أي لقاح فعال ضد فيروس التفاهة؟

29 مايو 2020 11:15

هوية بريس – إكيضيض عبدالغني

لم يعد طرح هذا السؤال صعبا عسيرا، ولم يعد الجواب عنه سهلا يسيرا، ولم يعد سؤال التفاهة يقدم كاستفهام إنكاري، أو استفسار تعجبي، فالزمن الذي كنا نستفهم فيه لغرض الفهم قد مر مرور الكرام، أما الحاضر، فنحن في زمن لم نعد نملك فيه إلا أن نستغرب بمنطق الدهشة ونستعجب بصيغة الإنكار من التفاهة المستجدة التي اقتحمت عقولنا، وغزت تفكيرنا، وحولت أنماط عيشنا إلى روتينات  مضطردة تؤشر على فقداننا لمناعة فكرية اكتسبناها عبر تاريخنا الثقافي المجيد، حيث استبدلت أولوياتنا الفكرية وحاجاتنا العلمية بثانويات ترسخ في بواطننا المزيد من الضعف الثقافي والخداع الاجتماعي، وهو ما يشهد عليه واقعنا في ظل هذه الأزمة، استهتار بالمخاطر الصحية، ميوعة في السفاهة والتهور والعصيان، واستهانة بما سيستجد من أزمات اقتصادية، وكلها سلوكات تنم عن سذاجة بينة في التفاعل مع الحقائق العلمية التي لم تعتد عليها أذهاننا بسبب التخاريف والأساطير .

تكمن صعوبة طرح السؤال في كيفية الجواب عنه، أما مظاهر التفاهة فما أكثرها في مجتمعنا السقيم، وما أقل المحتويات التي تحسس بخطورتها، متلازمة منطقية تعبر بالمظهر فقط عن تضارب مستحدث بين القيم التي نتظاهر بالدفاع عنها في الخطاب الرسمي، وبين ما يخالفها من مظاهر مميعة في حياتنا بشقيها الرقمي والواقعي، أما كيفية الجواب عن السؤال فرهينة بالبدائل الممكنة التي يمكن أن تلغي مفهوم التفاهة في السؤال، فهل يكفي أن نعتبر الوعي بجرة قلم بديلا مناعيا لفيروس التفاهة؟

إن الفيروس كما علمنا أسيادنا الأطباء يضطلع بطبيعته بمهمة مركزية، ينجزها ضمن سيرورة تتأرجح مراحلها بين التسلل والاقتحام في البداية، والتكاثر والتدمير في النهاية، فالفيروس يبدأ مهمته بالبحث عن وسيط  يمكنه من العبور من عالم خارجي مكون من الأسطح والأجسام إلى كون داخلي زاخر بالأنسجة والخلايا، وهي رحلة قصيرة يضمن بها الفيروس استمراره على قيد الحياة وإنجاز مهمته بنجاح، إنها إذن مهمة يختار فيها الفيروس بين أن يكون إمبراطورا داخل جسد الإنسان، يتحكم في الخلايا ويحولها إلى جنود تخدم مخططه، أو يموت ويعبر كما عبرت قبله ملايين الفيروسات، فإما أن يتجاوز المواد الكحولية ويقتحم الخلية ويدمرها ويتكاثر حتى يعفن الجهاز التنفسي السفلي، وإما أن يصطدم بجسم مضاد يخرم تاجه ويدمر جينومه ويرمي به في خانة العدم .

إن هذه السيرورة يقابلها مجازا مسار مماثل يقطعه فيروس التفاهة، هذا الفيروس القاتل، الفتاك، المدمر للخلايا الفكرية والأنسجة الثقافية، هذا الفيروس الذي يخلخل المعتقدات الروحية ويضع حدا منيعا أمام كل مثابرة واجتهاد، وظيفته تقليص حيز الإبداع وتوسيع دائرة الغباء، يستأصل المادة الرمادية ويستبدلها بهرمونات الحمق والفساد، يستنسخ نفسه كلما تعددت القنوات الناقلة ويعادي المثقفين والمفكرين والمبدعين والعلماء، فيروس يخضع للتطور الطفري ويصبح أكثر شراسة كلما غيب المدرس وحقر المثقف وأهين المفكر وأرغمت الأدمغة على الهجرة والاغتراب .

إن الغباء في هذا السياق ليس قدرا محتوما، ولا قضاء مفروضا، بل هو التهاب بلا ألم، يسببه فيروس التفاهة المصطنع في وسائل إعلامية شبيهة بالمختبرات، تتداخل في بنيته مكونات تتفاوت بين المغذية والمسرطنة، بين الممتعة والمقززة، يقدم هذا الفيروس في أطباق إعلامية متعددة من حيث اللون والخط والجسد والألحان، يحكمه منطق الإثارة ويقيده مبدأ الاجتذاب، يستمتع باجتياح المحتوى التافه، ويتقهقر كلما برز المنتوج الرقمي الهادف، صراع تقني مستمر يتفاوت قطباه ( المحتوى الهادف ° المحتوى التافه ) بين التراجع والاندفاع، بين التكاثر والانحسار.

لكن ماذا عن الصراع الفكري؟

هذا السؤال يقودنا إلى الإجابة عن سؤال الوعي كمناعة ممكنة لهذا الفيروس، والوعي في هذا النطاق ليس سوى مزيج بين معرفة بخطورة التفاهة ( عينة من بنية الفيروس) وبين فكر متوهج يطفئ ظلام التفاهة وينير نمط الحياة، ولكن هذا الوعي ليس كما معرفيا جاهزا يتطلب تكوينا محددا، بل يقتضي فعلا تربويا طويل المدى، ويستوجب بالضرورة أنشطة توعوية مكثفة، ويفرض على صناعه ( مدرسون، إعلاميون، مربون ) جهدا لا يقاس بالكم، بل بالكيف الدقيق، ونتائجه لا تقيم بالمنهج الاقتصادي ( مدا خيل – مصاريف) بل بإستراتيجية تربوية الهدف منها تجاوز الأزمات بالاعتماد على السلوك المواطن للشعب، الأمر الذي نفتقده اليوم في هذه الأزمة .

إن الحملات التوعوية التي نشهدها اليوم في مختلف الوسائط، الرسمية منها أو الحرة، والتي تهدف بدرجة أولى إلى تهييء أفراد المجتمع للخروج من الحجر الصحي بسلوك ثقافي جديد، لن تنجح بالقدر الذي نحتاجه اليوم، بكل بساطة، لأن بناء الإنسان كان مغيبا في مختلف الخطط التي نهجتها المؤسسات في بلادنا، حيث استبدل هذا البناء بهجمات متكررة على المدرسة والمؤسسات التربوية، فقد هدمت القيم، وشيئت المبادئ، وغزت بكتيريا الجهل شراييننا الثقافية، وانتشرت أوبئة التفاهة والسفاهة والحمق والانحلال .

إن بناء الوعي بناء للإنسان، وأي فصل بين البنائين وصل لفيروس التفاهة المسبب للتعاسة، هذه العلاقة الصارمة تقودنا إلى النظر في السلوكات الرقمية التي طورت هذا الفيروس وجعلته ينتشر كما ينتشر فيروس كورونا المستجد، بدءا بنموذج القدوة الرقمية، هذا المفهوم الذي يشكل مكونا من مكونات البؤر التي غزت عالمنا الرقمي، والقدوة هنا لا تحتمل الجانب الحسن في التأثر، بل ترتبط بنماذج سطحية محدودة من حيث الثقافة والفكر، حيث إن المحدودية في هذا المقام لا تتجاوز حلقة مغلقة تتأرجح حدودها بين أصوات شبيهة بالغناء وارتكاسات  قريبة من التشخيص، بعبارة أخرى، إن الشخصيات التي تأثر بها عدد كبير من الشباب تدخل ضمن تركيبة الفيروس المعقدة، لأن الوسائط التي تستضيفها وتقدمها ضمن قالب فني خادع تشكل بدورها جزءا مركزيا من تركيبة الفيروس، فما أكثر القنوات التي تسهم في التراخي الفكري لدى العامة ! وما أبشع المضامين التي تسوقها بكل تطاول واستخفاف !، فالوسائط إذن، الرقمية أو الورقية، الرسمية أو الحرة، تتحمل مسؤولية كبرى في استنساخ فيروس التفاهة وتطور نسبة فتكه للوعي الفكري .

إن الوسائط المعنية لا تقدم هذه النماذج حرفيا، بل تضفي عليها قدسية مفتعلة، وتؤطرها ضمن خانات محددة لا تتجاوز مفهوم الفن، ( الفنان مول الطعريجة، الفنانة الطراكس، )  حيث يشكل هذا التصنيفي المبدئي والضروري مدخلا مركزيا لتبرير تفاهة المنتوج (النموذج) المقدم، ثم يأتي بعد هذا التصنيف مرحلة أخرى تتصف باستقلالية هذه النماذج لتصبح قادرة على توجيه الشباب صوب وجهات محددة استنادا إلى التدوينات واللايفات، حيث يصبح الفيروس أكثر فتكا، لأنه يصبح مقرونا بعدد المتابعين والمشاركين، ويصبح الهدف المستجد بالنسبة لهذه النماذج هو الحصول على أكثر عدد ممكن من اللايكات، فكلما ارتفعت هذه القيم ضمن برصة اللاأخلاق كلما ازدادت قيمة النموذج ومكانته، ثم تأتي المرحلة الثالثة، وهي مرحلة يصبح فيها النموذج قادرا على الولوج للإعلام الرسمي، وذلك استنادا إلى ما اكتسبه من لايكات اشتراكات، ليصبح هذا النموذج هو القدوة المستجدة والبديلة لكل القدوات السابقة، القدوة التي لا ترغم الأطفال على الانضباط والالتزام، كما لا تجبر المراهقين على الاحترام والاتزان، إنها القدوة التي تختصر طريق الشهرة، وتوفر سبل كسب الأموال سريعا، إنها القدوة التي لا تخضع لمنطق الجهد والمعاناة، بل ترتكز على اللهاث وراء المشاهدات، إنها إذن البديل المباشر الذي قدمه وباء التفاهة .

وفي السياق ذاته، لم تعد الشهرة تتطلب بالضرورة المرور عبر مختلف هذه المراحل، ولم يعد كسب المال يستدعي حيزا زمنيا كبيرا بين البداية والنهاية، لأن بضاعة الجسد أصبحت متاحة لكل المشترين، فروتيني اليومي، والمقالب اليومية، وغيرها من التحققات المصورة،أصبحت فنون من لا فن له، واستثمارات تقلص مسافات (النجاح)، وتحول التافه إلى نموذج أيقوني، يردده الكبير والصغير، ويهتف به العاقل والمجنون، وكلها بضائع قدمت وفق منطق تلخصه جملة ماكرة : ( الشعب بغا هادشي ) .

إن التربية مفتاح تقدم الشعوب، ومن لا تربية له لا وعي له، عبارات سنرددها دون كلل كما نردد إجراءات الوقاية من فيروس كورونا، بكل بساطة، لأن الفيروسان يشتركان في الوظائف والبنيات، فكلاهما لا يشعر بهما الشخص حتى يجد نفسه يعاني من أعراضهما، إن القاعدة الطبية تقول باحتمالين ممكنين للقضاء على الفيروس، إما مناعة القطيع، وإما اللقاح الفعال، لقد تفشى فيروس التفاهة وأصاب الكثير منا، أطفالا وشبابا، رجالا ونساء، لكننا لم نكتسب أية مناعة جراء هذا التفشي، فهل سنطور لقاح الوعي لصد هجمات التفاهة في مستقبل السنوات؟

حمي راسك وغيرك

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M