العرب وسؤال الطب

16 يونيو 2020 09:20

هوية بريس – علي كرزازي

” لا أعلم علما بعد الحلال أنبل من الطب” الإمام الشافعي

من منّا لم يعتريه ذلك الشعور بالفخر والزهو وهو يسمع عن العالم المغربي منصف السلاوي الذي كلفه ترامب بالاشراف على العملية المسماة:” warp speed” لانتاج لقاح ضد فيروس كورونا، مثلما هو الحال بالنسبة للمغربية سارة بلالي التي تشتغل في فريق البروفسور  الفرنسي ديدييه راوول  الذي يعتبره البعض من أهم الباحثين في فرنسا ومرجعا عالميا في مجال الأمراض المعدية، كما أنه من الداعين لاعتماد مادة الكلوروكين كعلاج لوباء كورونا. لكن في الحقيقة سرعان ما يتحول فرحنا الرمزي ذاك الى نوع من التناقض الوجداني، الذي يفتح مجددا  جرح واقعنا المتخلف وتبعيتنا المقيتة للغرب، وهاهنا ينتصب السؤال محملا بلوعة حارقة نجلد من خلالها ذاتنا لنقول: ما صلتنا نحن العرب المسلمون بالطب؟

كان للقبائل العربية قبل الاسلام معرفة بالطب ، معرفة لم تستند الى العلم وانما للتجارب والخبرات التي راكمتها شعوب الحضارات القديمة في مصر والشام والعراق كمعالجة الرمد بالاثمد أي الكحل، والسرطان بالنار والجرب بالقطران خاصة لدى الابل وهو ما يستشف من قول طرفة بن العبد:

الى أن تحامتني  العشيرة كلها *** وأفردت إفراد البعير المعبد

والمعبّد هو المطلي بالقطران، وكان البعير الأجرب يتم عزله عن الابل كي لا ينقل اليها العدوى، وبالتالي فقد اهتدى العرب الى مسالة العزل في مسعاهم للحد من انتقال العدوى، وهذا يؤكد علمهم بما يسمى بالطب البيطري، خاصة وأن حاجتهم للابل والخيل كانت ماسة، واضافة الى ذلك كانت لهم دراية بالجراحة ومن اشهر جراحيهم ابن رومية التميمي،  وفي المجمل فقد اقتصر الطب في العصر الجاهلي في معظمه على الكي بالنار واستئصال الأطراف الفاسدة والتداوي بالعسل ومنقوع بعض الأعشاب النباتية، واللجوء إلى بعض التعاويذ والتمائم على يد الكهّان والعرافين.

وبمجيء الاسلام حث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام على دراسة الطب، فقد ورد في سنن أبي داوود: عن أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ” إن الله عز وجل أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام”. ومن أشهر الأطباء في صدر الاسلام نجد الحارث بن كلدة وابنه النضر، وقد لقب بطبيب العرب وأشرف على علاج العديد من الصحابة كسعد بن أبي وقاص. وفي العصرين الأموي والعباسي بدأ الطب العربي يتلمس طريقه نحو التطور بفعل تشجيع الخلفاء والأمراء على ممارسته، وكذا ايلاء القائمين عليه مكانة رفيعة في المجتمع. واذا كان الطب عموما ثراتا انسانيا أسهمت في نشأته جميع الشعوب، فان العرب المسلمين مضوا به قدما نحو الازدهار من خلاله إكسابه خصيصة العلمية والاستقلالية ، ولم يكن ذلك ليتحقق لولا عامل الترجمة الذي لعب دورا رياديا في هذا المجال، اذ نقلوا مؤلفات الأطباء الاغريق والرومان كأبقراط وجالينوس  وديسقوريدوس الى العربية، ولم يكتفوا بترجمتها بل شرّعوا باب الاجتهاد والتجريب فكان أن أخضعوا هذه الأعمال المترجمة للنقد والتصحيح والتمحيص فأزاحوا النقاب عن مغالطاتها الطبية فابن سينا والرازي وابن النفيس تولوا نقد الآراء الطبية لجالينوس على التوالي في كتبهم:” القانون في الطب” و” الشكوك على جالينوس” و” شرح تشريح القانون”.

ومن الاحقاقات العلمية للطب العربي اهتمام الأطباء بالنفس والجسد على حد سواء كاشفين العلاقة الجدلية والوثيقة بينهما، وبذلك فقد تجاوزوا الطب الاغريقي الذي قصر تركيزه على الجوانب العضوية والمادية للمرض، وكذا الطب الهندي الذي بحث في الجوانب النفسية فقط، ومن أبرز مؤلفاتهم في هذا الصدد:” تدبير السوداويين” لحنين بن اسحاق” و” الطب الروحاني” للرازي الذي انماز من بين الأطباء المسلمين بخبرته في العلاج النفسي. ومن الأطباء الذين أثنى عليهم ابن أبي صبيعة صاحب كتاب” عيون الأنباء في طبقات الأطباء” نجد ابن سنان بن ثابث الذي تمكن من علاج أحد الأمراء العباسيين من علل نفسية وعصبية كثيرة.

إن فضل العرب على الغرب في ميدان الطب لا يمكن انكاره أو التغافل عنه، وسأكتفي بذكر بعض المنجزات التي ساهمت في رقي هذه الممارسة:

  • تنظيم مهنة الطب: إذ أحدثوا لأول مرة منصب رئيس الأطباء وذلك في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، وقد اختص صاحب هذا المنصب يالاشراف على الأطباء والمستشفيات ورعاية الشؤون الصحية للسكان في ربوع البلاد.
  • إخضاع الأطباء والصيادلة لامتحانات مهنية قبل ولوجهم ميدان التطبيب، إذ ذكر المؤرخون أنه وعلى إثر وفاة أحد المرضى نتيجة خطأ طبي، أصدر الخليفة المقتدر العباسي أمره للمحتسب بأن يمنع سائر الأطباء من مزاولة مهامهم الا بعد خضوعهم للاختبار من طرف رئيس الأطباء، وهو إذ ذاك الطبيب سنان بن ثابت.
  • انشاء نوعين من المشافي : مشافي قارة وأخرى متنقلة أو محمولة، ويرجح المؤرخون أن أول مستشفى بني في الاسلام كان في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بدمشق، أما أول مستشفى في العهد العباسي فقد بناه الخليفة هارون الرشيد، وبلغ عدد المستشفيات في العاصمة بغداد حتى بداية القرن الرابع الهجري حوالي ثمانية مستشفيات. كما يحسب للعرب المسلمين سبقهم لبناء المستشفيات المنقولة وقد استهدفت المرضى القاطنين بالأرياف والقرى، وكان يشرف عليها فريق من الأطباء والمساعدين الذين كانوا يتنقلون من قرية الى أخرى حاملين أدويتهم على ظهور الدواب، وهذا النوع من المشافي ظهر أول مرة في عهد الخليفة العباسي المقتدر.
  • يسجل للعرب ريادتهم في مضمار الاكتشافات الطبية فقد كانوا أول من استخدم المرقد “البنج”، وهم الذين تفننوا في علاج الأظافر، واليرقان “بوصفار”، واستخدموا الأفيون لمعالجة الجنون، ووصفـوا صب المـاء لقطع النـزف، وعـالجـوا خلع الكتـف بالطريقـة المعروفة في الجراحة، ووصفوا إبرة الماء الأزرق “قدح العين”، وأشاروا إلى عملية تفتيت الحصاة، وهم أول من كتب في فروع الطب، فكتبوا في الجذام، وأول من كتب فيه “يوحنا بن ماسويه”، وهم أول من وصفالحصبة والجدري في كتاب “أبي بكر الرازي”. كما أن الطبيب ابن النفيس يعد أول من اكتشف الدورة الدموية الصغرى… الى غير ذلك من الانجازات التي انعكست على تطور الطب نظرا وممارسة.
  • نجح العرب المسلمون في جعل الطب أفقا للتسامح والتعايش الدينيين، من خلال إقرارهم لمبدإ المساواة في دراسة ومزاولة مهنة الطب بين جميع الأعراق والأديان والأجناس، وقد حفظ التاريخ أسماء العديد من الأطباء من جنسيات وديانات مختلفة عملوا في بلاطات الأمويين والعباسيين من أمثال ابن اثال المسيحي الذي اشتغل في قصر معاوية بن ابي سفيان، والطبيب ابن أبجر المسيحي والذي عمل في بلاط الخليفة عمر بن عبد العزيز، أما بالنسبة للعباسيين فقد كان جورجيس بن يختيشوع النسطوري طبيبا للخليفة أبي جعفر المنصور، واستمر ابناؤه وأحفاده في خذمة البلاط العباسي لأكثر من ثلاثة قرون، وفي البلاط الفاطمي في مصر عمل أطباء يهود كموسى بن العازار وأبنائه وأحفاده ، كما أن معاداة القائد صلاح الدين الأيوبي للصليبيين لم تمنعه من اصطفاء عدد من الأطباء المسيحيين من أمثال أسعد بن المطران وأبي الفرج النصراني، وكذلك الشأن بالنسبة لأبي عمران موسى بن ميمون بن عبيد الله القرطبي المشهور في الغرب باسم ميمونيديس، واشتهر عند العرب بلقب الرئيس موسى، كان  فيلسوفا يهوديا  سفارديا  وعالما فلكيا وطبيبا مبرزا. وُلد في قرطبة ببلاد الأندلس في القرن الثاني عشر الميلادي، ومن هناك انتقلت عائلته سنة 1159 إلى مدينة فاس  حيث درس بجامعة القرويين، ثم انتقلت سنة 1165 إلى فلسطين، واستقرت في مصر آخر الأمر، وهناك عاش حتى وفاته، عمل في مصر نقيبًا للطائفة اليهودية، وطبيبًا لبلاط الوزير الفاضل أو السلطان صلاح الدين الأيوبي وكذلك استطبّه ولده الملك الأفضل علي.
  • لادراك حجم فضل العرب على الغرب في ميدان الطب ينبغي الاشارة الى واقع الممارسة الطبية في أروبا في القرون الوسطى، إذ يجمع المؤرخون على أنها كانت تتسم بالتخلف نتيجة ارتكانها الى الخرافات في تشخيص الأمراض ومعالجتها، بل الأدهى من ذلك شيوع بعض المعتقدات التي ترى في المرض شيطانا يتسلل الى جسم المريض عقابا له على معصية أو اثم ارتكبه في حق الكنيسة، وما من شفاء له سوى الغفران الذي تمنّ به الكنيسة عليه، وفي هذا الصدد لم تتورع الكنيسة عن حرق كتب الطب واتهام المشتغلين به بالسحر والشعوذة كما منعت رعاياها من التداوي. لكن التحول الحاسم والانعطاف الكبير ستدشنه مرة أخرى عملية الترجمة، إذ سيعكف الأربيون منذ اواخر القرن الحادي عشر الميلادي على استيحاء الانجازات الطبية العربية، وها هنا كان لقسطنطين الافريقي دور بارز في نقل الطب العربي الى اروبا من خلال ترجمته للكتب الطبية العربية الى اللاتينية، وقد سار على هديه العالم الايطالي الكريموني – نسبة لمدينة كريمونا الواقعة في شمال ايطاليا- في اواسط القرن الثاني عشر الميلادي ، والذي انتقل الى مدينة طليطلة وباشر هناك ترجمة أكثر من ثمانين كتابا في الطب والفلسفة والفلك والهندسة والرياضيات ، منها كتب الرازي:” المنصوري”و” المدخل الى الطب” وكتب الزهراوي المتصلة بالجراحة وكتاب:” القانون” لابن سينا، ناهيك عن ترجمته لمعظم مؤلفات الاغريق من العربية الى اللاتينية مثل مؤلفات أبقراط وجالينوس.

لقد تأكد بما لا يدع مجالا للشك بأن الطب العربي الاسلامي كان له فضل كبير في الاشعاع الحضاري الانساني ، ومن ثمة فلا ينبغي أن تكون لدينا مركبات نقص اتجاه هذا الغرب الذي استند في بناء نهضته وتقدمه العلمي على مجهودات أسلافنا.

وبعد أفلم يان لنا أن ننفض عنّا غبار التقاعس والتكاسل لنسترد بضاعتنا التي أضعناها بسبب تخلفنا وجهلنا ؟ ألم يان لنا أن نتحلل من سطوة السياسة والايديولوجيا لننغمر في لجة البحث المعرفي والابستيمولوجيا والمثاقفة؟ ألم يحن الوقت لنفك الارتباط مع هذه التبعية المقيتة للغرب، فها قد قالوا لنا حاربوا كورونا بسلاح الكلوروكين فسمعنا وأطعنا وقلنا آمين بحسب قناعاتنا وولاءاتنا السياسية فحسب ! وغدا سيقولون لنا استبدلوه بعقار جديد وسنطيعهم من جديد، وحتى اشعار آخر سنظل موزعين بين أمجاد أسلافنا الغابرة وبين واقع خيباتنا الراهنة وصدق الامام الشافعي اذ يقول:

نَعيـبُ زمانَنـا والعيـب فيـنـا

ومـا لزمانِنـا عـيـبٌ سـوانـا

ونهجو ذا الزمـانَ بغيـرِ ذنْـبٍ

ولـو نطـق الزمـانُ لنـا هجانـا.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M