أَنِينُ الْحَنِينِ!! (ج4)

10 فبراير 2017 16:59
أَنِينُ الْحَنِينِ!! (ج5)

هوية بريس – زينب أحمد العيايطي

تابعتْ:

أنا التي يَزيدُني الوقوفُ على مآسي الأمَّة همّاً وغمّاً وعجزاً وهواناً.. ففي الزّمن الذي تَتَطَايَرُ فيه الكلمات كما تَتَطَايَرُ شظايا أطفالٍ يَحْفِرُونَ بين التراب عن فتاتٍ من خُبزٍ أو طعامٍ.. تبدو الحقائق ناطقةً صريحةً لا تحتاجُ إلى نعتٍ بالسّبّابةِ أو إشادةٍ بالإبهام.. في سُجون، حيث يَصنعُ الموتُ لنفسه بُرْجاً عالياً حتى يكون هو وحده الأمل المنشود.. تَغْدُو صُوَرُ المآسي مُتَحَدِّثَةً بصوتٍ مُرتفعٍ من غير حاجةٍ إلى شرحٍ للمَعلوم.. مرأى الموت وهو يلتحف بألوان العذاب، يقول هل من مزيد، به أصبحت أوطاننا، ترسم تاريخها الباهت المريض.. وفنونُ القتلِ والظلمِ والتَّنكيلِ والتعذيب التي لا تختارُ غيرنا، هي مُقْتصَّةٌ منّا -في كل حين- بأفعال العربيد..

الأعداء زاحفة على الأجساد كما الأرواح.. بدبابات من حديد وصواريخ تقذف باللهيب وقوانين ومؤسسات وأنظمة تنتشل من بين الاثنين من تشم فيه رائحة الإسلام الذي يخشاه العدو البعيد القريب..

أوجاع أُمّة الإسلام اليوم، لوحاتٌ وتشكيليات ترسمها أيادي المسوخ ثم تنثر ألوانها -ممزوجة بوحشيتها المقرفة- على أرضنا وربوعنا التي لا تستكين..

يا سيدي.. نحن أُمَّة يحترق في جهة منها الأطفال والشيوخ والنساء والرجال.. وفي الجهة الأخرى يخبرنا العدو أن المسألة هي فقط بعضٌ من سِجالٍ ضد مصطلح يركض بين الأناسي ليصنع حول أعناقنا الحبال.. فتجدنا بعدها.. نرقص.. نغني.. نطرب.. نستمر في الحياة بعد أن نغض الطرف عن تلكم الآلام.. معتبرين أنّها مجرَّدُ حرب وتصفية حسابات بين أطراف لا تعنينا في شيء.. فالجغرافيا رسمت حدودا حتى لمشاعرنا وحس الانتماء..

ودور الثور الأبيض؟

أجل.. دوره حان وانتهى.. لذلك على بقية الثيران الاتعاظ وانتظار دورها في طوابير، يَغْمُرُهَا -لِعَدُوِّهَا- شعور بالامتنان.. هذا قول رجل كنا نحسبه فينا قد رُزِق حسن الفهم والبيان.. و قد يزيدنا أحيانا -من عطف فهمه الكريم ذاك- تحذيرات بصوته المرتفع الخائف الوجل المنفصم في تركيبته: يا عباد الله لا تثوروا على الدماء فتزيدوا في الدماء.. يجب حقن الدماء!!

أوليس الرجل فينا بالإنسانية جمعاء يا قبيح الإلقاء؟!

أم تُراك اعتدتَ حسنات الأضواء حتى لو كانت على حساب من يُنْشَرون ليُحفَظ بين الناس دينهم الذي تضيعه بهذا الخوار في الإفتاء..

سحقا لعقولكم التي تصنع من دمائنا طريقها لنيل الرضا.. سحقا لقلوبكم التي ذاقت الترف حتى ما عادت عنه تستطيع الفراق..

في هذا الزمن الذي يختلط فيه الجنون بالمجون في عقول الطُّغاة.. ويظُنَّ كل قائل أنَّه بلغ الريادة في علمه وعليه منه إخراج زكاة النصاب.. فيرغي بين القوم ويفتي من غير هيبة أو إياب.. يقول كلاما يبدو نصحا وهو في حقيقته خوض في الدماء.. ويدلي بدلوه مع الأغرار ليكون زادا للظالم وذخرا لاستماتته في تفتيت الأشلاء.. في غمرة هذه الحرب المسعرة بين الغاضب على الدماء والغاضب للدماء.. فيما -بربِّك- قد تنفع كلمة امرأة مغمورة خلف سطوة الظلم.. تخطو الخطى بحذر وهي تقول: لا بد لي في هذا الحذر من حذر؟!

ولم عليّ أصلا أن أقتحم هذا السجال؟!

بالنهاية كل شيء واضح.. القرآن محفوظ.. ولبقية الوحي رجال ينفون عنه التأويل المغلوط.. الهدى طريقه مُعَبَّدٌ للراغب في الوصول.. والضلال معروف ما حوله من مهالك للراغب عن الانجراف في تلكم الوحول..

لذلك.. فإنه في مقام الاحتكام إلى المصلحة ومراعاتها.. أليس من الأجدر بي التعلق بـ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108)﴾.. وقراءتها قراءة حداثية تحريفية لكل مدلولاتها الظاهرة.. لمنح مخاوفي نصا تشريعيا لما تميل إليه من الرغبة في الانزواء.. واعتبار أنّ ما يعني الأشخاص لأنفسهم ليس عليّ جعل رقبتي قربانا لفوزهم به.. إنّما هو خلاصهم من النار وفوزهم بالجنة.. فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر وليس لأحد وكالة على أحد في مد طوق النجاة..؟

بهذه الأنانية أستطيع تفصيل دين خاص بي.. دين يُرضي كل السلاطين عن طأطأتي.. دين أدين الله به في بيتي وغرفتي ومع ربِّي.. أما بيني وبين الناس نحتكم لقانون المؤسسات الذي ندفع من جيوبنا لإقامته.. ومن جيوبنا للاحتكام إليه.. ومن جيوبنا للإعدام تحت سطوته!!

هيا.. لأكن أنا ومن بعدي الطوفان.. فالإسلام واضح.. ماذا سأزيدهم أنا على كل هذه الواضحات؟

ثم إنّ كل من حولي.. ممن يغدقون علي بحبهم حتى استحيت أن أكون طائشة في المغامرة بمفارقتهم.. يقولون لي: ليس على المرأة جهاد.. وهذا مناط للرجال فالزمي الهدوء وقفي خلف الصفوف واقنعي في مد العون لهم بالإلحاح في الدعاء..

بهذا الخوف تحيطني القلوب المشفقة على ما بي من عدم القدرة على الصمت ولزوم التخاذل الملعون.. فأجدني هائمة بثقلي من الهم، أهذي هذيان صوفي عرف فما لزم ما عرف: ماذا عساي أفعل؟ ماذا عساي أقول؟

قاطعني سيدي الفقيه بترتيله البديع: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

– والله يا سيدي.. يكاد الجميع يتبرأ من هذا الفضل والنعيم.. فهم تائهون في مشارب متفرقات.. ويسألون: من يدلنا على السبيل؟!

ثم.. حتى إنْ أنا تقدَّمتُ الصفوف.. ورفعت صوتي قليلا فوق الخُفُوت.. وجهرتُ بما يردده المتهامسون بينهم في همهمات قريبة من السكوت.. قد أُحرِّك بعضا من قليل.. لكن سيبقى البقية بين متربص بي ومعدٍّ لألوان التنكيل.. أَلَمْ يُجْلَد فِينَا الشيخ والفقيه والأستاذ والمربي ونحن نجيب على كل ذلك.. بكل ما تستطيع مدَّنا به غثائيتنا من برود: لقد أخطأ في هذا.. وتجاوز في هذا.. وما كان عليه فعل هذا.. فنمسح عن الظالم كل ما يمكن أن يفجع ليله بإنكارنا لتجبُّره الممقوت..

شعبنا القوي الشديد في الفهم والثبات على المحن.. أضحى اليوم شبيها بالشعوب الغربية الخائفة الوجلة المشبعة بحب الجاه والمال ولو كان على حساب العرض والعيال.. فما عاد فيهم صبر على من يقول: إنَّ في هذا الدين وحده المفازة من هذا الشقاق.. إسلامنا الضامن لقومتنا من هذه الغفوة التي تأبى عنا كل فراق.. الرشاد والاتباع سبيل خلاصنا من هذه المعضلات العظام..

أجل.. أجل سيُنصِتون في البداية.. ويأنسون.. ويطربون.. ثم إن أنا اقتربت بهم من دواعي العض بالنواجد.. والقبض على الجمرة كأنَّها ذات ملمس ناعم.. والإفهام بأنّ مقتضى ترفنا القديم أن نستعد لدفع الباطل بالصدور العارية لماشطاته التي من حديد.. آنذاك.. سينفض الجمع.. ويقولون.. ما يقولون في كل مرة: يا سيدتي.. نحن ننشد السلام الآمن..

وحول ماذا أُدندنُ أنا أيتها الفهوم المثقلة بالخمول.. حول ماذا أُدندنُ؟!

قاطعني صوت سيدي الفقيه: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾.

كنتُ سأَهُمُّ بالاسترسال في التِّلاوة لما بعدها، ظَنّاً مِنّي أنّه يُرِيدُ أنْ يَقْطَعَ عليَّ هذا البوح بالبلسم الذي ينزل على الأفئدة بِبَرَدِ التَّطْمِينِ.. لكنَّهُ أَعَادَ نَفْسَ الآيات..

فتوقفتُ على أسئلة: عمّ غفلت في هذه الآي؟.. هل كان فيها الجواب فتركتها وركنت إلى الاسترسال بشرح ما يعتريني من أحوال؟

يا إلهي.. ما هو السياق الذي كان علي أن أقف عليه عِوَض هذا التجوال؟

للحديث بقية إن شاء الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أَنِينُ الْحَنِينِ!! (ج3)

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M