التكريم الإلهي للإنسان.. من الخَلْق إلى الإسلام

16 أكتوبر 2020 11:12
البحث الأركيولوجي يثبت وجود أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

 هوية بريس –  حسن فاضلي أبو الفضل

عجيب أمر هذا الإنسان الذي لا يأنس إلا بمثله، والذي عُهِد إليه فنسي!  عجيب أمره بالنظر إلى صغرِه وضعفِه، وبالنظر إلى خِلقته ومكانته وأمانته التي حُملها؛ فهو سيِّد المخلوقات وإمامُهم في مسجد الكون، وهو المكرَّم والمفضَّل والمشرَّف عليهم  في مراحلَ ثلاث:

الأولى: التكريم بالخلق والإيجاد.

والثانية: التكريمُ بتسخير الكون له و الإمامة فيه.

والثالثة: التكريم بالفطرة والإسلام.

الإنسان في أصله اللُّغوي من “الإنس، خلاف الجن، والإنس خلاف النفور، والإنسي منسوب إلى الإنس، يقال ذلك لمن كثر أنسُه، ولكل ما يؤنس به… والإنسان قيل سمي بذلك؛ لأنه خُلق خلقة لا قوام له إلا بأنس بعضهم ببعض، لهذا قيل الإنسان مدني بالطبع…وقيل هو إِفْعِلان، وأصله إِنْسيان، سمي بذلك؛ لأنه عُهِد إليه فنسي”(1).

ومع كونه لا يقوم إلا بمثل جنسه وأُمر فنسي، إلا أن التكريم حاصل له؛ قال عز وجل﴿ قَالَ أَرَايْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ اَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ الإسراء: 62؛ وذلك لما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لهذا المخلوق، رفض إبليس – لعنة الله عليه – هذا التكريم، فكان قوله كما في الآية قبل.

وفي سياق صريح لهذا التفضيل، قال تبارك وتعالى﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ الإسراء: 70، تفضيلا له – أي الإنسان – بتسخير المراكب والمستلذات من اللحوم والحبوب والفواكه وغيرها.

1- التكريم بالخلق والإيجاد:

 ومعناه أن إخراج الإنسان من العدم إلى الوجود فيه تشريف وتكريم، من حيث كونه سيتولى مهمةَ الاستخلاف في الأرض مع التكليف بالتوحيد والإيمان، حتى إذا اجتاز ذلك ووفِّق في عبور الصراط؛ حصل على ثمرة التكريم والتشريف والتكليف والاستخلاف، وهي ثمرة مقصود أن يصل إليها من تكليفه هذا، ولذلك قال عز وجل في بيان علة الخلق ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْاَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمُ أَيُّكُمُ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ هود: 7

فأن يكونَ الابتلاء بالأمر إلى أحسن العمل هو عينَ التكريم والتشريف، ولا يقدر على ذلك إلا إذا كان في أحسن تقويم؛ “فعندئذ يصبِح الإنسان بمثل هذه العبادة وهذا التفكر إنسانا حقّا؛ فيصير بيُمن الإيمان وبركته لائقا للأمانة الكبرى وخليفة أمينا على الأرض”(2).

فإذا كان إخراج هذا الإنسان من العدم إلى الوجود تكريما وفضلا، فكذلك إرجاعُه ثانيا من الوجود إلى العدم فضل ونعمة، بعد أدائه للأمانة المنوطة به بنجاح، ومن ثَم يكون الموت بهذا المعنى – لمن أدركه – فضلا ونعمة، وأن المجيء إلى هذه الدنيا كان لأداء مهمة عظيمة، وأداء خدمة جليلة تأبّت عليها السماوات والأرض والجبال، وأن فراقها يعني ولادة ثانية في حياة أبدية لا تزول ولا تنتهي.

لذا؛ كان الإحساس بهذا الفضل وعيشُ هذا التكريم يدفعه إلى العدم دفعا أو يشوِّقه إلى أصله “العدم”؛ لأنه متحقق من ثمرة التكليف وغاية الاستخلاف – بعد النجاح فيها – وهي الجنة؛ حيث الحياة الأبدية.

إن الإنسان بمراحله هاته وبأطواره تلك “ليس مخلوقا عاديا وحسب، ولا هو حتى مخلوق أرضي وحسب، بل هو أبعد من ذلك وأعظم، إنه مخلوق كوني؛ أي إن الماهيةَ الوجوديةَ للإنسان هي ماهية كونية كبرى، بمعنى أن فهم هذا الكائن لا يمكن تناوله ولا استيعابُه بحصره في مركز إقامته الأرض، وإنما الواجب ربط وجوده بوجود الكون كله؛ ذلك أن أول باب من أبواب الدخول إلى الماهية الإنسانية هو باب العلَّة الخلقية أو الوجودية”(3).

والعلة هذه قد نُصَّ عليها باللفظ والمعنى في قوله تبارك وتعالى ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ الذاريات: 56؛ فكانت الآية – بما فيها من حصر – دالة على مقصد خلق الإنسان، وهو تحقيق العبودية لله تعالى، ومن هنا كان خلق الإنسان وإيجاده وإخراجه من العدم، فيه معنى التكريم والتشريف؛ إذ الباقي – في أصله العدم – حُرِم من التكليف ومن الاستخلافية بمعناها التعبدي الإيماني، ومن ثَمَّ كان المخلوق الإنسي مناط الإيمان والعبادة، ولاشك أن ذلك هو التكريم والتشريف بلغة التكليف.

2- التكريم بتسخير الكون له والإمامة فيه:

ومفهوم ذلك؛ أن هذا الإنسان – على الجملة – هو سيِّد المخلوقات، والدال على الله عز وجل في كونه، وما استحق ذلك إلا بعد أن تحمل الأمانة الكبرى، فلما قال الله عز وجل ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ النحل:  44؛ دلَّ ذلك على أن هذا المخلوق مهيأ لاستقبال الخطاب القرآني وتبليغه، بما جعل الله فيه من خصائص، “فأن يكونَ الإنسان موضع خطاب رب العالمين هو – لعمري – أمر عظيم جدا، وتكريم كبير جدا لهذا المخلوق الضعيف، لا يملك العبد المحب إزاءه إلا أن يَخِرَّ ساجدا لله رب العالمين، على ما أنعم وأعطى من تأهيل وتشريف”(4).

وهذا القرآن الكريم هو الذي أهَّله لإمامة الكون، بحيث لا يتحقق معنى الإمامة هنا إلا إذا كان المأموم يتَّبع الإمام ويطيعه، وذلك الذي حصل مع الإنسان؛ إذ بقدرته التي جعلها الله فيه على استقبال القرآن والعلم به وتعليمه كان – وباستحقاقٍ – الإمام في ذلك المسجد الكبير الذي هو الكون، ومن خلفِه الكائناتُ مؤتَمةً به، عابدة الله تعالى طوعا أو كرها، منتظمة بعده؛ ليَدُلَّها على الله رب العالمين. ومع مأمومية هذا الكون فقد هُيِّئ ليعيش فيه الإنسان “ويموت، ثم يموت الكون كله بموته، ثم يعاد خلقه بإعادة خلقه؛ أي إن إعادة خلق الكون إنما هو من أجل إعادة خلق الإنسان مرة أخرى(5).

وكأن هذا الكونَ إنما خلق لخدمة الإنسان، ومن هنا نال ما نال من تكريم وتقدير، وبالرغم من صغره وضعفه فالكون كله بضخامته وشساعته وُجد خادما لوجوده، وينتهي بانتهائه، فـ”لا يَخطرنَّ على بال أحد، ويقول: ما أهمية هذا الإنسان الصغير؟! وما قيمتُه حتى تنتهي هذه الدنيا العظيمة، وتُفتح دنيا أخرى لمحاسبته على أعماله؟! لأن هذا الإنسان هو سيد الموجودات – رغم أنه صغير جدا؛ لما يملك من فطرة جامعة شاملة – فهو قائد الموجودات، والداعي إلى سلطان أُلوهية الله، والممثِل للعبودية الكلية الشاملة ومُظهرها”(6).

فتجدُ أن نظام الشمس والقمر إنما جُعِل علامات لأوقات عبادته، وأن الدواب والمركوبات إنما خلقت لحمله وتسريعه، وأن المأكولات والمشروبات إنما وُجدت لتقويته وإشباعه؛ أي: إن السماوات والأرض خُلقتا على صورة مهيأة لخدمة واستضافة هذا الساكن الفريد، حمَّالِ الأمانة التي عُرضت على السماوات والأرض والجبال ﴿ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ الأحزاب: 72

والإنسان بهذه الصفة – المتبوعية – لم يقتصر ولم يقتنع بصفة التابعية في المخلوقات الأخرى، بل “إن آماله تجاوزت الزمانَ والمكان والحياة؛ ساعية في تحقيق رغبة البقاء الكامنة في فطرته: فآماله تمتدُّ إلى الأبد، وأفكاره تحيط بالكون، ورغباته تنتشر في ثنايا أنواع السعادة الأبدية.. هذا الإنسان إنما خُلق للأبد وخلق الأبد له، وسيرحل إليه حتما، وما الدنيا إلا مستضافا مؤقتا له(7).

ومعنى ذلك أنه مغروز فيه قصدُ المتبوعية وحب البقاء والإمامة والاستزادة من طول العمر، وهو معنى قرره الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم (يكبر ابنُ آدمَ ويكبر معه اثنانِ: حبُّ المالِ، وطولُ العمرِ) (8).

 3- التكريم بالفطرة والهداية إلى الإسلام:

الفطرةُ: هي ذلك الإحساس الروحي الذي يولد مع الإنسان، يدفعه إلى توحيد الله تعالى والإقرار بضعفه أمام عظمة الخالق عز وجل، وهو أصل بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (كلُّ إنسانٍ تَلِدُه أمُّه على الفطرةِ، وأبواه – بعدُ – يهوِّدانِه، وينصِّرانِه، ويمجِّسانه، فإن كانا مسلمينِ فمسلمٌ؛ كلُّ إنسانٍ تَلِده أمُّه يَلْكُزه الشيطان في حضنيه، إلا مريم وابنَها)(9) ؛ فأمرُ الفطرة هنا هو منحة وهبة إلهية للناس جميعا، قبل أن تتدخل عوامل أخرى في ضبطها وتنميتها أو في تخريبها وإفسادها، بحسب ما جاء في الحديث، أو لنَقُل: إنها قسمة بالتساوي بين بني البشر، بما هي إحساس داخلي مرتبط بما ينبغي اعتقاده، ومن هنا كان التكريم بالأصل الشعوري/الإحساسي للإسلام، الذي هو الفطرة كما نص عليه في الحديث قبل، وكأن الأمر يتعلق بمبلغ من المال قدمه الأب لأبنائه الثلاثة: منهم من حافظ عليه ونَمَّاه، ومنهم من غفل عليه حتى سرق منه، ومنهم من صرفه في أشكال المعصية والسوء، فكانت نهايتهم مختلفة رغم مبالغهم المُتفقة. فالصورة العامة إذن أن الناس:

منهم من يحافظ على ذلك الميزان الفطري، فيُنصت بذلك إلى قلبه وروحه وبعد ذلك إلى عقله، فهؤلاء فهموا الإسلامَ وقدروا عظمته.

ومنهم من لم يدرك تلك العظمةَ، وأنه “هدية الله – تعالى – للإنسانية، وهذا ناتج إما عن حكم مسبق، أو عن سوء تمثيل المسلمين للإسلام، فلا يفهمون الرسالةَ التي قدمها ولا يدركونها، ولا يستطيعون فهم وعوده وبشاراته ولا الإحساس بها…

ينظرون إليه على الدوام، ولكنهم لا يفهمونه أبدا لوجود غشاوة على أبصارهم، حتى إن قربهم منه يصبح وسيلة وسببا للبعد عنه، ويصبح النظر إليه وسيلة لعدم الإبصار ولعدم الإحساس به، ولكن ما العمل؟

فهذه طبيعتهم، والشوك يبقى شوكا مؤذيا، وإن كان قرب زهرة جميلة عطرة”(10).

هذا لمن قمع تلك الفطرة وعاندها ورفض الخضوعَ والإنصات لها، كما أنه قد يقع  العناد والرفض للرسل عليهم السلام والكتب المنزلة عليهم؛ لأنها في حقيقة الأمر- أي الفطرة والرسل عليهم السلام والكتب السماوية – هي وسائل قوية دالّة على الله تعالى ومقتضية للإيمان به، ولا تملك في الثبات على الفطرة والهداية شيئا. ومن قوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ فصلت:17 يظهر أن الكسب – وهو يرتبط بعوامل ذاتية وخارجية وعقلية ونفسية- تدخل في تغيير الهداية الأصلية التي فطر عليها الإنسان،” فقد يكون أحد وهو في بيت النبوة إلا أنه لا يهتدي أو يكون معارضا له ، وربما في قصر فرعون يتربى مؤمن آل فرعون وآسيا؛ وذلك لأن في هذا النوع من الهداية إرادة الإنسان”(11).

ولما كان الثبات  على هذه الفطرة والاستمرار في طريق الإسلام يستند إلى الفطرة الأصلية وإلى القانون العقلي الدال على الله عز وجل، فالكفر لا يستند إلى أي شيء، وإنما هو اللامبالاة تجاه أسس الإيمان وعدم الاهتمام بها، أو هو الفوضى على مستوى التفكير والتقييم الخاطئ لقوانين الوجود، والارتجالية بين الماركسية واللنينية، أو بين الوجودية والاشتراكية، أو بين ذلك كله.

إن الله تعالى لما اقتضت حكمته أن يكون الإنسان (والجن) مأمورا بالتوحيد والعبادة، هيأ له المجال لذلك – وهو الكون – فكل ما فيه موجود لخدمته، وفي هذا تكريم وتفضيل. ثم حتى لا يعذر هذا الإنسان؛ خلقه الله تعالى مفطورا على الإيمان والتوحيد ليستقيم على هذه الفطرة ويسير بها وفيها إلى الله عز وجل، وكفى بذلك تكريما وتفضيلا وتشريفا وتحميلا للأمانة الكبرى…والله أعلم

_____________________________________

1- معجم مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، مادة (أ ن س)

2- رسائل النور(الكلمات)، بديع الزمان النورسي، ص:138

3- مفاتح النور في مفاهيم رسائل النور، فريد الأنصاري، ص:101

4- مفاتح النور في مفاهيم رسائل النور، ص:129

5- مفاتح النور في مفاهيم رسائل النور، ص:107

6- رسائل النور (الكلمات)، ص:63-64

7- رسائل النور (الكلمات)، ص:95 (بتصرف)

8- متفق عليه

9- صحيح مسلم

10- ترانيم روح وأشجان قلب، ص:10

11- القدر في ضوء الكتاب والسنة، فتح الله كولن، ص:99.

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. مقال متميز أستاذ حسن
    تكريم الإنسان ورصد تفاصيله عمدة الوعي بالذات وإعلاء قيمة الإنسانية في الوجود. وتقريب معنى التكريم اختيار هادف ونافع
    دام لك الإشعاع

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M