” فإن لم يستطيعوا التغيير بالفعل أو بالكلمة، فقلوبهم تبقى يقِظة، رافضة للمنكر، مستنفِرة تجاه الظلم، مُستنكرة للتطبيع وخيانة القضية. وهذا الرفض القلبي ليس سلبية، بل بداية المسار الصحيح، لأن القلب الحيّ هو الذي يُحرّك اللسان حين يستطيع، ويدفع اليد حين تَملك الوسيلة. هؤلاء هم الذين ما زالت بوصلتهم الأخلاقية تعمل، وما زالوا يرون أن غزة ليست قضية جغرافية، بل امتحان دائم لسلامة الانتماء، ويقظة الضمير، وصدق العقيدة.

2. فريق مستغفَل: غُيّب وعيه، وابتُلِي بالسطحية أو الانشغال داخل منطقة الراحة (Zone de confort)، حيث يفضّل الصمت، ويتجنّب التوتر، ويهرب من القضايا الكبرى لأنها تكلّفه ماديا، أو معنويًا أو فكريًا. لكنه -رغم ذلك – ليس خائنًا، بل يحتاج إلى من يُوقظه، ويُعيد إليه شعوره بالانتماء والمسؤولية.

3. فريق مستحمَر: يُساق بإرادته أو بغيرها إلى خطاب يضعه في موقع الدفاع عن الظالم أو التشكيك في المظلوم، دون أن يدري أنه أداة تُستعمل ضد أمته.

4. فريق مُستخفّ به: فَقَد الشعور بقيمة نفسه، وبقيمة الأمة، واستكان للخضوع، وصدق فيه قوله تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)﴾، سورة الزخرف.

“مُتلازِمة ستوكهولم” و”مُتلازِمة تازة”:

1. مُتلازِمة ستوكهولم (Stockholm Syndrome):

هي حالة نفسية يتماهى فيها الضحية مع الجلاد، ويُظهر تعاطفًا معه، بل ويدافع عنه أحيانًا، رغم الأذى الواقع عليه.
وتمثل هذه المُتلازِمة اختلالًا في البوصلة الشعورية للضحية، بحيث يُحوّل المعتدي إلى موضوع تعلّق، نتيجة الخوف أو الحاجة أو التبرير اللاواعي.

مُتلازِمة ستوكهولم: حالة نفسية غريبة يتعاطف فيها الضحية مع الجلّاد. بدلًا من كره المعتدي، يبدأ الضحية في تبريره، وربما الدفاع عنه والارتباط به عاطفيًا. ظهر المصطلح بعد حادثة سطو في مدينة ستوكهولم عام 1973، حيث دافع الرهائن عن المجرمين ورفضوا الشهادة ضدهم بعد إطلاق سراحهم!

هذا المُتلازِمة يكشف كيف يمكن للخوف أو الضغط أو الحاجة العاطفية أن تُحرّف بوصلة الضمير، فتجعل الإنسان يرى في المؤذي “منقذًا”، ويتعلق به من حيث لا يدري.

2. مُتلازِمة تازة (Taza Syndrome):

هي حالة نفسية-أخلاقية ينسحب فيها الإنسان من الالتزام تجاه الضحية، رغم وحدة الدين أو القيم أو المصير، ويُقدّم مصالحه الذاتية أو الجهوية ذريعةً لتبرير ذلك الانسحاب. وتمثل هذه المُتلازِمة تفككًا في الضمير، حيث لا يتماهى الفرد مع الجلاد، بل يُنكر على الضحية حقه في التضامن، متذرعًا بـ”الأولويات” أو بـ”ما عندي ما ندير بغزة”.

قد يُفهم مُتلازِمة تازة على أنها مجرّد “انسحاب من الضحية” دون أي تعاطف مع الظالم، لكن الملاحظة الدقيقة تكشف أنه طيف من الحالات، لا نمطٌ واحد:

1- فبعض الأفراد يكتفون بالتنكر للمظلوم، جحودًا لألمه، وخدلانا لواجب النصرة، واستهانةً بمعاناته، دون أن يُظهروا بالضرورة تعاطفًا مع الجلاد.

2- لكن آخرين، ومع انسحابهم من الضحية، يُبدون تقاربًا ضمنيًا أو علنيا مع الظالم، إما عبر تكرار خطابه الإعلامي والسياسي، أو عبر تبرير أفعاله والتماس الأعذار له.

ومن هنا، فإن “مُتلازِمة تازة” تظهر في مقابل “مُتلازِمة ستوكهولم”، حيث يتماهى الضحية مع الجلاد، لكن دون أن يكون نقيضًا مطلقًا له، بل نسخة انعكاسية معقّدة: مُتلازِمة ستوكهولم يتعاطف مع المعتدي، أما مُتلازِمة تازة فينسحب من المعتدى عليه، وقد يتقاطع مع الظالم في بعض الحالات.

وفي الحالتين، يظلّ المشترك الجوهري هو: تعطّل الشعور الفطري بالارتباط بالحق، وانهيار وظيفة التعاطف مع المظلوم.

ظهرت هذه المُتلازِمة بشكل صارخ في عبارة رددها بعض الناس: “تازة قبل غزة” ظاهريًا، قد يبدو هذا القول دعوة للاهتمام بالشأن المحلي، لكنه في عمقه تعبير عن اختلال خطير في البوصلة الأخلاقية، حيث تُختزل الكرامة في الجغرافيا، ويُستعمل منطق الأولويات كذريعة للتهرب من الالتزام الإنساني والديني.

مُتلازِمة تازة لا تدل على جهل بالقضية، بل على تفكك في الضمير، وفقدان للرابطة الشعورية مع المظلوم، بل وتبريرٌ للصمت باسم “الواقعية” أو “الانشغال بالذات”.

إنها حالة من “جُحود الألم”: حين يرى الإنسان آهات الضحية، ثم يمضي كأن شيئًا لم يكن؛ لا يهتز وجدانه، ولا يثور عقله، ولا يتحرك قلبه.

مُتلازِمة تازة ليست فقط موقفًا سياسيًا، بل تشخيص نفسي لقيمة مريضة:

1. قيمة تُبرر الصمت باسم العقل.

2. وتبرر القطيعة باسم الأولوية.

3. وتبرر التخاذل باسم “الواقعية”.

لكن الحقيقة هي أن من لا يهتز لغزة، لن يثبت لتازة. ومن يتخلّى عن الواجب الكبير، سيتنازل عن كل واجب آخر حين يضعف أو يُستدرج.

العلاقة العكسية: مُتلازِمة تازة ومُتلازِمة ستوكهولم.

مُتلازِمة تازة مُتلازِمة ستوكهولم البعد

مُدّعٍ للتجرد من أي مسؤولية. ضحية يتماهى مع الجلاد. موقع الفرد

برود تجاه المعتدى عليه. تعاطف مع المعتدي. اتجاه الشعور

إنكار الالتزام، وإهمال المظلوم. إنكار الخوف بالارتباط بالمؤذي. آلية الدفاع

في الشعور الفطري بالواجب. في التقدير الواعي للضرر. الخلل

تكريس الظلم، وتفكيك الجبهة الأخلاقية الجامعة. تكريس سلطة الظالم على الضحية. الخطر

تطبيع الخذلان بقيم مقلوبة. تأبيد العنف بوعي زائف. النتيجة

الاستنتاج:

كلا المُتلازِمتين يعكسان اهتزازًا في ميزان القيم الداخلية:

₋ مُتلازِمة ستوكهولم تحوّل الضحية إلى خادم للجلاد.

₋ مُتلازِمة تازة تُسقط المسؤولية الأخلاقية عن الإنسان، فيُصبح غير معني بالحق أصلاً، ولو على حساب أقرب القضايا.

إنه خلل في الانتماء النفسي:

₋ إما انتماء منحرف: ستوكهولم.

₋ أو انسحاب من الحق: تازة.

“إذا اشتكى منه عضو…” فهل غزة خارج الجسد؟

قال رسول الله ﷺ: “مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.” (متفق عليه). هذا حديثٌ بليغٌ لا يُفسّر فقط علاقة المسلم بأخيه، بل يُحدّد معيار الإيمان الحيّ: أنك لا تستطيع أن تكون مؤمنًا مكتمل الإحساس، وقلبك باردٌ أمام الألم، أو عقلك مشغولٌ عن الجراح، أو لسانك صامتٌ عن النصرة.

فإذا كانت غزة اليوم تنزف، وتُقصف، وتُحاصر، وتُباد أمام أعين المسلمين، ثم يأتيك من يقول: “تازة قبل غزة”، أو “ما شغلي، لست غزاويًا”، فهو ببساطة يقول: هذا العضو لا يعنيني، فليشتكِ وحده… أنا جسدٌ آخر.

لكن الحديث لا يترك مجالًا للحياد ولا للأنانية:

الجسد المؤمن لا يسكت، بل يتداعى.

يتألم، يسهر، يُصاب بالحمّى، ويُظهر ردّ فعلٍ حيّ، لأن الجرح الذي يصيب جزءًا منه، يُصيب الكل.

ف”مُتلازِمة تازة” إذن هي حالة انقطاع عن الجسد، هي بلادة روحية، وانفصال عن الانتماء، هي رفضٌ لأن تكون غزة “عضوًا منك”، واستقالة من شعورك بالانتماء العقائدي والإنساني.

بل إن بعضهم حين يُذكّر، لا يستحي من السخرية، أو من تبرير الصمت، أو قلب الأولويات، دون أن يشعر بأنه ينكر حديثًا من أوضح أحاديث النبوة عن الأخوّة.

إذا اشتكى عضو… فغزة تشتكي.

والسؤال ليس:

₋ هل أنت غزاوي؟

₋ بل: هل أنت مؤمنٌ حيّ الإحساس؟

₋ هل أنت من ذلك الجسد؟

أم أنك خرجت عنه، وقَطعت الرابط، وأطفأت نبض الضمير، لتدخل طوعًا في “مُتلازِمة تازة”؟

أولوياتك… وسؤال القبر

في عمق “مُتلازِمة تازة” يكَْمُن اضطراب خطير في سُلّم الأولويات. فحين يقدّم الإنسان “تازة” على “غزة”، فهو لا يعبّر فقط عن موقف سياسي، بل عن اختلال في فهم الهُوية، وعن انكماش خطير في حجم “الأنا” التي ينتمي إليها.

اسأل نفسك بصدق:

₋ من أنا؟

₋ هل أنا مسلم؟ أم مغربي فقط؟ أم مجرد “تازي” محدود بالأرض والهمّ الشخصي؟

الجواب الحقيقي يُحدّد الأولويات.

غزة تازة الانتماء

مسلمة مسلمة مسلم

عربية عربية عربي

فلسطينية مغربية مغربي

فكل ما في غزة من دموع ودماء، يمتد إليك بالرابطة نفسها التي تربطك بتازة، بل أعمق. لأن ما يربطك بغزة ليس الجغرافيا، بل العقيدة، والأمّة، والميزان الشرعي الذي ستُسأل عنه يوم القيامة.

تذكّر سؤال القبر. لن يَسألك المَلَكان:

1. هل كنت غزاويًا؟

2. ولا هل كنت تازيًا؟
3. ولا كم كان حجم “ملفك التنموي المحلي”؟

بل سيسألونك أولًا: “من ربك؟” “ما دينك؟” “من نبيك؟”

وحين تقول: “أنا مسلم”، فأنت تعلن التزامًا، لا وصفًا.

تقول: “أنا مسلم”:

↩ فذلك يعني أنك جزء من جسد الأمة،

↩ وأنك مُطالب بالنصرة، والتضامن، والدعاء، والدعم، والوعي، والموقف، …
↩ وأنك مسؤول عمّا تجاهلته، بقدر ما أنت مسؤول عمّا فعلته.

والنتيجة؟

1. أن موقفك من غزة سيكون حتما حجرًا في ميزانك الأخروي،
2. يقربك من الجنة،
3. أو يُقربك من جهنم…

ليس لأنك لم تفعل شيئًا تُحاسب عليه، بل لأنك قلتها بقلب بارد: “ما شغلي! تازة أولى!”.

وهذا القول فعلٌ بحد ذاته، لأنه يُترجم إلى انسحاب، وجُحود، وسكوت في موضعٍ لا يجوز فيه الصمت.

في قضايا أمتك، وفي جراح وطنك، لا وجود لشيء اسمه “الحياد”.

وكل صمت في موضع الحق، هو صوتٌ للباطل.

قاعدة: “الحياد موقف”.

“وامعتصماه”… امتحان الضمير الذي سَقَط فيه أصحاب “تازة قبل غزة”

عندما صرخت امرأةٌ مسلمة في عمورية تستغيث قائلة: ” وامعتصماه!”، لم يكن صوتها يُسمع على بُعد أميال، ولا كانت تملك جيوشًا ولا قبائل خلفها، لكن المعتصم سمع، ولبّى، وسار بجيشه، ونصرها.

كان يمكن أن يُقال له في زمانه: “لدينا مشكلات داخلية، اقتصاد الدولة في أزمة، حدودنا مهددة، لا طاقة لنا بحرب”، لكنه لم ينظر إلى حسابات الأرض، بل استجاب لنداء الكرامة، وارتقى إلى مقام الخلافة بمعناها الحقيقي: خلافة عن الأمة في حفظ عزتها وحقها وهيبتها.

فماذا لو أن المعتصم قال يومها: “بغداد أولى من عمورية”؟

وماذا لو اعتبر صرخة المرأة صرخة فردية لا تستحق حشد الجيوش؟

في مقابل “وامعتصماه”، يبرز اليوم من يردّد: “تازة قبل غزة”، لا ليرتّب الأولويات بعقلانية، بل ليُبرّر خذلانه، ويغلق قلبه، ويُخدر ضميره.

قاعدة: ” الخدلان هو أن تفعل أقل مما تستطيع”.

إنه الفرق بين الاستجابة النبيلة للألم، وجُحود الألم باسم الذات والمصلحة.

“مُتلازِمة تازة” إذن ليست مجرّد فتور، بل هو سقوط أخلاقي أمام اختبار الضمير، ذلك الاختبار الذي نجح فيه المعتصم، وسقط فيه كثيرون ممن غلبتهم الواقعية المزيّفة، فصاروا يرون في النصرة عبئًا، وفي الألم البعيد لا شيء يُلزمهم.

يوسف بن تاشفين: ذاكرة النصرة في زمن الخذلان

قبل نحو ألف عام، لم تكن غزة تصرخ، بل كانت الأندلس تستغيث. استغاثة لم تكن من امرأة واحدة، بل من حضارة بأكملها تُستباح، وكرامة تُهدد، ودين يُحاصر بين ممالك الصليب.

في مراكش، سمع يوسف بن تاشفين نداء الأندلسيين، فامتطى صهوة جواده، وجمع الجيوش، وعبر البحر، وقال: “لبيك يا أندلس”.
لم يقل: “مراكش قبل الأندلس”.

ولم يبرر بتحديات الداخل، ولا بمشكلات القبائل، ولا بضعف الموارد.

كان يمكن أن يقول: “مالي ولهذا الصراع وراء البحر”، لكنه كان من رجال العقيدة والهمة والكرامة، فحمل سيفه وأسس مجدًا لا يزال يُذكر حتى اليوم.

وقد جاوز التسعين من عمره، ومع ذلك لم يَنزل عن صهوة الجهاد، ولم يُغلق قلبه عن نداء الاستغاثة.

واليوم، أحفاد يوسف في الجغرافيا، يرفع بعضهم شعار: “تازة قبل غزة”، لا طلبًا للعدل، بل تبريرًا للخذلان، وتنصُّلًا من الرابطة، وتنكّرًا لجراح الأمة.

فأين نخوة ابن تاشفين؟

أين سهامُه التي اخترقت جحافل الطغيان؟

أين ذاك المغرب الذي عبر البحار لنصرة الدين والأرض، وصان دماء إخوانه، وكتب صفحة المجد في الزلاقة بدماء المغاربة؟

إن “مُتلازِمة تازة” ليست فقط نسيانًا لغزة، بل خيانة لتاريخ المغرب نفسه، ولفروسية رجاله، وللقيم التي قامت عليها الأمة.

ف بن تاشفين يسمع صراخ الأندلس عبر الريح والبحر، وبعض أحفاده اليوم لا يسمعون صراخ غزة رغم القصف والنار، والموت.

فمن كان من جغرافية ابن تاشفين، لا يليق به أن يُصاب بـ”مُتلازِمة تازة”. لأن الجحود ليس من شيم الفاتحين، والصمت ليس من لغات المروءة، والتخلي عن غزة هو تخلي عن “قيم تاشفين”، وتفريط في الإرث الجهادي الذي صَنع به المغرب مجده وهُويته وخلوده.

خرائط الخذلان: قراءة في الأعراض النفسية ل”مُتلازِمة تازة”

“مُتلازِمة تازة” ليست مجرد رأي شاذ، -كما ذكرتُ- أو شعار لحظي، أو موقف عابر. إنها بنية نفسية وسلوكية معقّدة، تتكشّف عبر سلسلة من الأعراض التي لا تظهر دفعة واحدة، بل تتسرّب إلى وجدان الإنسان، وتتشكل على هيئة مشاعر وتبريرات وسلوكيات تُعيد تشكيل وعيه من الداخل.

من يتبنى هذه المُتلازِمة لا يردد فقط: “تازة قبل غزة”، بل يعيش حالة داخلية من الانكماش والانسحاب والخلل في الإحساس بالآخر، وتبدأ أعراضه بالظهور شيئًا فشيئًا، حتى يتحول إلى إنسان لا يشعر، ولا يتفاعل، وربما – في بعض الحالات – يبتسم في وجه الدم.

هذه ليست مبالغة، بل ملاحظة سريرية تتكرر: تحوّل الخذلان إلى قناعة، ثم إلى “أسلوب حياة”، ثم إلى قشرة دفاعية تحمي هشاشة الداخل.

ولأننا نعرف أن الفكر لا يتحرّك من فراغ، فإننا هنا لا نكتفي بوصف العبارة، بل نتتبّع جذورها النفسية، ونحلل أعراضها كما تظهر في مواقف أصحابها، وردود أفعالهم، وتبريراتهم، بل وحتى في نظراتهم وتعليقاتهم الساخرة.

فما هي ملامح هذه المُتلازِمة كما تظهر في السلوك والوجدان؟

وما هي تلك الأعراض التي، إن اجتمعت، دلّت على أن صاحبها لم ينسحب فقط من غزة… بل انسحب من ضميره أولًا؟

الأسباب النفسية لمتلازمة تازة: من الطفولة إلى التشوّه

إن السلوك الذي ينطق بشعار: “تازة قبل غزة” لا يجب أن يُفهم كرد فعل عابر أو رأي فردي، بل كمؤشر على خلل بنيوي داخلي، تطوّر عبر مراحل حياتية مركّبة، وترك أثرًا واضحًا على العلاقة مع الذات، ومع الجماعة، ومع القيم.

من هنا، فإن الخوض في تحليل الأسباب هو ضرورة تشخيصية لفهم الكيفية التي تتكوّن بها هذه المتلازمة، ولتمييز بنيتها النفسية عن غيرها من المواقف الفردانية أو الانعزالية. فالذي يُصاب بهذه المتلازمة لا يولد بها، بل تُزرع جذورها في مراحل مبكرة من حياته، ثم تتغذى لاحقًا على ما يواجهه من إحباطات وخيبات وتمثّلات مشوّهة للكرامة والانتماء.

ولأجل هذا التفكيك، نُقدّم تصنيفًا تحليليًا للأسباب، نقسّم فيه البنية النفسية المؤدية إلى “متلازمة تازة” إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول: الأسباب المرتبطة بالطفولة، وهي تلك التي تنشأ داخل النسيج الأسري والمدرسي والاجتماعي، وتشكل الإطار الأولي لتمثّل الذات والهوية والانتماء والسلطة، وتُنتج نوعًا من الهشاشة النفسية تُجاه الجماعة.

القسم الثاني: الأسباب المرتبطة بالتجربة الحياتية، والتي تظهر لاحقًا عبر الاحتكاك بالمجتمع والصدمات والعلاقات والسلطة والإقصاء، فتعمّق الشروخ الأولى، وتُنتج أنماطًا دفاعية، كالتبرير، والانسحاب، والانبهار بالقوة، وكراهية الذات الجماعية.

هذا التقسيم لا يفصل بين مرحلتين زمنيتين فقط، بل يُضيء على البنية التفاعلية المعقّدة التي تنقل الفرد من طفولة مثقوبة إلى تشوّه شعوري مزمن، يظهر في أقواله وسلوكياته تجاه الأمة وقضاياها. وعليه، فإن فهم هذه الأسباب هو الخطوة الأولى نحو تفكيك المتلازمة، وتجاوز منطق الإدانة الأخلاقية السطحية، نحو تشخيص علمي رصين.

وعليه، فإن هذا الجزء من الدراسة يُقدّم مَدخلًا لفهم الأسباب النفسية التي تُغذّي “متلازمة تازة”، عبر رصد ثنائي دقيق بين الطفولة المنسية والحياة المعاشة، لفهم اللحظة النفسية التي يصل فيها الفرد إلى أن يقول: “تازة قبل غزة “، لا كفكرة، بل كمتلازمة.

أولًا: الأسباب المرتبطة بالطفولة والعلاقات المبكرة

هذه الأسباب تُرسّخ البناء الأولي للهُوية، وتُشكّل تمثّل الذات والانتماء والعلاقة مع السلطة، وتُسهم في بناء الهشاشة النفسية الأولية:

البيئة الأسرية والمدرسية والمجتمع:

₋ نشأة في بيئة تُقدّس الفردية.
₋ غياب التربية على المسؤولية الجمعية.
₋ تنشئة متناقضة، تبريرات متكررة لسلوك خاطئ.
₋ تربية قائمة على الطاعة المذعنة، فشل في بناء كرامة داخلية مستقلة.
₋ هشاشة الوعي القيمي، تربية على المصلحة الفردية لا الواجب الجماعي.
₋ الاعتداء الجنسي.
₋ ضعف التفكير النقدي، منظومة تعليمية موجهة.
₋ ضعف القدرة على تحمل الضعف.
₋ نشأة في بيئة مشوشة بين الانتماء الديني/الوطني والانتماء القانوني.
₋ انهيار البناء القيمي التربوي في الأسرة أو المدرسة.
₋ عدم القدرة على الدفاع عن النفس: استقبال المقاومة الفردية بالشتم أو الإهانة.
₋ غياب القدوة المقاومة، غياب الرموز الوطنية الحامية.
₋ التعرّض المستمر لخطابات تُقلل من قيمة الذات (مدرس، أب، سلطة محلية).
₋ صورة سلبية عن الذات متكرسة منذ الطفولة (جمال، عائلة، نسب، الفقر…).
₋ علاقة عدوانية مع المرجعيات الدينية: المسيد، الأب…
₋ التنمر المدرسي.

ثانيًا: الأسباب المرتبطة بالتجارب الحياتية

وهي الأسباب التي تتطور لاحقًا، وتُشكّل بنية رد الفعل، وتُعيد إنتاج الانفصال عن الذات الجماعية، وتُعزّز النفعية والانبهار بالقوة:

₋ الشعور بالنقص الأسري ومحاولة تعويضه.

₋ تجربة إحباط متكررة.

₋ الانبهار بالهيمنة.

₋ الاعتقاد بأن الضعيف لا يُحترم.

₋ علاقة براغماتية مع الواقع: الدنيا مصلحة.

₋ التبلد النفسي: فقدان التعاطف بسبب الانفصال الهُوياتي.

₋ الشعور بالعجز.

₋ رغبة في التميز بأي ثمن.

₋ عقدة هزيمة تاريخية غير معالجة.

₋ تعويض نفسي عن شعور بالدونية.

₋ غياب الإحساس بالانتماء الحقيقي.

₋ تهميش مزدوج من “الدولة” و”الأمة”.

₋ شعور مزمن بالهزيمة.

₋ رؤية مادية للعالم، تشكيك في أي قيمة لا تُترجم إلى مكسب مباشر.

₋ شعور بالنقص المزمن: تعويض بالمال، أو السلطة، أو الإعلام.

₋ الانسحاب عاطفي: خوف من التورط في الألم.

₋ الانبهار بالسيطرة: الإعجاب بالنظام والقوة على حساب العدل.

₋ تقمّص “السيد” لتحقير “العبد”.

₋ شعور دفين بالخزي من الذات الجماعية.

₋ تكرار السلوك اللاأخلاقي دون تأنيب.

₋ تبرير الظلم باعتباره واقعًا.

₋ انعدام الانتماء التاريخي بسبب قطع في السردية التاريخية.

ملاحظة منهجية

رغم هذا التقسيم الثنائي، فإن هناك تفاعلات دائرية: فبعض الأسباب تبدأ في الطفولة ثم تتضاعف مع التجربة (مثل الاعتداء أو الإهانة)، وأخرى تظهر لاحقًا لكنها تجد جذورها الأولى في تربية مهزوزة أو مشروطة.

أعراض “متلازمة غزة”:

4. الاستمتاع بألم الآخرين.
5. الاستمتاع في خضوع الآخرين.
6. الشعور بعدم الاستحقاق.
7. الخوف من الألم أو عدم القدرة على تحمّله.
8. الولع بالقيود والحرمان، والشعور بالراحة في دور الضحية.
9. الخضوع والتسليم للمعتدي أو المتسلّط.
10. الرغبة في رؤية الآخرين يُذَلّون ويُهانون.
11. استمراءٌ القسوة العاطفية تجاه الآخرين.
12. الاستخفاف بسلامة الآخرين.
13. عدم الامتثال للحدود الشرعية أو الأخلاقية (لامبالاة دينية/اجتماعية).
14. “العزة بالإثم”: عدم الاعتراف بالخطيئة أو الخطأ.
15. تبرير المواقف الخاذلة باسم الواقعية أو العقلانية.
16. الاعتقاد بأنه “واقعي”، ولا يفهمه إلا أشخاص “نخبة” من الغرب.
17. نظرة استعلائية تجاه مشاعر الآخرين أو احتياجاتهم.

ملاحظة إكلينيكية:

كما هو معلوم في علم النفس الإكلينيكي، فإن التشخيص لا يشترط اجتماع جميع الأعراض في شخصٍ واحد، بل يُبنى على الترابط الدالّ بين مجموعة من المؤشرات النفسية والسلوكية. وفي سياق “مُتلازِمة تازة”، لا يُشترط توفر كل الأعراض المذكورة، بل يكفي ظهور سبع منها على الأقل، بصورة متكررة ومترابطة، حتى نعتبر أن الفرد يُظهر نمطًا نفسيًا مستقرًا يُقارب هذه المُتلازِمة ويعبّر عنها.
خاتمة:
“مُتلازِمة تازة” ليست مجرّد فتورٍ عاطفي أو انشغالٍ ظرفي، بل هي انسحاب مبرمج من الالتزام النفسي والديني والإنساني، يبدأ بتبرير الصمت، ثم ينتهي بتقنين اللامبالاة والدفاع عن الظالم. وهو لا يعبّر فقط عن موقفٍ من قضية خارجية، بل عن خلل بنيوي في الانتماء، يطال عمق الشخصية.
وخطورته الكبرى أنه يُقنِع صاحبه أن ما يحدث في غزة، لن يحدث في المغرب، وأن الدم المسفوح هناك لا علاقة له بأمنه هنا، ولا بمستقبله، ولا بدينه، وهذا وهمٌ خطير، ينمّ:
1. إما عن جهلٍ عميق بالتاريخ.
2. أو عن سذاجةٍ قاتلة.
3. أو عن بيعٍ صريح للضمير.

فالتاريخ يُعلّمنا أن من لا يرى آلام أمّته، سرعان ما يتذوّقها في عُقر داره. وأن الخذلان، إذا تُرك دون تشخيص، لا يموت… بل يتمدّد. يغادر غزة، ويتسلّل إلى الوجدان المغربي، فيُحوِّل العقل من نصرة الحق إلى تحليلٍ مشوَّه للأولويات، لا يستند إلى منطق قيمي، بل إلى آليات دفاعية تبريرية تُغذّي المتلازمة. ويُحوِّل القلب:

₋ من جهة، من الغضب على الظالم إلى التماهي معه وتقمّص شخصيّته.

₋ ومن جهة أخرى، إلى “الحياد” أمام الضحيّة، واستمراء ألم الغير، بل والاستهزاء بضعفهم، وتحميلهم ما يقع لهم.

لذلك، فمعالجة مُتلازِمة تازة ليست واجبًا تجاه غزة فقط، بل ضرورة وجودية لصيانة الهُوية، وحماية الوطن والأمة من التفسخ البطيء.
لأن من يُطفئ النار في بيت جاره، إنما يُطفئ احتمال احتراق بيته غدًا. ومن يتنكّر لدم أخيه، إنما يُعلن إفلاسه الروحي قبل أن يُعلن انسحابه السياسي.

“متلازمة تازة” مرض نفسي قيمي، يُصيب المواقف بالتشوّه، ويُنتج انحيازًا مضادًّا للحق تحت غطاء الواقعية أو الحياد.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
19°
19°
السبت
19°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة