اللغة العربية بين البناء والاستهلاك

28 ديسمبر 2020 10:30

هوية بريس – عبد الكريم الحاج الطاهر

*حديث ذو شجون

التاريخ، لمن يقرأ، سجل حافل بالأحداث، ومن يشفع القراءة بالتملي وينظر إليه بقلب مفتوح وحس بصير، لن يعود بخفي حنين، ولن يأوب خاوي الوفاض بل يكن له حظ وافر من متعة لاتضاهى، ويستشعر لذة لا تقاوم، وتشد اهتمامه ما تكتنزه من إثارة جارفة وإغراء مثير، ومن أهم هذه الأحداث حديث عن اللغة العربية استرعى الانتباه وما زال، واستثار الفضول وما فتئ، وهو للإشارة، وكما يقال، حديث ذو شجون، لا سيما ما تخللته مواقف وأحكام تقييمية لهذه اللغة وقد سطرها أصحابها وهم فئتان، وهما على طرفي نقيض : فئة اصطفت في صف العربية ولا هم لها إلا المنافحة عنها، وأخرى تمالأت وانبرت لمناوأتها، فأما الأولى فهي متشبعة بالمثل العليا للأمة، متشبثة حتى النخاع بالقيم القومية، تجشمت عناء الذب عنها، والذود عن حياضها، ومضت قدما – في ملاحم بطولية – من المدح و الإطراء (إطراء هذه اللغة طبعا)، ودشنت لحديث ذو طابع احتفالي، احتفائي، تخيم عليه أجواء الفرح وترين عليه أحاسيس الابتهاج، وأضحت هاته الطقوس- لدى هاته الفئة – القاعدة الأساس والمألوف المعيش، ولئن كان معلوما لدى المهتمين بالشأن اللغوي أن اللغة العربية قد أتت عليها أحيان من الدهرتلقفتها الأزمة، و تبدت بوادرها واضحة جلية وتفاقمت حتى ” أرقت لياليها أبكار الهموم وعونها..”، ورمت بشرر كالقصر، كالبيت الضخم، كالجمالات الصفر، فتقهقرت، وأنهكتها وأنت تحت وطأتها ومن جراء ذلك ذب جسمها، وهزل وشف ونحل، فانزوت بعد انبساط وانقبضت بعد امتداد، وتطامنت بعد صعود، وصارت إلى هزيمة بعدما كانت تمتشق حسام العز، و(الحال هكذا) لم تستنكف هذه الفئة أن تكون ناصرة لها بل وسارعت إلى رفع التحدي وطفقت، بلا تقصيرولاهوادة، تبحث عن”مقاربة ” أو” خارطة طريق ” لحلها، ومرات كثيرة سارت على الدرب مستشرفة غدا أفضل لهذه اللغة ومستقبلا أكثر إشعاعا و- كسائر دروب البناء والتشييد – لم يك قط لحبا سالكا (لا اعوجاج فيه)، ولم يك مفروشا بالورود وما ينبغي أن يكون، وقد شقته بكل عزم وإصرار، وما وهنت وما تلغبت، ولم يثنها انكسار.

وجدير بالإشارة أن هذا الحديث عن اللغة العربية لدى هذه الفئة لم يك غثا/عجفا بل أفرزتراثا زاخرا من كتابات وكتب فذة مؤثثة فقراتها بنفائس، بسبائك ذهب، بدرر انسابت إلينا سواء من حقب تاريخية غابرة، موغلة في القدم، أومن عصرنا الحاضروها هي الآن تمثل أمامنا. وقمين بالذكر أن المكتبة العربية ، حبلى بكتب من هذا الطراز، وطافحة بالمئات بل وبالمئين من المؤلفات في هذا المضمار، كتب تناولت العربية يالتحليل والتمحيص، ووضعت نصب عينيها العربية وما يدور في فلكها من علوم البلاغة والنحو والبيان…، فراحت تشرح وتوضح ما غمض منها واستشكل…، علما أنها تحمل دمغة جماعة من ألمع ما سطعت به الحياة الثقافية/اللغوية من نجوم وأعلام..هم – بالتأكيد- أقطاب هذه الفئة، وها هي اليوم تستصدر منا انطباعا عجيبا حيث آنسنا فيها – أي في هذه المواقف/ النفائس-ملاذا ولا يمكن لكريم أن يجحد ذلك، وها نحن نتدثر بها فتبعث فينا دفئا ينسينا قرس وصقعة الزمهريرفي موسم الشتاء، كما نستجير بها في موسم الصيف ضد السموم والهاجرة وحر الرمضاء.

قال محمد بن إدريس الشافعي المطلبي القرشي ثالث الأئمة الأربعة والذي ذكره النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بقوله : ” عالم قريش يملأ الأرض علما ” قال في شأن اللغة العربية :

“ما جهل الناس وما اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطو طاليس “.

وقال الشاعر المصقع : حافظ إبراهيم وهو يطري اللغة العربية :

رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني                   عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً               وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظات

فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ           وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدر كامن             فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

ويقول محمد صادق الرافعي صاحب القلم الرائع السيال في دفاع مستميت مستقتل عن لغة الضاد : ” ما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار…” (وحي القلم).

ويقول شاعرنا المفلق وأمير الشعراء : أحمد شوقي :

إن الذي ملأ اللغات محاسنا           جعل الجمال وسره في الضاد

وقال بلبل المنابرالمسيحي اللبناني صادح القرآن الشاعرحليم دموس الذي سمى نفسه ” حسانا ” تيمنا بشاعر الرسول :

لغة إذا وقعت على أكبادنا            كانت لنا بردا على الأكباد

وتظل رابطة تؤلف بيننا             فهي الرجاء لناطق الضاد

وإذا انتقلنا تاريخيا إلى الوقت الراهن وحططنا الرحال عند الرعيل المعاصر لم نعدم أن نجد رجالا أفاضل غيورين ساروا على الدرب بنفس الوتيرة وشحذ ت هممهم نفس العزيمة ، ولا يمكن الحديث عن اللغة العربية دونما الإشارة إليهم، فقد أبلوا البلاء الحسن في الدفاع عن لغة الضاد ولغة القرآن، علما أن القاسم المشترك بينهم أنهم مغاربة أبا عن جد، وتربط بينهم آصرة المواطنة، وقد شكلوا حلقة وصل بيننا وبين أولئك الفرسان، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر :

*المرحوم الدكتور إدريس الكتاني (1922/2018) :أحد مؤسسي رابطة علماء المغرب في الستينات، والأمين العام لنادي الفكر الإسلامي.

*عبد العلي الودغيري(20/01/1944) : عضو مؤسس لاتحاد اللسانيين المغاربة…عمل مديرا لمؤسسة علال الفاسي بالرباط…من أهم مؤلفاته والتي تتناول اللغة العربية : ” الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب “، ” اللغة والدين والهوية “، ” اللغة العربية والثقافة الإسلامية بالغرب الإفريقي وملامح من التأثير المغربي “…

*الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري (20/04/1947) عالم لسانيات وخبير لساني دولي مغربي، وأستاذ باحث في اللسانيات العربية المقارنة، ورئيس جمعية اللسانيات بالمغرب، ومن مصنفاته : ” السياسة اللغوية في البلاد العربية: بحثا عن بيئة طبيعية، عادلة، ديموقراطية، وناجعة”  ذرات اللغة العربية وهندستها، دراسة استكشافية أدنوية ”

*الدكتور فؤاد بوعلي (17/10/1968): عالم لساني مغربي، رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية، من مؤلفاته : ” التنغيم في اللغة العربية ” ” الظاهرة اللغوية وتأسيس الوضع العربي “…

هذا ما يتعلق بالفئة الأولى، أما الفئة الثانية والتي تتمركز في الضفة الأخرى المقابلة، وتتخذها كقاعدة للانطلاق في أفق مواجهتها، فقد “صرح شرها-كما يقول الشاعر الفن الزماني- فأمسى وهو عريان ولم يبق سوى العدوان ” وقد دشنته فأعدت ما استطاعت من قوة ومن عدة وعتاد، وسخرت كل ما أوتيت من أحوال وحيل ومضت قدما لتفجر فضيحة بجلاجل (كما في التعبير المصري)، فهي تتخندق هناك وتتربص بالأولى الدوائر إيمانا منها بأن الحرب قد كشفت عن ساقيها وأن طبولها قد قرعت ودقت، وأن سماءها قد أمطرت نارا، ولا شيء يعلو فيها على صوت المدافع، وهي ضروس طاحنة وسجال، والأيام بينهما دول، كر و فر، نشوة انتصار تقابلها مرارة هزيمة، هي فئة مناوئة للأولى، أخذتها العزة بالإثم فتداعت وتألبت وتواصت باللحمة والاتحاد،  وآثرت السباحة ضد التيار واستحبت التحدي ورفعته كبيرق وشعار، ولجت في موقفها هذا عامهة (=مترددة متذبذبة)، وحسبت الأمر هينا وهو، في ميزان الأمة إمرا، عجبا، عظيما ونكرا، وضدا على كل التقاليد والأعراف مضت هي الأخرى قدما – لكن في هستيريا عارمة- من الذم والتقريع والهجاء، ” ذرب ” لسانها وفاض بأبأس الألقاب نابزة بها العربية، ونعقت بساقط من القول، وشَرَهت إلى نشره وإفشائه على نطاق واسع فسودت به الكتب والصحف والمجلات وبثته عبر أمواج الأثيرفي أكبر المحطات، ورفعت به عقيرتها في كل المحافل محلية كانت أو دولية…، من أبرز أعلامها : سلامة موسى، سعيد عقل وآخرون…

يقول الكاتب المصري سلامة موسى وهو من أشد أعداء العربية ومن الذين حطبوا في حبل أعدائها وكالوا بصاعه : ” إن اللغة العربية لغة بدوية، وأنها لغة رجعية متخلفة ”

أما الكاتب اللبناني سعيد عقل فقال متهكما وفي وقاحة : ” من أراد لغة القرآن فليذهب إلى أرض القرآن “.

كلام واضح، بين، لا تلعثم فيه ولا جمجمة ! و إمعان النظر فيه لا يدع مجالا للشك في أن هؤلاء وأمثالهم يحملون حقدا لهاته اللغة ويسعون سعيا حثيثا لإقبارها والإجهاز عليها.

*الفتى من يقول هأنذا…

وإذا كنت قد عرجت على حديث الأعداء حول لغة الضاد فلم يكن ذلك إلا من باب الاستئناس ليس إلا، فمهما تنادوا وحملوا عليها جهارا أو غيلة وغدرا من الخلف، فلن يضيرها ذلك شيء، وعلى غرار ” حديث الإفك ” المشهور في تاريخ الاسلام والذي – من خلال ترويجه- كانت (العصبة المنافقة) تروم زعزعة الصف الإسلامي والذي قال في شأنه (عز وجل) : ” لا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم “، فهذا الحديث الآفك، الذي لا أساس له ولا استيبان، والذي يريد النيل من اللغة، ينفث الخزعبلات كما تنفث الأساود الصب السم الزعاف، فبقدرما يتعاظم يكون بردا وسلاما على أهل الضاد وهو -ككل الشدائد- يصهر الأمة ويظهر معادن الرجال ويصقله، أو كما قال أحد الكتاب العرب : ” والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع، وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل، وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامدا إلا أصلبها عودا;وأقواها طبيعة، …”، ولنعلم أن النور من رحم الظلماء مسراه، ومعظم الانفراجات تنبثق من رحم المعانات، وكم من صفعات قادت إلى الخيرات..

وبتعبير آخر أقول : إن هذا الحديث الشاط هو – في جوهره- استئناف واستنساخ وامتداد لأحاديث الإفك المتناثرة عبر الزمن، صنولها، علما أنها حيكت ضد الأمة وضج بها التاريخ الإسلامي وطالت مجموعة من القضايا المصيرية، وهي تتساوق، وتتناسق في تحديد الغاية وتعيين الهدف، فلئن تغير الشكل فالفحوى واحد، ولم تكن (أي أحاديث الافك) إلا نعاقا ونعابا وحقيق علينا عدم الاكتراث بها، وفضلا عن ذلك فهي إلى مزبلة التاريخ، وهي أولى بها.

أما عن حديث ” الأنصار” وهم المنضوون تحت لواء الفئة الأولى، المومئ إليها سالفا فأقول ما يأتي :

للكاتب الفلسطيني : ” غازي أبو فرحة ” نظرية أسماها:(تعاقب الأجيال) وقد قسم فيها الأجيال إلى جيلين : جيل باني وجيل مستهلك/طفيلي، ووفقا لما جاء فيها من معايير في ضوئها يمكن أولا التمييز بين الجيلين، وتجعل هذا في منأى عن ذاك، وتضع بينهما برزخا/حاجزا فلا يبغي أحدهما على الآخر، وثانيا تخول لنا تحديد الشروط التي بدون استيفائها ينتفي “البناء “، وتلقائيا يحل محله “التطفل والاستهلاك “، وبناء عليه أقول، ولا يساورني أدنى شك في مصداقية ما سأقول، أن جيل الأنصار جيل مؤسس بناء، فقد بنى وأحسن البناء وأتقن التشييد، وتفانى في ذلك واستعذب المحن رغم ما واجهه من عقبات شاقة كأداء، أجل، بنوا وأعلوا للعلا صرحا متين الأسس تقوم عليه العربية، بنوا للعربية مجدا تليدا فاعتززنا، وزرعوا فحصدنا، ومهدوا لنا الطريق وسلموا لنا المشعل عسانا نواصل المسيرفهل فعلنا ؟! ولا يسعني في هذا المقام من هذا المقال إلا أن أستحضر وأردد نداء للرافعي وجهه إلى الشباب العربي قائلا : ” فأنتم – شباب العرب – حراس أشرف لغة فهل عرفتم دوركم ؟ ” أجل وأنا -إذ أنضم إلى الأستاذ/الحذوة- فإنني أطرح نفس السؤال/المعضلة وإن بصيغة أخرى وأقول : أين نحن -يا شباب العرب – من هذا البناء ? هل واصلنا المسير أم حشرنا أنفسنا في ” الفئة المستهلكة الطفيلية ” ؟ هل واصلنا البناء أم اثاقلنا وتخاذلنا واستمرأنا الخمول، ورضينا بالعيش تحت أرجل التاريخ كالمتقاعس الكسول، وأخلدنا إلى الأرض واكتفينا باجترار آثارالأقدمين?

يقول رابع الخلفاء الراشدين وصهر النبي الصادق الأمين، وأبو الحسن والحسين، والشاعر الحكيم “علي بن أبي طالب” (رضي الله عنه) :

كن ابن من شئت واكتسب أدبا          يغنيك محموده عن النسب

فليس يغني الحسب نسبتــه           بلا لسان لـــه ولا أدب

إن الفتى من يقــول هأنا ذا           ليس الفتى من يقول كان أبي

بحافز الاعتراف والمثاقفة، وبدافع التلاقح، لا أرى ضيرا، بل جميل جدا أن يلتفت المرء إلى الماضي سواءإلى جانبه المشرق الوضيء أو الآخر المظلم المعتم بغاية المتح والاستقاء مستلهما منه العبر والعظات وهي مدعاة إلى النهوض من العثرات والزلات وهذا – لعمري – من شيم الأكابرومناقب الكرام، والأجمل من هذا أن يلتفت إلى هذا الماضي وعينه على استثماره وليتخذ منه أرضية للوثوب طثرات وطفرات نوعية وجبارة إلى الأمام، وخلفية للإنطلاق إلى آفاق أرحب وأوسع، يقول علي بن أبي طالب في التاريخ : ” واستدل على ما لم يكن بما كان فإن الأمور اشتباه “، ويقول أدولف هتلر : ” من لا يتعلم من الماضي لا يرحمه المستقبل “.

وبتنويع في الكلمة والسياق أردف قائلا، موضحا، ومنتقلا من العام إلى الخاص : إن آباءنا وأجدادنا – وفي مجال المنافحة عن اللغة العربية- قد أدوا الدور المنوط بهم خير أداء، وبلغوا الرسالة الملقاة على عاتقهم أعظم تبليغ، وقالوا كلمتهم وانسحبوا في سمق معززين مكرمين، وبتفانيهم هذا يكونوا قد أتعبوا من جاء بعدهم، فهل يليق بامرئ حباه الله قلبا مفعما بالايمان، علما أنه حريتمتع بكامل قواه العقلية والبدنية ناهيك عن انتمائه إلى أمة قوامها الحركة والإيجابية والعمل الدؤوب ويحدوها الأمل، وشعارها عدم الركون إلى الخمول والكسل، هل يليق به أن يتنكب طريق هؤلاء الآباء البناة، ويميل عنه ويحيد فينشق عنهم فتنفلق-جراء ذلك- عصا الجماعة وتتشظى لحمتها، ويضحى معنيا ومستهدفا بقول ابن الرومي :

لئن فخرت بآباء ذوي حسب      لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا

وهل يستسيغ دون مضاضة أن يكون كلا على التاريخ أينما توجه لا يأت بخير، فيدخل إليه من بابه الضيق أو الخلفي حين يتلبس بله يتقمص- في تذلل واتضاع-دور” بقرات العزيز العجاف ” المتلبسات والضالعات في فضيحة مجلجلة أنت تحتها الأرض ودوت من جرائها أرجاء المعمورة حيث التهمن وأكلن أخواتهن السبع السمان المطهمات ؟! ولئن كان الجواب بالنفي، ولا ينبغي أن يكون إلا كذلك، فها هي الفرصة قد لاحت، وقديما قالت العرب : ” الصيف ضيعت اللبن “، والصيف هنا ظرف زمان وهو موسم لاهتبال الفرص، وها هو صيفنا قد صرح نهاره، وتهللت شموسه فغازلتنا وتجلت هدأته فناغتنا، وانجلت عروسه فأبهجتنا، فهل يستملح أن يضيع اللبن والضروع من حولنا قد درت وهي ملآى حفل ؟!…، وها هوالمشعل قد بات بين أيدينا نحن الجيل الحاضر، فكيف يمكن أن نكرر ما أنجزه هؤلاء ، وكيف يتأتى لنا الإبقاء على ناره مشتعلة متوقدة لننير بها الظلمات التي تشتملها من كل جانب ؟

لتحقيق ذلك، ولمواصلة البناء، لامندوحة لنا عن مراعاة التدابير العملية التالية والحرص على تنزيلها :

*المشايعة اللامشروطة للفئة البانية، والتعضيد الفعلي لها، وتعزيرها (=نصرتها).

*الهرع على آثارها واتباع سننها “حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل”.

*قراءة التراث الزاخر الذي خلفته و-لأن فاقد الشيء لا يعطيه- ينبغي أولا تمثله في أرض الواقع، ثم بثه بين الناس( أبناء وأقارب وأصدقاء وسائرأبناء الأمة)، ولا يليق بنا التواني أو التقصير في ذلك، بل يتحتم علينا مواصلة المسيرعلى هذا الطريق، وهو، دون شك، عسير وغير يسير، في أفق تقرير المصير لهاته اللغة التي عانت الأمرين وذلك بالإسهام، ولو بالنزر القليل، في ” مشروع ” إزالة الغشاوة عن أعين الناس حتى يروا اللغة العربية بمنظور سليم لا تشوبه شائبة ولايعكر صفوه معكرولا يعتوره نقصان أو قصور، وذلك- طبعا – في أفق مد الجسورلتأمين العبور إلى تطبيع العلاقة بين العربية والجمهور، والقطع مع مرحلة النفور و الفتور التي هيمنت وسادت وصالت وجالت لدهور وعصور.

وفي الختام، وآمل أن يكون مسكا من أجمل الغزلان، أقول : إنه لمن نافلة القول التأكيد على أن هذا هو طريق ” البناء ” الذي إذا سلكناه نحينا عن أنفسنا تهمة الاجترار والتطفل و ” الإستهلاك “، فمن كان دأبه وديدنه هكذا، حق له أن يتشامخ ويقول : رحم الله الآباء المبجلين أما أنا فها أنذا.

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. كلمات نابعة من قلب أقل ما يمكن أن يقال عنه غيور، و طريقة في الكتابة أعادت للغة العربية هيبتها وسط هذا الكم الهائل من اللغات،أحسنت خالي و صديقي العزيز، أتمنى لك التوفيق و القوة لمواصلة الدفاع عن أم لساننا.

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M