التوفيق يتحدث أمام الملك عن الاقتصاد والربا والضريبة والرشوة في درس حسني بعنوان “استثمار قيم الدين في نموذج التنمية”

11 مايو 2019 01:11

هوية بريس – عبد الله المصمودي

تحدث وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق في الدرس الحسني الأول لسنة 1440هـ/2019 الذي ألقاه أمام أمير المومنين اليوم الجمعة 10 ماي 2019، في موضوع “استثمار قيم الدين في نموذج التنمية”، عن علاقة الاقتصاد بقيم الدين والربا والضريبة وخطر الرشوة، داعيا العلماء إلى القيام بدورهم في البيان للناس.

وهذا نص الدرس كاملا:

“الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على الرسول الأمين

وعلى آله وصحابته الأكرمين

مولاي أمير المؤمنين

يعتبر الأسلوب المتبع في المعاش، أي الاقتصاد، في مجتمع يعلن هوية دينية، ذا أهمية بالغة من منظور الدين، وذلك لسبب واضح، وهو أن هذا الأسلوب إذا قام على الاعتدال، حفظ الأمة من احتقان قد يضر بالدين والدنيا، حيث تأتي الطمأنينة من العناية الواجبة بالمعوزين، وتتحقق السلم الاجتماعية بالحرص على حسن استعمال المال من قبل من أفاء الله عليهم من الموسرين.

والمقصود بالدين في هذا العرض، الإسلام بقيمه الأخلاقية، هذه القيم التي تمثل رصيدا نفيسا من الرأسمال اللامادي للأمة، وقد وجهتم، يا مولاي، نظر البحث في هذا الموضوع، موضوع الرأسمال اللامادي، في خطاب العرش عام 2014، كما وجهتم لمراجعة نموذج التنمية عام 2017.

وسنتناول في الدرس، بعد إذنكم الشريف، الأثر الممكن للدين في الاقتصاد من حيث تأثيره في السلوك، بقوة دافعة أو مانعة،تسمى في لغة الدين بالوازع، والإشكالمطروح هنا من جهة الاقتصاد السياسي، لا من جهة العلاقة بين الطلب والعرض عبر تقنيات المحاسبة.

نبدأ بتعريف المصطلحات الواردة في العنوان، ثم نسوق العرض في خمسة محاور هي:

أولا: مستند الكلام عن علاقة قيم الدين بنموذج التنمية؛

ثانيا: النموذج الاقتصادي في العهد الإسلامي المؤسس وما بعده؛

ثالثا: البحث الكوني عن علاقة الاقتصاد بقيم الدين؛

رابعا: آفاق استثمار قيم الدين في نموذج التنمية؛

خامسا: التدين في مرآة التنمية والتنمية في ميزان الدين.

ولابد من الإشارة، في البداية، إلى أن علاقة الدين بالأخلاق لم يعد ينظر إليها بالنظر الفلسفي المتشكك الذي ساد من عهد أفلاطون إلى عهد دافيد هيوم، لأن الدراسات الحديثة لهذه الظاهرة تنطلق من كون الديانات التي تعتمد الكتب المنزلة لها مرجعيتها في مسألة أصل الخير والشر.

فالقصد بقيم الدين في الإسلام هو كل ما ورد في القرآن الكريم وفي السنة الصحيحة من أحكام وأخلاق، على حسب الفهم الغالب عند الجمهور.

فمصطلح التنمية يدل في اللغة على الزيادة والتحسين، لم يرد باللفظ في القرآن الكريم، وإنما ورد ما يدل على معناه، وهو مصطلح “التزكية”، ولكن هذا المصطلح القرآني يرتبط بحمولة أخلاقية وروحية، فهو من التربية التي بُعث النبي، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، لبثها في نفوس المتقبلين لدعوته؛ أما مصطلح التنمية، كما نستعمله اليوم بمعنى الزيادة في القيم المختلفة، أموالا كانت أو غيرها، فمعناه متضمن في التزكية، ولكن التزكية تزيد عنه بمعنى الطهارة، وتعني في باب المال سلامة وجه اكتسابه وصواب وجه إنفاقه.

أما مصطلح النموذج فالكلام عنه مبرر من وجوه، منها أن الدين في اعتقاد أهله نموذج في حد ذاته، لكماله وتوافق عناصره، ومن ثمة فأسلوب العيش الذي يقترحه لا يمكن أن يكون إلا نموذجيا، ومن جملة ما يتضح به المقصود النقد الوارد في القرآن الكريم لنوع مخالف من النمو مبني على مجرد التكاثر في قوله تعالى: )ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر{. وقد طرأ في مفردات الاقتصاد الحديث تغليب مصطلحdéveloppement على مصطلح croissance، وصار وصف البشرية لصيق بالتنمية؛ فنموذج التنمية هو عموما مجموعة توجهات وعمليات وآليات اقتصادية تأخذ بالاعتبار المعطيات الوازنة في البلد المخطط له، قصد الزيادة في الثروة وتدبيرها وتوزيعها، نموذج لا تكفي في تحديده المعادلات الرياضية التي تصاغ فيها علاقات النجاعة بين المكونات الفعلية للاقتصاد، بل يحدده بالدرجة الأولى الاختيار السياسي على قدر حرية التصرف الممكنة إزاء النماذج الكبرى، وأمام الإكراهات التي تمليها شروط مختلف المتدخلين.

بعد الإشارة إلى هذه المصطلحات، نمر إلى المحور الأول وهو: مستند الحديث عن علاقة قيم الدين بنموذج التنمية.

لو رجعنا إلى القرآن الكريم نبحث فيه عن إشارة إلى مصطلح معبر عن النموذجية في حياة الأمة بشروطها، لوجدناها في قوله تعالى في الآية العاشرة بعد المائة من سورة آل عمران:

7 )كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله {.

ومما ورد في شرح هذه الآية عند المفسرين قولهم إنها تنطبق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى من صنع صنيعهم، أي أنها تصدق على كل من كان بتلك الشروط من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعند ابن كثير أن الآية عامة في الأمة، كل قرن بحسبه، ومن ترك التغيير زال عنه المدح. وفي تفسير الفخر الرازي أن المسلمين كانوا موصوفين بهذه الصفة ولكنهم ما بقوا عليها.

وقالوا عن المعروف إنه ما كان معروفا فعله، جميلا مستحسنا غير مستقبح من أهل الإيمان، لا يؤذن بالأمر فيه على مستوى الجماعة إلا لمكلفين، ولكن يقوم منه كل واحد من الأفراد بما يستطيع.

وبقراءة عصرنا، فالمعروف على هذا الأساس، يمكن أن يصدق على كل الأعمال المؤطرة بالقوانين والتأسيسات التي تتبناها الجماعة لصالحها، ما لم تناقض حكما قطعيا في الشرع، سيما إذا أخذنا بأن الجمهور يقابله اليوم ما يسمى بالأغلبية.

وهكذا يتبين من المنظور الذي يهمنا أن مفهوم الأمر بالمعروف مفهوم عظيم جاء ليؤسس حياة المسلمين على اليقظة الدائمة من أجل القيام على البناء المستدام، وعلى الإصلاح من أجل المعالجة المستمرة لأنواع الفساد، ويُستقرى من التاريخ أن المسلمين قد فوتوا على أنفسهم فرصة الاستفادة التاريخية الكبرى من هذا التوجيه لأسباب منها:

1.عدم التدبر الكافي لسنن الكون، ومنها سنن التاريخ؛

2.عدم توفر الشروط المادية المتوفرة اليوم لتفعيل وازع السلطان، أي سلطة القانون؛

3.اختزال هذا المفهوم، لاسيما من جهة بعض طلاب الزعامة الدينية، في المستوى الفردي، ليشهروه في وجه الأفراد على بعض المخالفات التي يتعلق معظمها بعلاقة الإنسان بربه، ومن المؤسف أن هذا الفهم المحدود لم يأت في حياة المسلمين إلا بمردود ضعيف، وكان الأحرى أن يُنظَمَّ المعروف ويصرف إلى مجالات العلاقات الجماعية بين الناس، وهي السياسة بأبعادها الكبرى.

ويمكن القول إن الآية بحدودها أو عناصرها ترسم نظاما جماعيا أو بالأحرى نموذجا؛ في إطار منافسة الأمم في الخيرية التي هي غاية النموذج، وإنها تضع لذلك النموذج شروطا تلتزم بها الأمة، لا لمجرد التفوق في الخيرية على الناس، بل بقصد الاقتداء الذي يتطلبه العالم .

وشروط هذا النموذج تهم الإطار الذي يتحكم في الاقتصاد من جهة التدبير السياسي، إنه نموذج مفترض يقتضي أن تتحمل فيه الدولة المسئولية في توجيه البناء والإصلاح؛ وبالرغم من كونه مؤطرا بمرجعية الإيمان، فإن تدبيره يظل مرهونا بالإرادة الحرة المفضية إلى توافق الجماعة، وحيث إنه نموذج مؤطر بالإيمان، فالقيمة المركزية فيه هي العدل بمعناه العام، ويشمل أداء حقوق الله وحقوق النفس وحقوق الغير، والمنكر في ذات السياق هو الظلم بمعناه العام، ظلم الله وظلم النفس وظلم الغير.

المحور الثاني: النموذج الاقتصادي في العهد المؤسس وما بعده

إن آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحيل على صرح شامخ من أخلاق القرآن، مبني على الأحكام والقواعد في موضوع الواجبات والمسئوليات والجزاءات، ودعامته توجيهات تتعلق بالدوافع والنوايا والاجتهادات، تشمل الفرد والعائلة والجماعة، كما تشمل الأخلاق والتصرفات على مستوى التزامات الدولة.

يخبرنا التاريخ أن هذه الآلية اشتغلت في العهد النبوي، لقوة الوازع، أي بفضل التأثير القوي للجملة التي بُعث من أجلها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تلاوة الآيات والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة.

ويخبرنا التاريخ أيضا بما طرأ من تعثر في تفعيل هذه الدينامية بعد العهد النبوي، ومن عواقب هذا التعثر ما وقع من فتن وما نشأ من تيارات كان لها رأي في الاقتصاد، حيث كان بعضها يشجع الثروة وبعضها يتحفظ منها أو ينتقدها.

فالقرآن الكريم يقر الملكية، ولا يعترض على التفاوت، ولا يثني على المترفين إذا كانوا كافرين بالنعمة، يرضى عن الفاعلية التجارية ويستنكر الغش والخداع، يحرم استغلال ضعف الناس بمضاعفة فوائد القروض، يحض على الزكاة كوجه لتثمير الأموال وإسعاف المعوزين.

أما نصوص السنة فقد ورد فيها ما يفيد أن الحق في الملكية قد يكون محدودا لبعض الاعتبارات، منها حق كل إنسان في العيش، كما ورد فيها تحريم الغرر والربح الناتج عن الصدفة، ومنع الاحتكار وبيع الجزاف، وقد انتقدت السنة الطفيليين ومدحت الأغنياء الذين يعينون المحرومين.

وبصفة عامة فالأحكام الاجتماعية، في الإسلام في عهده التكويني، تصور المثل الأعلى الاجتماعي الذي بَلَّغَه النبي صلى الله عليه وسلم، وتقبلته فئات وشرائح اجتماعية في عصره، ففي هذا المثل الأعلى مبادئ تمنع إساءة استعمال الملكية، وتجعل الصدقات تكافلا منظما لا ينفي التمايز بحكم ما هو مقرر من التفاضل في الأرزاق. إنه نموذج كوني شكل المثل الأعلى للبشرية. وقد جاء التاريخ ليصدق كونيته عندما قامت في أوروبا في القرن الثامن عشر اعتراضات على امتيازات ناشئة عن التبعية لطبقة معينة، وتبلورت صياغة هذه الاعتراضات في الاحتجاج على الامتيازات الناشئة عن تملك وسائل الإنتاج.

ففي رأي بعض محللي التاريخ الاقتصادي أن هذه الوسائل، وسائل الإنتاج، كانت موجودة في العهد المؤسس للإسلام، ولكنها لم تكن تمنح صاحبها سلطة خاصة على المجتمع.

وفي القرون الموالية وقع بين المسلمين تراجع عن هذا المثل الأعلى في النموذج الاقتصادي، ولربما استعملت في تبرير بعض الانزياحات عنه أحاديث موضوعة.

وممن حاولوا توضيح سبب هذا التقهقر في حياة المسلمين عبد الرحمان ابن خلدون عندما قال في مقدمته: “واعلم أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية من نبوة أو ولاية، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة”.

يشير ابن خلدون هنا إلى التزكية الأخلاقية، وقد أشار في مواضع أخرى من مقدمته إلى ما يفيد أنه كان واعيا بالشروط الموضوعية للتدين ولدور العدل في استتباب الوازع.

وقد ذهب دارسون معاصرون إلى القول بأن النظام الإسلامي كان أكثر نجاعة ما دامت عولمة الاقتصادات ضعيفة، مع ما صاحب ذلك من غياب مؤسسات قانونية رسمية. والتساؤل الوارد هنا: هل آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي وضعها الإسلام شرطا لتحصيل الخيرية أي النموذجية، كان من شأنها أن تنتج للأمة ما نسميه اليوم بالمؤسسات، أي الترتيبات التي تحول القيم على صعيد الجماعة إلى ضمانات لتصريف الحقوق؟ لقد قامت في تاريخ الإسلام مؤسسات سياسية وتدبيرية كثيرة، أشهرها القضاء والحسبة، وممن تكلم عن بداياتها الخزاعي في “الدلالات السمعية” والكتاني في “التراتيب الإدارية”، أما الجماعات، ولاسيما في المغرب، فقد وضعت لنفسها ضوابط ترسخ المعروف المرجعي للتعامل ولفض النزاعات بالتي هي أحسن، ويسمى جانب من هذا المعروف عندنا بالعمل أو أزرف.

أما المؤسسات في شكلها الحديث، فقد تولدت في تطور التاريخ الغربي تساوقا مع ثلاثة عناصر: أحدها النقاش على مستوى مباحث فلسفة الأخلاق، وكان للمسلمين منه نصيب وافر، لاسيما في التعليق على كتب اليونان، أما العنصران الثاني والثالث فهما التطور الاقتصادي والصراع الاجتماعي، ولكي يفهم المسلمون أحوالهم، وإلى اليوم، يحتاجون إلى فهم هذا الذي وقع في تاريخ الغرب، لأنه لا يخرج عن مراد الله، ولأنه مناط للحكمة والاعتبار.

المحور الثالث: البحث عن علاقة القيم بالاقتصاد خارج سياق الإسلام

جرى هذا البحث في سياق السؤال التالي: كيف ينبغي للإنسان أن يعيش؟ وما هو الخير الأعلى؟ هل تمليه الطبيعة أم تمليه إرادة عليا؟

فمن الكاتب الفرنسي ميشيل مونطاني المتوفى في آخر القرن السادس عشر، إلى الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بينطام، المتوفى عام 1832، وقع التدرج في الاقتناع بأن الأخلاق من تدبير الإنسان. تصدر عن مصلحته الخاصة أو ملكاته أو إحساسه أو شعوره بالحاجة إلى الآخر، مع القول بالحاجة إلى الأخلاق والحاجة إلى من يفرض العمل بالأخلاق، أي الدولة، وذلك مع ضرورة التحفظ من الطغيان المحتمل لسلطتها وآثار ذلك على الحرية الشخصية للأفراد.

وقد ذهب بعض المفكرين من أمثال بيير بايلي إلى القول بأن المجتمع يمكن أن يعمل بأخلاق يتخذها دون مرجعية في الدين؟

واجتهد دافيد هيوم في نقل النقاش من منظور الخير إلى بُعد الحق، حيث قال: “يمكن أن تنبع من أنفسنا لذة الخضوع لقوانين العدالة”.

وفي ما يحاذي المعنى الذي وجهت إليه الآية القرآنية المعتمدة في الدرس، قال الفيلسوف بنطام إنه لابد من تغيير المجتمع لكي يعمل الناس بأخلاق فيها جلب السعادة للعدد الأكبر.

وكان جون ديوي في منتصف القرن العشرين أوضح عندما قال بأنه بالرغم من كون الأفراد تشكلهم جماعتهم، فيمكنهم عبر بحث عقلاني، تصور حلول للمشاكل الاجتماعية، وذلك بالعمل الجمعي الواعي من أجل إصلاح جماعتهم وتحسين صورتها الأخلاقية.

أما رولز صاحب كتاب “فكرة العدل”، في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد قال إن المشكل يكمن في التواصي بالعدل الذي يمكن أن يتحقق بما يشبه عقدا اجتماعيا يُتفق في إطاره على كيفية قيام مؤسسات مهيكلة في المجتمع.

يمكن القول إن هذا البحث الفلسفي عبر أربعة قرون قد انتهى، موضوعيا، وبقطع النظر عن المرجعية، إلى مضمون الآية القرآنية في توقف إصلاح الجماعة على ضرورة وجود أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، تتبناه الجماعة لغاية طلب الحق والعدل. غير أن الاقتصاد لاسيما في القرنين الأخيرين في الغرب قد ذهب في اتجاه ليبيرالي، بفلسفة جوهرها أن الحرية في اكتساب المال وترويجه ستعود بالنفع على الجميع.

واكب هذا التطور في الغرب، استفحال تيارات فكرية مادية تقوم على الفصل بين الدين وبين التدبير العمومي للحياة، ولاسيما في باب ثروة الأمم الاقتصادية التي اتخذت التعبير عنها لغة الأرقام، وظهر وكأن السلوك الاقتصادي عقلاني محض لا تؤثر فيه المعتقدات. لكن ماكس فيبير أعاد بأطروحته المنشورة عام 1905 حول “الرأسمالية والأخلاق البروتستانية”، أعاد النقاش حول تأثير قيم الدين في الاقتصاد، فقد ذهب إلى القول بأن التفسيرات الدينية لطائفة البروتستانت قد تحكمت في سلوكاتهم الاقتصادية بخصوص الادخار والاستثمار، وهما في أصل نمو الرأسمالية الأمريكية، ذلك أن الاعتقاد في نظره عند هؤلاء البروتستانت، حسب قراءتهم للعهد القديم، هو أن نجاح الفرد اقتصاديا علامة على أن الله يباركه، غير أن ثمرات هذا النجاح ليس الغرض منها الاستمتاع الشخصي للفرد الناجح، بل عليه أن يسارع إلى إعادة توظيف ربحه من أجل زيادة متواصلة في الإنتاج، فالنجاح المادي بحسب هذا التصور الديني ليس جزاء، بل هو دليل على اصطفاء إلهي، فيكون العمل حينئذ وسيلة لتجلي المنة الإلهية، من حيث هي الغاية من الحياة.

غير أن باحثا ألمانيا آخر توفي عام 1923، وهو إرنست طرولتش، مؤسس السوسيولوجيا الدينية، قد أغنى وعدل أطروحة فيبير وبين أن تأثير الدين في الاقتصاد لا ينحصر عند ثنائية البروتستانت والكاتوليك، بل ظهر في ديانات أخرى في أوقات وأزمنة مختلفة، وهي علاقة مركبة، فالدين ظهر في سياقات معينة دافعا للنمو، وظهر في سياقات أخرى كابحا للمبادرة الاقتصادية، من أمثلة ذلك في نظره تمسك الكاتوليك بحِرمة القروض بفائدة، على حسب ما فهموه من قراءة العهد القديم، ولم يُلغ هذا التحريم سوى المذهب الاجتماعي الجديد للكنيسة في أواخر القرن التاسع عشر، وفي رأي طرولتش أن هذا المعتقد تسبب في تخلف البلدان المتمسكة به لأكثر من قرن من الزمن.

عندما يتكلم الباحثون في هذا العصر عن علاقة النمو بالدين فإنهم يقيسون النمو بالدخل الفردي حتى في التاريخ الاقتصادي، فيحسبون مثلا أن هذا الدخل كان يعادل 450 دولار سنويا في المجتمعات الزراعية إلى غاية عام 1000 ميلادية في أوروبا، لكن وقائع تاريخية وتطورات تقنية وتنظيمية متراكمة عديدة أوصلته، حوالي عام 1400 ميلادية، إلى ضعف ذلك القدر. وفي هذا العهد، أي بين عام 1000 وعام 1400، وقعت فجوة التفوق الغربي على بقية العالم، ومنه العالم الإسلامي، واستفحلت إلى وقتنا هذا.

وبعد هذين الرائدين، فيبير وطرولتش، لم يتجدد الاقتناع عند الاقتصاديين بأن الدين، باعتباره العامل المهيكل الأول للثقافة، له تأثير هائل في آليات النمو الاقتصادي، إلا في أواخر القرن العشرين. برز هذا الاقتناع عندما ازداد وعي المنظمات الدولية المهتمة بالنمو، ومنها البنك الدولي، بأهمية دور الثقافة، وبالدين كجزء منها، في رفع وثيرة النمو الاقتصادي.

وقد توالت الأبحاث الميدانية في هذا الموضوع عبر بلدان العالم، وأبرزت أنه لا توجد ديانة غير مواتية في جوهرها للنمو الاقتصادي، كما أنه لا توجد ثقافة فردانيةindividualiste بالكامل، ولا جمعويةcollectiviste بالكامل، وأن التحاليل الميدانية تظهر أن الدين يستمر، في العصر الحديث، منبعا للخير العمومي في مستوى المجتمع ككل، من حيث تمكين المجتمع من التناغم والتلاؤم حول عدد من النقط المتقاسمة داخل الجماعة.

وعلى العموم، فالدين يؤثر في الظروف الاقتصادية المشجعة عبر أربعة مستويات من التحليل:

1.القيم المستمدة من النصوص المعتمدة؛

2.المؤسسات والقواعد الملزمة للفاعلين ؛

3.الحكامة: ولاسيما بمراعاة القيم وحل المشاكل دون اللجوء إلى المحاكم؛

4.النجاعة الاقتصادية: على أساس الدخل أو الممتلكات أو المؤهلات.

تَربط قياسات هذه الأبحاث تأثير الدين وتفاعله عبر العالم بدرجة رسوخ المعتقد، وبظواهر في المحيط كالتعليم والخصوبة الديموغرافية والصحة ودرجة التعمير والزيادة في أمل الحياة، ويُقاس مداه بمؤشرات أخرى كنسبة الحضور في أماكن العبادة، ووجود مشاعر الخوف من العقاب أو الطمع في الجزاء، كما يظهر تفاعل هذا التأثير مع المتغيرات المتعلقة بالسياسة الاجتماعية، كالعمل بالديمقراطية والالتزام بتطبيق القوانين.

المحور الرابع: آفاق استثمار قيم الدين في نموذج التنمية

الغاية من استثمار قيم الدين في نموذج التنمية أمران متلازمان: الزيادة في ثروة الأمة والتخفيف من وطأة الفقر.

والمقصود بالاستثمار هنا التزام الفاعلين الاقتصاديين بمقتضى القيم المندرجة في الواجبات ثم بتلك التي من قبيل المندوبات، والسؤال هنا هو: من يتعين عليه يا ترى أن يقوم بهذا الاستثمار؟ وحيث إننا قد بينا أن إعمال المعروف على مستوى الجماعة هو الذي يفضي إلى بناء المؤسسات، فإن ذلك يعني أن الإمارة، أي الدولة، هي التي يرجع إليها الدور الأول في استثمار قيم الدين، إذ الدولة هي صاحبة الاختصاص في الأمر بالمعروف على مستوى الجماعة، ولأن عملها في هذا الاتجاه ييسر للأفراد الإحسان حتى إلى أنفسهم، وبالتالي الإحسان إلى جماعتهم.

وهكذا فالفكرة السائدة عند المسلمين حول مركزية دور الفرد في الدين أبانت عن محدوديتها، إذا تبين ضعف التزام الأفراد في عدد من الحالات، لأن الأفراد محكومون بظروف البيئة السياسية والاقتصادية، وللدولة وسائل ليست لغيرها في وضع القانون المناسب، وفي التصرف لخلق البيئة السياسية والاجتماعية المناسبة للتدين العام، ومعلوم أن من وسائل الدولة لإيجاد هذه البيئة المناسبة توفير الأمن والاستقرار والتعليم والتأهيل، لأن العمل بالقيم عند الفرد ليس فطريا ولا طبيعيا، بل هو مرهون بتقوية الوازع للتغلب على نوازع النفس، ولكن درجة الامتثال للقيم مرهونة أيضا بكثير من إكراهات الحياة يقع الاقتصاد في صلبها.

أما المنتدبون الفعليون لتقوية الوازع بالحكمة والموعظة الحسنة فهم أصناف من المربين، الشرط فيهم أن يكونوا قدوة مؤثرين بالقول والفعل، وهم في المقام الأول العلماء الذين يقومون بأمانة التبليغ، ويحرصون على إقناع الفرد بمصلحته دون إعدام حريته التي هي شرط صحة عبادته، وينتظر من تدخلاتهم أن تجيب عن الأسئلة العادية وأن تعالج بعض القضايا الأكثر أهمية نقتصر على الإشارة إلى ثلاث منها:

الأولى: الشرح بأن وجوه صرف الزكاة هي المذكورة في القرآن، ومقاصدها اجتماعية، بينما يؤدي الناس الضرائب مقابل الخدمات التي تنجزها الدولة أو الجماعات، فالضريبة على هذا الأساس حق يتعين الامتثال له، علما بأن من حق الأفراد الماديين والمعنويين أن ينعموا بالإنصاف الضريبي مقابل ذلك الامتثال؛

والثانية: ضرورة قيام العلماء بإبراز التأثير المدمر للرشوة على الاقتصاد، بحيث يتوجب اعتبارها منكرا من المناكر الكبرى؛

الثالثة: ضرورة قيام العلماء بشرح ظاهرة الربا شرحا اقتصاديا، وبيان أن الحل الموضوعي لها في بلد معين يكمن في تقوية اقتصاد ذلك البلد، بتقريب الشقة بين العرض والطلب.

يشارك العلماءَ في مسئولية التبليغ والإقناع، أصنافُ القائمين على طرق التزكية الروحية؛ ومتدخلون آخرون، على رأسهم الآباء والأمهات والمعلمون في المدارس والإعلاميون، والمرجع في تقاسم هذه المسئولية هو الحديث الشريف الذي جاء في أوله: “كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته…”.

لا أحد ينكر دور الرأسمال النفسي في جميع الأوقات بالنسبة للأفراد والجماعات في بناء نموذج للتنمية، فالاحتقان والهم مما يسميه القرآن بالعنت، في قوله تعالى: )لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمومنين رؤوف رحيم {، ومن ثمة فإن لإعمال المعروف من منظور التنمية عائدات منها الشعور النفسي بجريان الأمور على العدل كباعث على طيبة حياة الشكر المدعومة بمكارم الدين، وإذا كانت السعادة هي المبتغاة من الكسب، أي التنمية، فإن القرآن يسمي هذه السعادة بالحياة الطيبة، في قوله تعالى في سورة النحل: )من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون{. فاختيارات العقل الاقتصادية لا تغيب عنها النوازع العاطفية، وقد صار الاقتصاديون في العقود الأخيرة يهتمون بجانب من الأبحاث تندرج في ما يسمى بالذكاء العاطفي، l’intelligence émotionnelle.

أما أبرز العائدات المادية للأمر بالمعروف فهي مرتبطة، على المستويين الفردي والجماعي، بالوقاية وبتجنب التبذير، أي بالتدخل للتقليل من كلفة المنكر على الجماعة.

وبينما تؤدي الإمارة دورها في إعمال المعروف بواسطة القانون بناء على الاجتهادات المطلوبة، وفي ما لا يناقض أحكام الدين التي لا اجتهاد فيها، فإن دور الأفراد في اصطناع المعروف ينبع من مخافة الله، أي بدافع الوازع الذي هو إرادة مبنية على الخوف والرجاء، ويصب هذا الدور، على الخصوص، في صيانة الفرد لكل ما هو أمانة إلهية عنده، لا يحاسبه عليها قانون، مثل أمانة البدن وأمانة النفس، وهي بحق من عظيم ثروة الأمم، وأوضح سبل لهذه الصيانة الاعتدال في الشهوات.

هكذا تظهر آثار إعمال المعروف متعاضدة، من جهة المؤسسات والأفراد على السواء، في أمور هي في قلب عملية التنمية:

أولها: إنتاج الثروة، أي حصيلة العمل والمبادرات، فالعمل في الإنتاج قائم على المقابل الذي هو الأجر، ولكن الذي يعطي للعمل من منطلق الدين خصوصية هو أن المؤمن يعتبر العمل الصالح، في حد ذاته، عبادة محققة.

ثانيها: توزيع الثروة: فأثر قيم الدين متوقع على الخصوص في تعديل توزيع الثروة، سواء في الوفاء بحق السائل والمحروم، أو ببذل الفضل والجود الذي ينشر المحبة بروح لا منة فيها ولا رياء، وإنما باحتساب أن الله يخلف للمنفق، وأن كل الخير من عنده، وفي هذا المعنى نهى القرآن الكريم عن سلوك منكر هو البخل الذي كنى عنه “بقبض اليد” في قوله تعالى في سورة التوبة: )المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يامرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم، نسوا الله فنسيهم {.

لا تخفى سياسات توزيع الثروة الواردة في نماذج التنمية في نظام العالم المعاصر، لاسيما من جهة مردود نمط التوزيع في تحقيق السلم الاجتماعية، بقطع النظر عن الخلفية الخلقية.

أما الركن الثالث للمنظومة القيمية الدينية في علاقتها بالمال، بعد الإنتاج والتوزيع، فهو ركن ليس له بالضرورة مكان في الأنظمة المقطوعة عن مرجع الدين، ونقصد به وجه استعمال الثروة، ومن الآيات الدالة عليه قوله تعالى في سورة القصص: )وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك…{وفي الحديث الذي رواه ابن حبان وغيره: “لا تزول قدما ابن آدم حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن بدنه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه”.

المحور الخامس: التدين في مرآة النمو ونموذج النمو في ميزان الدين

نأتي إلى المحور الأخير لنقابل في واقع المسلمين، بين وجهي الموضوع، الدين من خلال قيمه والتنمية من نموذجها المأمول. فقد استيقظ المسلمون في القرنين التاسع عشر والعشرين على انحطاطهم المادي أمام الغرب، وبينما ظل سوادهم الأعظم لا يقبلون الواقع الرهيب ولا يفهمون أسباب نزوله بهم، أخذ بعض النبهاء منهم يتساءلون، ومن هؤلاء المفكر الشهير شكيب أرسلان المتوفى عام 1946 في كتابه “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟”، فقد استنتج، كغيره، أن ما وقع من تأخر للمسلمين ترتب عن عدم الأخذ بسنن الكون المبنية على السعي والاجتهاد، والتي جاءت واضحة المعالم في الكتاب المبين، وترتب أيضا عن تفشي الجهل، وقلة العلماء المؤثرين، وعن جمود العقول على القديم، والخلاصة هي أن العلة الكبرى في التأخر هي فساد الأخلاق، وهو أمر تقع مسئوليته على المتدينين لا على الدين.

إن من مفاتيح فهم أسباب تأخر المسلمين التمييز، كما ورد في كلام أرسلان، بين الدين والتدين، فالدين يحمِّل المسلمين مسئوليتهم في كيفية أخذه وتنزيله في حياتهم، أي في العمل بقيمه، والتدين قائم على هذا الأخذ والتنزيل.

فلما دخل على المسلمين تاريخ غيرهم، دخل في الغالب على شكل استعمار همه التجارة واستكثار المال بخيرات الآخرين، فكان شبه صدام بين عالمين ذهب بكثير من قيم المجتمعات الإسلامية، وشككها حتى في الدين، من حيث إنه لم ينتج التقدم، والنتيجة هي أن مؤسسات الإصلاح وآلياته الحديثة قد جاءت في سياق هذا التاريخ الغازي، بأسماء ومصطلحات ومضامين وجد كثير من المسلمين صعوبة في صدق التعامل معها، ذلك لأن المسلمين في تاريخهم، كما أكدنا، غلبوا الفهم الفردي على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إن بعضهم، وإلى الآن، أمام مشكلة تشخيص الأوضاع المستجدة، ما فتئوا يتخيلون بدائل منسوبة للدين، فيها كثير من الوهم والإيهام، والمثالية التي لا توافق السنن.

إن العالم وضع معايير ومقاييس كمية أكثر منها نوعية، هي هذه التي تسمى بمؤشرات التقدم أو التنمية، وقد أخذت تُدمج، لفائدة نجاعة الأعمال، عناصر تتصل بسياسة الحقوق، فإلى جانب مؤشرات الفقر والجهل والمرض صارت المحاسبة والتنقيط، على أساس مؤشرات أخرى تتصل بالإكراه وقلة الإنصاف، وهذه هي التي لا يتوافق التدين السديد مع الترتيب في دركاتها السفلى.

ومن العواقب السلبية للضيق في الفهم ولانعدام العمق في التشخيص، الصعوبة المتزايدة في مهمة التبليغ، أي تفهيم الدين وتعليمه للناس، فقد تعقد الأمر بأن انضاف إلى الأصناف الثلاثة من المشوشين المذكورين في الحديث، وهم الجاهلون والمنتحلون والمتطرفون، متدخلون آخرون يهدمون مراجع العقل السليم ببث أشكال متعددة من التلبيس.

فالدين هو البرنامج والتدين هو التنفيذ، على أساس فهم سديد يسانده الإجماع، وقد قرر العلماء أن آية سورة آل عمران يمكن أن يُستشهد بها في باب الإجماع، فتأخر التنمية في بعدها السياسي ثم في بعدها المادي، يدل على ضرورة توفير شروط العمل بالدين في حياة الجماعة، وهي المطلوبة في النموذجية، فأي نقص في هذا الباب قد يكون مؤشرا على أحد أمرين أو عليهما معا، النقص في توفير شروط التدين والضعف في نجاعة الكلام في منابر الدين.

إن الدين لا يعيق تنمية معينة، ولكن ضعف التنمية يكشف عن الخلل في نوعية التدين، والسؤال المقابل هو: هل يمكن أن تكون هناك تنمية معينة لا تيسر حياة التدين؟ ومن جملة عناصر الجواب عن هذا السؤال القول بأن إنتاج ما لا يحصى من البضائع غير الضرورية، وما يصاحب تسويقها من وسائل الإغراء، مسار ينبئ بأزمة على صعيد العالم كله، كما تشير إلى ذلك العديد من الدراسات في الأعوام الأخيرة، ذلك أن هذا الإغراء يشكل تحديا للتوازن النفسي للناس عامة، ولوازع المسلمين خاصة، لأنه يدخلهم في ضروب من التكاثر التي تلهي، بمعنى تُضعف العقل وتُلقي بالإنسان في أنواع من الهم والذهول مدى الحياة.

وفي ختام هذا العرض يمكن القول يا مولاي:

إنه من المفيد أن يعي المسلمون أن القيم المقترحة عليهم من هذا التاريخ الكوني هي جزء من الشروط التي ارتبطت بها خيريتهم بين الأمم، أي نموذجيتهم وفق الآية المبني عليها الدرس، وفي هذه المملكة الشريفة فإن البرنامج المؤسس للبيعة الشرعية برنامج جامع للرأسمال اللامادي القابل للاستثمار في دعم نموذج تنمية يهدف إلى الزيادة في الثروة قبل اقتسامها، ذلك لأن الوعي بما تعد به أخلاق الدين من إمكانات هذه الزيادة أمر أساسي في استثمار هذا الرأسمال الأخلاقي، فالمسلمون إذا لم يسعفهم تاريخهم في الأسبقية لبناء المؤسسات في صيغها الحديثة، فإن علماءهم وضعوا الهندسة السياسية لهذا البناء في صورة ما يجب أن تضطلع به الإمامة العظمى من المهمات التي سموها بكليات الشرع الخمس.

استنبط العلماء أن هذه الكليات هي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ المال وحفظ العرض. والوعي المطلوب هو النظر إلى هذه المنظومة على أنها وحدة شاملة لشروط النموذجية المذكورة في الآية، ولكننا إذا انطلقنا من تجربة العقل والتاريخ، ومن تحذير القرآن من أسباب الفتنة، كان علينا أن ننتبه إلى أن من أحوال العيش في الدنيا ما هو منذر بالفتنة في الدين، ومن هذا المنطلق يتعين اعتبار حفظ المال، بمعنى التنمية الاقتصادية، العنصر الأهم في نموذج تنموي تسهم فيه قيم الدين، ويمكن أن يأتي بعده في الترتيب حفظ العقل، لأن الناس إذا كانوا في بيئة تلتزم بالأخلاق في المال، فإن صدورهم ومراجع فهمهم في التعامل تكون سليمة باطمئنان نفوسهم على أساس ما يسمى بتساوي فرص الاستحقاق. ومن زاوية النظر هذه يتبين أن حفظ الدين بمعناه الجماعي المرتبطة به خيرية الأمة أي نموذجيتها، يتحقق بقدر ما يُزال الفساد بكل أشكاله عن المال، وبقدر السعي إلى الكمال بإبعاد خلق قبض اليد من حياة الأمة.

والنتيجة المرجوة لا تهم المسلمين وحدهم، ذلك أنه بعد ما يقرب من قرن من تساؤل أرسلان عن أسباب تأخر المسلمين، كتب المفكر الهندي أبو الحسن الندوي كتابا بعنوان “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”، ليقول إن انحطاط المسلمين المادي والأخلاقي ليس خسارة لهم وحدهم، بل هو خسارة للعالم، لأن العالم، وإن تقدم ماديا وعلى صعيد مؤسسات الإصلاح ومحاربة الفساد، بحاجة إلى أن يُرجع الحياة إلى أصلها في الخالق الواحد، وليس هذا الإرجاع مجرد أمر شكلي، بل هو أمر تتولد عن غيابه عواقب كبرى في حاضر البشرية، عواقب تتلخص في مظاهر الانحدار المعنوي الآخذ في التضخم والاستفحال، أي أن العالم في رأي الكاتب، يحتاج إلى ما في الإسلام من قيم الإيمان القائم على التوحيد بكل أبعاده، وذلك لتحقيق السعادة المادية والروحية الممكنة في هذا العالم، وكأن هذا المفكر يقول: كان حريا بالمسلمين، وهم يحملون أمانة الإيمان على نهج شريعة خاتمة الرسالات، كان عليهم أن يكونوا نموذجيين في حياتهم الدنيا لتقتدي بهم الأمم الأخرى في أمور الدنيا والآخرة.

مولاي أمير المؤمنين

إن سداد سياسة إمامتكم القائمة على أساس بيعة ترعى كليات الشرع، يتجلى في أمور كثيرة، من أهمها فتح أوراش البناء التي تدخل في الأمر بالمعروف، وإقامة مؤسسات الإصلاح التي تدخل في النهي عن المنكر، ووضع أمانة تبليغ قيم الدين على عاتق العلماء، ورعاية أحوال المحتاجين عبر برامج اجتماعية، وإعطاء الإشارات البليغة للميسورين في مملكتكم من أجل الذهاب إلى أبعد ما يمكن في بسط اليد بالتضامن، هذه كلها مؤشرات لتحقيق نموذج تنمية يمكن أن يتعامل مع إكراهات العولمة ومستجدات التكنولوجية، نموذج يستلهم من أربعة توجهات قيمية هي:

1.حفظ المال في طهارته من حيث وجه الاكتساب؛

2.حفظ التدين من الفتنة بحسن التبليغ وبحفظ الشروط الدنيا للعرض أي الكرامة ؛

3.فتح آفاق تربية تخدم فكرة حسن استعمال المال على المستويين الفردي والجماعي؛

4.وضع حياة الأمة في مسلك تربوي مبني على خلق الاعتدال.

مولاي أمير المؤمنين

إن الأساليب التقنية لإقامة المقاولات وتنميتها متداولة بين المختصين، ولاشك أن المقاولة يهمها موطن غرسها في البلد، ولاسيما من جهة معايير مناخ الأعمال، غير أن نموذج تنمية بلد جذاب للمقاولات هو بالدرجة الأولى بلد طيب المعيشة لأهله، ويزيد تميزا إذا أخذ بالقيم التي ذكرنا في الإنتاج والتوزيع والاستعمال، وهو نموذج تكرر الوعد به في القرآن على قدر سمونا في التدين، لا بمجرد انتمائنا للدين، قال تعالى: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهمُ أمنا{، نموذج مفتوح على الاجتهادات المحكومة بالمصالح من جهة، وبالإكراهات من جهة أخرى، لكنه مقيد بشيء ثابت هو غايته كنظام للخير والبناء، تسري فيه روح الحق من جهة وروح المرحمة من جهة أخرى.

مولاي أمير المؤمنين

عندما نزل قول الله تعالى: )كنتم خير أمة أخرجت للناس{فهمه الصحابة رضوان الله عنهم في بعده الإنساني، باعتبار أن الإنسان هو حجر الزاوية في كل إصلاح، فقالوا وفق ما جاء في تفسير الطبري: خير الناس معناه: “خير الناس للناس”، فأنعم بها من غاية مثلى لكل نموذج تنمية تُستثمر فيه قيم الدين.

والسلام على المقام العالي بالله

والختم من مولانا أمير المؤمنين

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M