هواجس مغربي مهاجر
هوية بريس – د.عبد الله الشارف
مرت السنوات الأولى، كنت خلالها أفكر في جمع المال، وإقامة مشروع تجاري في وطني بعد الرجوع النهائي. كما كنت أجتهد في اكتساب أوصاف وسمات الإنسان الأوربي المتحضر، وفي تعلم لغته، وتقليده في الملبس وأسلوب الحياة، وفي التفكير في متاع الدنيا وملذاتها. لكن تحقيق هذه الأحلام وغيرها، لا يتم إلا بتوفير بعض الشروط الضرورية لمتابعة الحياة في اطمئنان وسعادة، منها إيجاد الأسرة.
تزوجت، إنه حدث عظيم، حيث شعرت بالدفء النفسي وألفة الحياة الزوجية، ثم ازدادت الأحلام والآمال وتنوعت. مرت سنوات أخرى أنجبت خلالها زوجتي أولادا، فكبرت الأسرة، وكبرت معها الأحلام.
ثم بدأ الأولاد يتلفظون بالكلمات الفرنسية ….، ويتمتمون أحيانا بكلمات عربية تلتقطها آذانهم من فمي أو فم زوجتي.
لقد شعرت بنشوة تغمر كياني وهم يستعملون الكلمات الفرنسية الأولى ، التي تعلموها من أبناء الجيران …. لكنني همست إلى نفسي قائلا:
أخشى أن يقتصر لسانهم على اللغة الفرنسية ولا يتكلمون العربية ؟ !! لا لن يحدث هذا أبدا، وسأرجع إلى بلادي قبل أن يبلغوا سن السابعة. بيد أنني سأعمل وأكدح كي أوفر المال لبناء منزل في أرضي الحبيبة، مسقط رأسي.
وما هي إلا سنوات معدودة، حتى كان البيت جاهزا وبدأت آوي إليه في عطلة الصيف، حيث ألتقي بالأقارب والأحباب.
إن التفكير في الرجوع النهائي، غدا شغلي الشاغل، لاسيما أن الأبناء يكبرون، وعجلة الزمن تدور بسرعة، بيد أن المال الذي أوفره لإقامة المشروع التجاري في البلاد ينمو ببطء، بل سرعان ما تلتهمه الحاجات المتجددة أو الطارئة، لتنطلق عملية التوفير من جديد.
وإذا ما حالفني حظ، وتوفر لدي نصيب من المال، بعد أن سلم من مخالب الحاجات، احتقرته، واستهنت به، وقلت: هذا لا يكفي لإقامة مشروع تجاري مناسب في بلادي. ومرت بضع سنوات، والحرب سجال بين جيش التوفير، وجيش الحاجات المتجددة، إلى أن وضعت أوزارها، بقدوم طرف ثالث إلى حلبة الصراع، إنهم الأبناء، وما أدراك ما الأبناء!!!
لقد ولج هؤلاء الأولاد سن المراهقة، وبدأوا يتحررون من سلطة الآباء، كما شعروا بأن كيانهم متجذر في التربة التي ولدوا ونشأوا فيها، وقد تغذت نفوسهم بثقافة وعادات ومدنية الأوربيين، فرفضوا كل ما أفكر فيه مما يتعلق بالعودة، وخاطبوني بصريح العبارة: إن شئت فارجع إلى وطنك أما نحن فلن نغادر وطننا!!
كلام غاية في المنطق والصواب، لكنه أشد ألما في قلبي من طعنة الخنجر. هناك شعرت بآمالي وأحلامي تتهاوى، كما تفعل القصور الرملية التي يصنعها الأطفال على الشاطئ عندما تدنو منها مياه البحر فتحولها من خيال إلى عدم.
نعم، لقد أعدم خيالي لأنه كان خيالا، كما كان خطاب الأبناء أو موقفهم من “حلم العودة” بالنسبة لي، بداية العد العكسي وبداية النهاية.
نعم، تبين لي أنني كنت أعمل في غير معمل، أو كنت أضرب في حديد بارد، وأن سنوات التعب والكدح ذهبت نتائجها وثمراتها أدراج الرياح، وقديما قال الشاعر:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ضاقت بي الأرض بما رحبت، بعد أن حصل ما لم يكن يخطر ببالي، ولا هجس في ضميري، إنهم أبنائي الذين كنت أتعب من أجلهم، وأكد وأشقى لكي يسعدوا في مستقبلهم!
إن السنوات التي كنت خلالها أبذل مجهودات كبيرة في تنشئتهم، ورعايتهم، وأفكر في حياتهم ومستقبلهم بعد العودة إلى الوطن الحبيب، هي السنوات نفسها التي، على حين غفلة مني صاغت شخصيتهم، وغذتها بعناصر ومكونات الثقافة الأوربية، وأرضعتهم لبن التربية العلمانية، وبذرت في قلوبهم بذور المحبة للوطن الذي نشؤوا فيه، وترعرعوا في أحضانه. فكيف يغادرونه إلى أرض لم ينشأوا فيها ولم يألفوها، ولا يتكلمون لغتها إلا كلمات متقطعة، أو جملا مزركشة، ولا يستسيغون عاداتها وتقاليدها، بل يستغربون من أسلوب حياة أهلها، ونمط عيشهم. هيهات هيهات، هل تريد بعد هذا أن تقنعهم بأفضلية وطنك الحبيب، وجمال طبيعته، وكرم أهله،.. الخ. كلا وألف كلا، إلا أن يشاء الله؟