أمام حكومة بنكيران ملفان ساخنان: الأوقاف والزكاة؟
د. محمد روراضي
هوية بريس – الخميس 11 شتنبر 2014
حكومة ملتحين؟ أم حكومة إسلاميين؟ إنهما عبارتان مترادفتان بالنسبة لجهات عدة. وإن كانتا كذلك، صح لدينا على الفور تحويلهما إلى مجرد فرضين كحالين واقعيين محاطين بكثير من الشكوك! مما يعني أن التسليم بهما يستدعي اختبارهما كخطوة سابقة للقبول باحتضانهما؟
فإن كان القول بحكومة ملتحين، أو بحكومة إسلاميين، يعني تسيير شؤون الدولة من منظور اعتماد علم الفقه، والذي هو التطبيق الفعلي للأحكام الشرعية العملية، فليس لنا غير التريث ريثما ننتهي من استنطاق الواقع الذي سوف ينصف لا محالة بما يجري فيه، كافة الأطراف القابلة، أو الرافضة لوجود حكومة، حريصة كل الحرص على تطبيق مبادئ الدين وتعاليمه وأحكامه! أم هي لتحديد هويتها التي لم يقع الإجماع حولها، لا تعدو أن تكون امتدادا لحكومات علمانية، تعاقبت على السلطة، منذ التخلي عمدا عن تطبيق شرع الله، والإمساك عمدا بقوانين وضعية، حولها تسامر العلمانيون ويتسامرون حتى حدود الساعة، مباشرة فور وطء الغزاة الاستعماريين بأقدامهم أرضنا رسميا عام 1912م.
لن نتساءل بخصوص ما يعنيه كون المغرب بنص الدستور دولة إسلامية؟ ولن نتساءل بخصوص ما يعنيه كون ملك البلاد بنص نفس الدستور أميرا للمؤمنين وحامي حمى الملة والدين؟ وإنما نتساءل بخصوص تعامل حكومة بنكيران مع الأوقاف الإسلامية، خاصة وأن مفهوم رئيس الوزراء يفيد بأن هؤلاء كلهم من مرؤوسيه الذين يتلقون توجيهاته وينفذونها! كان في اجتماع مع كل واحد منهم على انفراد، أو كان يصدر أوامره إلى وزير بعينه -وما يعرف بمجلس الحكومة الدوري منعقد- فالقسم الذي أداه رئيس الوزراء أمام الملك، هو نفسه الذي أداه مرؤوسوه في نفس المناسبة. نقصد مناسبة تسلمهم للمهام التي أقسموا بالله العلي العظيم أن يقوموا بها على أحسن وجه. فيكون من جملة ما أقسم عليه عبد الإله بنكيران ومرؤوسوه هو الإخلاص للدين قبل غيره وبعد غيره؟
فهل تم إنجاز هذا الإخلاص تحديدا من طرف رئيس الوزراء، ومن طرف مرؤوسه الخدوم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية على وجه التحديد؟
لن نتناول بالتفصيل مقاصد الشريعة، ولن نقوم بتحليل الضروري منها وهو المحافظة على الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وإنما نتناول موضوعين دينيين يدخلان في إطار مسمى التكافل الاجتماعي. إذ من شأنهما متى تم تطبيقهما التخفيف ما أمكن من وطأة العوز على النفوس والأبدان، ما دام الإسلام يسعى بصريح مضامينه إلى نشر الأمن والعدل والحرية والاستقرار والمساواة والأخوة والطمأنينة والكرامة.
فقد كان من ضمن ما تعلمناه من نبينا أن نهيئ لإخواننا في العقيدة بعضا من مصادر الرزق كواجب على أثريائنا إنجازه، قبل مفارقتنا الحتمية للعالم الأرضي. فعنده صلى الله عليه وسلم -كترجمة منه لبعض محتويات الذكر الحكيم- أن الإنسان تجري محاسبته مرتين: مرة في الدنيا ومرة في الآخرة. حتى وإن لم تتم محاسبته أمام الخلق، أي بعلم من الرأي العام، فإن عليه أن يدرك تمام الإدراك كونه يحمل معه “ملفه” أو “كتابه” أو “سجله” الذي تدون فيه كافة تصرفاته. غير أنه حين يتوفاه ربه لن تسجل في كتابه لا حسناته ، ولا سيئاته إلا في ثلاث حالات، حددها رسول الله بقوله: “إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.
والذي يهمنا هنا الآن، هو الصدقة الجارية التي أولاها عمر الفاروق اهتمامه. فكان أن وقف أو حبس، يعني أنه تخلى عن بعض من أملاكه لصالح من يستحقون الاستفادة منها لفقرهم الشديد. وهم المذكورون -بمناسبة الحديث عن الزكاة- في قوله عز وجل: “إنما الصدقات للفقراء والمساكين…” إلى آخر الآية. بحيث يرتجي الواقف الذي حبس شيئا ما لمنفعة شخص أو أشخاص، دوام الحصول على أجر ما حبسه بعد وفاته إلى يوم الدين. فمن وقف في أرضه بئرا لمن هم في افتقار إلى الماء العذب، سوف يثاب على فعله بنصوص قرآنية وحديثية، لأن ما أقدم عليه صدقة جارية. حتى إذا ما كان ممن غلبت سيئاتهم حسناتهم، لأصبحت إضافة حسنات إلى سجله الذي طوي بموته ممكنة بنص الحديث النبوي المتقدم. ولا مانع عندنا من تصور حسناته تتضاعف إلى حدّ تغلب عنده على سيئاته، بفضل الوقف أو الأوقاف التي وقفها، كانت أرضا صالحة للزراعة، أو كانت آبارا، أو حمامات، أو دورا للسكن، أو حقولا مغروسة بأشجار مثمرة، ما دامت الأوقاف هذه تعود بالنفع على المعوزين من اليتامى والأرامل والضعفاء والمرضى والمساكين على العموم.
وبما أن الأوقاف تشرف عليها منذ عهد بعيد جهات حكومية سلطوية، فإن من واجبها أن لا تغير مسارها كممتلكات، وضعت أو حبست لتحقيق أهداف محددة ذكرناها موجزين، إنما هل يتضح من تصرف حكوماتنا المتعاقبة فيها ما يدل على احترام رغبات الواقفين؟ أم إن السياسات العلمانية المتبعة لا تقدم سوى تصرفات تصب في خانة حرمان آلاف من المحبسين الأموات والأحياء مما حبسوا من أجله ما حبسوه، أي من الأجر الذي سوف يضاف إلى سجلاتهم من يوم وفاتهم إلى النفخ في الصور؟
فلنتصور سويا أرضا مزروعة بأشجار الزيتون، وقفها مالكها لصالح فقراء بعض قرى الجنوب المغربي كمجرد مثال، فهل تتدخل الدولة لضمان استفادة فقراء تلك القرى مما تم وقفه لأجلهم على اعتبار أنهم من ذوي الحاجات الضرورية الملحة؟
إن تعلق الأمر بالإشراف على عملية استفادة الفقراء أولئك مما حبس من أجلهم فلا بأس، لكن ما الذي يحدث لو باعت وزارة الأوقاف تلك الأراضي وحولت ثمنها إلى ما تسميه أفعالا خيرية كطبع كتب بعينها، وكإرسال مجموعة من المواطنين لأداء فريضة الحج على حسابها؟ أو حولت ثمنها وثمن غيرها من ممتلكات الأوقاف كي توظفه في خدمة ما يعرف اليوم بتدبير الشأن الديني! وهذا الشأن الديني الذي يجري تدبيره -وحكومة الإسلاميين شاهدة وموقعة على ما يجري- خليط من الحق والباطل! خليط يتقدمه الادعاء العريض بأن وزارة أحمد التوفيق -مرؤوس بنكيران القادم من مدرسة دعوية- تواصل ليل نهار تفعيل المذهب المالكي! والعقيدة الأشعرية! وطريقة الجنيد الصوفية!
وإن نحن قمنا بتمحيص الواقع الديني بمغرب رئيس وزرائه اليوم إسلامي الانتماء، على خلاف رؤساء وزرائه السابقين! لما وجدنا ما يدل بوضوح تام، أو حتى شبه تام، على أن الثالوث المتقدم ذكره يجري به العمل! وما على الراغبين في التأكد من هذا الطرح المحسوس لا المجرد، سوى مراجعة مؤلفي الصادر في ربيع 2013م. أقصد “عن تدبير الشأن الديني والتطرف. أيه هفوات وأية مفارقات؟”. فإنهم سوف يقفون لا محالة على حقيقة مرة، تحكي كيف أن المذهب المالكي في واد، وما تدعي الدولة التمسك به منه في واد آخر!!!
وكمجرد أمثلة لما ندعيه نقول: قراءة القرآن على هيأة الاجتماع مكروهة عند مالك! إنها غير وارد فعلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! ولا عن صحبه الكرام البررة! والدعاء الجماعي على إثر الخروج من الصلاة ليس من سنة نبينا، ولا من ثوابت المذهب المالكي! والمشي وراء الجنائز ورفع الأصوات أثناء المشي وراءها بأذكار محددة، ما نص عليهما مذهب مالك، ولا عرف، أو روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقراءة القرآن عند القبور ودفن الميت جار قائم؟ وما يعرف بعشاء الميت؟ وما يعرف بالفدية؟ وما يعرف بعيد المولد؟ وما يجري في هذا العيد من مبتدعات، كقراءة بردة المديح للبوصيري الشاذلي الطريقة؟ كلها ممارسات غريبة عن مذهب مالك الذي هو متبوع المغاربة قديما لسبب وجيه، هو أنه رحمه الله على وعي تام بكتاب الله وسنة نبيه! مع الإشارة الفورية إلى أن من ضمن أصوله الفقهية، عمل أهل المدينة التي نشأ فيها وترعرع. إن أهلها -وقد فتح عينيه بين ظهرانيهم- بعيدون عن فعل ما ذكرناه للتو! دون الدخول في التفاصيل المتعلقة بالعقيدة الأشعرية، وبطريقة الجنيد الصوفية التي لم يدرك الطرقيون عندنا حتى الآن حقيقتها الخلفية! وما لم يدركوه، هو أن لها وجهين، ليست هذه مناسبة شرحهما للقراء الأكارم.
ومتى استحضرنا الجيش العرمرم الذي هيأته الدولة لتولي مسمى الوعظ والإرشاد داخل المغرب وخارجه، لأدركنا كيف أن ملايين الدراهم تنفق، لا في سبيل الله بالانتصار لدينه، وإنما في سبيل تعزيز مخططات سياسية، تتحمل وزارة الأوقاف أكبر نصيب مالي لإنجاحها، ولو كانت ولا تزال تقوم على الخداع الذي لا تنطلي على عقلاء المغاربة مختلف أوجهه المفضوحة! فمن حمل الأئمة والخطباء والمرشدين المزعومين على الترويج للدين من منظور الدولة العميقة، إلى تنصيب دعاة يقدمون للجماهير في وضح النهار ضلالا لا يلفه لبس ولا غموض، وذلك من خلال برامج إعلامية في مختلف القنوات المغربية التي تتولى الدولة إدارتها.
فقد أصبحنا نشاهد على شاشات التلفزة أضرحة فوقها درابيز مزكرشة، وإلى جوارها من يسرد سيرة أصحابها استهواء منه للجماهير، واستخفافا منه بعقول المشاهدين. وكيف لا، ووزير الأوقاف الذي يشرف على توظيف ما وقفه المحسنون للدفاع عما أصبح دينيا وحده المقبول على الصعيد الرسمي طرقي حتى النخاع!!! فكان أن صح عندنا وتأكد الاعتداء فعلا على الواقفين الذين توقعوا جني ثمار ما وقفوه كأجر أو كثواب، وإن شئنا قلنا كحسنات.
أما فيما يتعلق بالملف الثاني الساخن الذي ينتصب أمام حكومة الملتحين، والذي لا يستطيع بنكيران إحداث أي تغيير يذكر بخصوصه فنختصره في التساؤلات الآتية:
إن كانت الزكاة ركنا ثالثا من أركان الإسلام بعد كل من الشهادتين والصلاة، فهل نعفي الأغنياء -ونحن حكام- من دفعها، ولو أنها فرض بدون القيام به لا يكتمل دين من امتنع عن إخراجها إن كان ممن يملكون ما يزكونه؟ فهل نترك جبايتها، والله عز وجل يقول مخاطبا مجتباه: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم“؟ هل نترك جبايتها وكأننا تعمدنا واستحسنا ما تعمده الاستعمار واستحسنه، فصح أننا نخطئ الله ونتجاوزه حين نرفض رفضا قاطعا فعل ما أمرنا بفعله؟
والحال أن الزكاة مطلب اجتماعي ملح، مثله مثل الأوقاف، إذ لو تم توظيف المطلبين كليهما لخففنا بدون ما شك من وطأة الفقر والعوز على آلاف الأسر، لكن إصرارنا على علمنة كل حياتنا أدى بنا إلى الوقوع في مهاوي لا قاع لها ولا قرار.
وأذكر أنه في حدود أواسط عام 1970م صدر عن وزارة الثقافة إعلان يقضي بإجراء مسابقة مرفوقة بجوائز، لإنجاز دراسة تبلور كيفية إدماج الزكاة في الاقتصاد الوطني. فكان أن شاركت حينها في تلك المسابقة لدافعين اثنين: دافع الحصول على إحدى الرتب المتقدمة التي تمكنني من إحدى الجوائز المالية. ودافع وراءه الفرحة بالعودة إلى تفعيل فرض ديني طالت مدة إغفال تفعيله.
غير أن أمل المتطلعين إلى إنجاز ما تم اقتراحه تحول إلى خيبة أمل شديدة الوقع على النفوس! فقد جرى دفنه دونما تبريرات يشارك علماء الأمة في صياغتها، ورابطة علماء المغرب حينها قائمة! ولا نعرف تحديدا -والمغرب على أبواب “السكتة القلبية” كما قال الحسن الثاني- كيف ظهرت الدعوة مجددا إلى دمج الزكاة في الاقتصاد الوطني، فلم يكن مني غير المسارعة إلى إنجاز دراسة شاملة حول موضوع شغل ولا يزال يشغل بال الرأي العام الوطني. تناولت فيه كيفية جباية الزكاة، وكيفية الاستفادة منها، فتكرمت جريدة “الأحداث المغربية” في حلتها القديمة بنشرها في ثلاث حلقات أو في حلقتين، لم أعد أتذكر. إنما باسم مستعار هو: جار الله محمد. وكان ذلك أواخر التسعينيات من القرن الماضي. ثم كان أن عرف الاقتراح الذي خاطب به وزير الأوقاف عبد الكبير المدغري مشاهدي القناة الثانية، نفس مصير الاقتراح المتقدم زمنا عليه!
وبعد رحيل الحسن الثاني عن الفانية، وبعد أن آل أمر الأوقاف خاصة، وأمر الدين عامة إلى المؤرخ الطرقي البودشيشي أحمد التوفيق -وحكومة الملتحين قائمة- لم نجد أمامنا غير السير في نفس النهج العلماني، الذي لا يعير أي اهتمام للإسلام الحق! وإنما أعاره ويعيره للطرقية والقبورية والابتداع الذي يشكل وجها من وجوه التطرف السيئ المقيت! وهو وجه لا يرى رئيس الوزراء غير تشجيع مرؤوسه وزير الأوقاف على الاستمرار في تفعيله، استرضاء لخصوم المنادين بالعودة إلى الأصول والمنابع!
والحال أنني طالما نبهت رئيس الوزراء، مرة في بيتي، ومرة في بيته، بحضور مستشاره الذي يلازمه كظله: عبد الله باها، إلى أن الدخول في المرحلة المدنية لن يتأتى إلا بعد استكمال ضوابط المرحلة المكية! وإلا وجد نفسه وفريقه معه أمام نظام علماني شرس، لا يقبل ولن يقبل في المستقبل المنظور، حتى بالانتقال السلمي السلس إلى عهد يتم فيه التخلي نهائيا عن أي نوع من أنواع الإقصاء! وعن الدساتير الممنوحة! هذه التي تظل الأنظمة العلمانية العربية كلها من خلال فصولها متمسكة بخيوط الاستبداد التي سوف لا يقطعها، ولن يقطعها سوى دستور من وضع هيأة شعبية منتخبة في جو من الحرية والنزاهة والمراقبة الصارمة. والعبرة بالمحروسة: جمهورية مصر العربية! ومع ذلك تظل الحلول المثلى في يد الشعوب، لا في يد من يستغل تذمرها وثوراتها.
ثم إنني لا أريد أن يغيب عن الرأي العام المغربي كوني قدمت يد العون إلى رئيس الوزراء بعد مشاورات واتصالات مع أطراف، كي يلتحق أولا بحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية! هذا الذي سوف يتحول لاحقا إلى حزب العدالة والتنمية! وما أقدمت عليه، لم أكن أتوقع وراءه خيبة أمل الكثيرين في الرجل وفي حكومته ذات الصبغة الإسلامية! يعني بصريح العبارة أنني لم أكن أنتظر تحول بنكيران ورفاقه إلى ما يصح وصفه فعلا بإسلاماويين! تسير بسفينتهم أمواج الفكر العلماني التي لا تكف ولن تكف بسهولة عن الزمجرة والخرير والهدير المرافقين للسخرية من كل ما ليس بعلماني قح!!!