وهم الجغرافيا في تحديد الهوية المغربية

وهم الجغرافيا في تحديد الهوية المغربية
هوية بريس – عبد الإله الرضواني
تُعدّ مسألة الهوية من أكثر القضايا تعقيدًا في حقل الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية، إذ تتقاطع فيها الأبعاد الفردية والجماعية، وتنصهر فيها المحددات الثقافية والتاريخية والسياسية ضمن سيرورة ديناميكية لا تنفصل فيها الذات عن المجتمع ولا الثابت عن المتحوّل. في هذا الإطار، برزت في السياق المغربي أطروحات تُعيد تعريف الهوية المغربية على أساس جغرافي صرف، معتبرة أن مجرد العيش فوق أرض المغرب يُكسب الفرد انتماءً أمازيغيًا، وكأن الجغرافيا تمتلك سلطة إنتاج الهوية الثقافية والعرقية بمعزل عن التاريخ والثقافة والتجربة الجمعية. غير أن هذا التصور – رغم جاذبيته الخطابية – يفتقر إلى الأسس النظرية والمنهجية التي تؤطر مفهوم الهوية في الحقول الأكاديمية الحديثة.
فالهوية، وفق ما بلوره منظّرون أمثال ستيوارت هول، لا تُختزل في معطى ثابت أو محدّد قبلي، بل تمثل سيرورة مستمرة من التشكّل وإعادة التشكّل عبر التفاعل بين الفرد وبناه الاجتماعية والثقافية. الهوية الفردية تُصاغ من خلال تمثل الذات لقيمها ومعتقداتها وتجاربها المعيشة، في حين أنّ الهوية الجماعية تتولد من منظومة معقدة من الرموز والممارسات واللغة والدين والأساطير والتاريخ والذاكرة المشتركة. ومن ثمّ، فإن ربط الهوية بالمكان دون هذه الأبعاد المعرفية والاجتماعية يتنافى مع الأسس التجريبية التي قامت عليها علوم الاجتماع والتاريخ والأنثروبولوجيا.
عند النظر إلى التاريخ المغربي، تتجلى بوضوح الطبيعة التفاعلية والمتعددة الطبقات للهوية المغربية. فقد كانت هذه الهوية نتاج قرون من الاحتكاك والتبادل الثقافي مع شعوب مختلفة: من العاتيريين والايبيروموريزيين والفينيقيين والرومان والبيزنطيين والوندال وصولًا إلى العرب والمسلمين، ثم القوى الأوروبية الحديثة. إن اختزال هذا التاريخ الطويل من التفاعل والتثاقف في معطى جغرافي فقط يُغفل الأبعاد التاريخية التي شكّلت بنية الوعي الجمعي المغربي، ويحول الهوية إلى بنية مغلقة كأنها قائمة خارج الزمن.
ومن منظور تاريخي وأنثروبولوجي، لا يمكن تجاهل الدور الجوهري الذي لعبته اللغة العربية والدين الإسلامي في إعادة تشكيل النسق الثقافي والاجتماعي داخل المجتمعات الأمازيغية. فاللغة العربية لم تكن مجرد أداة للتواصل، بل وسيلة لإنتاج المعرفة وتداولها، ووسيطًا للهوية الدينية والحضارية. أما الإسلام، فأسس منظومة قيمية وروحية مشتركة أعادت صياغة العلاقات الاجتماعية وأنتجت هوية مركّبة تتقاطع فيها الأمازيغية بالعربية ضمن فضاء ثقافي واحد. وإذا كان الاستعمار الفرنسي، رغم قِصر مدته الزمنية، قد ترك بصمات واضحة على بعض مظاهر الحياة المغربية، فإن تأثير ما يزيد عن ألف سنة من التفاعل العربي-الإسلامي-الامازيغي على صقل الهوية المغربية لا يمكن إنكاره أو تجاوزه.
إن القول بأن الأرض تُنتج الهوية قول يفتقر إلى الأساس العلمي والمنهجي، إذ أن اكتساب الهوية لا يتحقق بالوجود الجغرافي فقط، بل من خلال الانخراط في منظومة ثقافية ومعرفية تشكلت عبر تراكم تاريخي طويل. ويمكن تقريب هذا المفهوم عبر تساؤل تجريبي مزدوج: لو استُبدل سكان المغرب الحاليون بآخرين من خلفيات ثقافية مختلفة، فهل سيكتسب القادمون الجدد الهوية الأمازيغية لمجرد إقامتهم على الأرض نفسها؟ وبالمثل، لو نقلنا الشعب الأمازيغي بكل مكوناته إلى الصين، فهل سيصبح هذا الشعب ذا هوية صينية لأن الأرض صينية؟ إن التجربة الأنثروبولوجية والتاريخية توضح العكس تمامًا: فحتى في حال الانتقال إلى بيئة بعيدة جغرافيًا وثقافيًا، يحتفظ الأفراد والجماعات بذاكرتهم الجمعية، بلغتهم، ونظامهم الرمزي، وعلاقاتهم الاجتماعية التي تمنحهم استمرارية شعورية وهوية خاصة تُمكّنهم من إعادة بناء فضائهم الثقافي في المكان الجديد. لذلك، فإن الهوية تنتقل مع الإنسان لأنها ناتجة عن تاريخه وثقافته، لا عن تربة المكان الذي يعيش عليه.
ومع رفض التصور الذي يجعل الجغرافيا مُنشِئًا للهوية المغربية أو محددًا حاسمًا لمضمونها، يجدر التأكيد على أن الجغرافيا حاضن لهذه الهوية. فالمكان – بجباله وسهوله وواحاته ومدنه – يحتضن الذاكرة الجمعية ويمنح للوعي الجماعي سياقه المادي والرمزي، دون أن يكون هو العنصر المنتج للهوية بذاته. إن الجغرافيا توفر الإطار الذي تتشكل فيه التجربة التاريخية المشتركة، لكنها لا تمثل مضمون الهوية ولا تحددها بشكل مستقل عن المكونات الثقافية والتاريخية والدينية والاجتماعية التي تُعد العناصر الجوهرية في بناء الهوية المغربية. إن المزج بين المكان والذاكرة والتاريخ يجعل الجغرافيا فضاءً يحتضن الهوية ويمنحها بعدًا استمراريًا، لا محددًا أصليًا. فالرؤية المتوازنة للهوية تقتضي اعتبار الجغرافيا عنصرًا مكملًا ضمن النسق الكلي وليس بديلاً عن المحددات العميقة للانتماء الوطني.
إن اختزال الهوية في بعد جغرافي لا يسلبها تعقيدها فحسب، بل يفتح الباب أمام تأويلات أيديولوجية تُقصي التعدد الثقافي وتُضعف إمكانيات التعايش. فالهوية الحقيقية، سواء الفردية أو الجماعية، هي مشروع مستمر من التفاعل وإعادة التكوين، وليست معطى يتحقق بالولادة أو الإقامة الجغرافية. ومن ثم، فإن الأطروحات التي تزعم أنّ “الأرض تُعطي الهوية” تتناقض مع المنهجية العلمية التي تُبرز الطابع التاريخي والثقافي والاجتماعي في تشكّل الهويات.
ختامًا، إنّ الهوية المغربية – بما فيها مكونها الأمازيغي – ليست وحدة صمّاء، بل نسيج متشابك من اللغات والثقافات والدلالات الرمزية التي تبلورت عبر سيرورة حضارية ممتدة لقرون. أي محاولة لتقليص هذا التنوع الغني إلى محدد جغرافي وحيد تُعدّ ممارسة اختزالية تُخِلّ بالفهم العلمي والأنثروبولوجي للهوية. إن الوعي بهذا التركيب التاريخي والثقافي يعدّ شرطًا أساسيًا لتعزيز مقاربة نقدية أكثر عمقًا للهوية المغربية، قوامها الاعتراف بالتعدد والتفاعل بدل المصادرة والتبسيط



