جرائم فرنسا الباردة بالمغرب (ج4) صنع مغرب جديد

22 أكتوبر 2020 19:25
جرائم فرنسا الباردة بالمغرب (ج4) صنع مغرب جديد

هوية بريس – ذ.إدريس كرم

– صنع مغرب جديد

– الحضارة الفرنسية كسرت مفهوم وجود المغاربة

– اختراق البيت المسلم

– القضاء الأنماط الصناعية والزراعية والقيمية للمغاربة

لقد اعتمدنا في هذا التصنيف على ما كتبه نقيب المحامين بمكناس في كتابه le drame du maroc “بول بيتان” بالفصل الخامس المعنون بـ: “الإنسان الذي فقد المفتاح”

– صنع مغرب جديد

سبق لي فرصة التأكيد على هذا العمل السهل الاكتشاف، الذي كان لدينا لافتة للحضارة الغربية عند المسنين المقيمين في مغرب ما قبل الحماية، حيث تطورت العلاقة بينهم وبين المغاربة بشكل تدريجي، جعل أولئك الأوربيين يندمجون في محيطهم المغربي بسلاسة ويسر، يتعلمون ما يحتاجونه في تدبير معاشهم وتسهيل أعمالهم من غير إكراهات متبادلة تقنية وحضارية، لغاية فرض الحماية على المغرب ودخول القوات الفرنسية لتنفيذها، أي صنع مغرب جديد، وهو الخطأ الذي ارتكبناه، والذي لم يكن لنا بد من ارتكابه، مما شكل أحد الأسباب العميقة للصعوبات التي تناقش حاليا بالمغرب.

منظمة الأمم المتحدة، نشرت للتو دراسة غنية بالدروس، والتي يجب أن نعرفها جميعا ونتأملها، وهي تحتوي على نتائج مسح حول تكيف الحضارات التقليدية مع التقدم التقني.

الإدخال الوحشي لنمط عيشي مغاير

– نتائج الإدخال الوحشي لنمط عيش مغاير

لقد اكتشف خبراء الأمم المتحدة المسؤولون عن البعثات الفنية في البلدان المختلفة، الآثار الكارثية للإدخال الوحشي لتقنيات غريبة، في مجتمعات تأسست على نظام عقدي تقليدي، بعيد كل البعد عن الحضارة الغربية، لقد كان عليهم أن يدركوا أنه من أجل قبول تمظهرات هذه الحضارة دون ضرر، كان عليهم إجراء تطوير لإدخالها في نسق عام، يتعلق بعدم تغيير الصحة العقلية للسكان، الذين يراد ضمان ارتفاع مستوى عيشهم.

– الحضارة الفرنسية كسرت مفهوم وجود المغاربة

بالنسبة للحضارة التقنية التي قدمناها للمغاربة، فإن معظمهم لم يتكيفوا معها، فهم يعانون -دون وعي- من عدم قدرتهم على تحليل أسباب ذلك العجز، إنهم لا يدركون أننا “كسرنا” حرفيا نظام حياتهم بالكامل، بل مفهوم الوجود الذي توارثوا تراكمه عبر القرون.

وفق نمط اجتماعي واقتصادي وديني وبيئي تم تشكيله شيئا فشيئا في ملاءمة بين الحاجة والضرورة، كي يحقق الإنسان من خلال ضوابطه، وألياته، توازنه، وكينونته كإنسان؛ لكن عندما جئنا نحن قدمنا لهذا الإنسان نسقا للحياة، ونمطا لعيش جديد بالكامل، جد جديد بالنسبة له.

وهذا ما جعل أحدهم يظهره في قالة تشبيه هي: “لقد ضيعنا المفتاح” طالما بقيت الحضارة المغربية منطوية على نفسها، وتعيش في تواصل مع قلة من الأوربيين، لم يحدث أي شيء غير طبيعي كما بينا سابقا، لقلة عددهم وظروف وجودهم المادية، التي كانت تسمح لهم بالانخراط في الحياة المغربية التي كانوا مرغمين على تقبلها.

لكن منذ توقيع الحماية حدث اقتحام حقيقي للمغرب أنتج بالخارج، جسده حوالي 350 ألف أوربي -دون احتساب قوات الكولون المعدة بالآلاف- التحقوا بالمغرب تباعا في غضون أربعين سنة حاملين معهم حضارتهم كما عاشوها في مساقط رؤوسهم بين عائلاتهم الأوربية، بمعدل متوسط يتراوح بين تسعة وعشرة آلاف شخص -نشيط، ومقدام- في السنة، لينشؤوا المغرب العصري، غير مهتمين بالمغرب القديم -وكأنه لم يكن موجودا قبل قدومهم لأرضه- الذي واصل وجوده قربهم على الهامش، لكن هل استمر فعلا؟

– اختراق البيت المسلم

البيت المسلم من الداخل لم يتغير إلا قليلا، وكذا مظهره الخارجي الملائم، والمرحب به نوعا ما، بقي هذا البيت ملاذا للأمن والسكينة من ضوضاء الخارج، بفضل قدرته على كتمان الصوت، ومنعه من النفاذ للداخل أو وصوله خافتا ضعيفا، إلا ما كان من صوت الراديو -كما سبقت الإشارة- الذي دخل المنازل وسيتبعه التلفزيون، حيث بلغ عدد أجهزة الراديو المصرح بها حوالي 20 ألف جهاز دخلت البيوت المغربية لحد الآن، هذه البيوت التي كانت منغلقة على نفسها، قد تم اختراقها من قبل برامج هذه الأجهزة، ناقلة لها ما يجري في العالم الخارجي من أفكار وصخب، مما يبرر التشديد على الصحافة المغربية بسب حالة الحصار المطبقة على المغرب من قبل سلطة الحماية، كما وقع اختراق آخر للبيت المغربي تمثل في ساعة مضبوطة للخروج للمدرسة، سواء كان أطفاله يذهبون للمدرسة الرسمية للحصول على تعليم عصري، أو المدارس القرآنية لحفظ القرآن، والإعداد للالتحاق بجامعة القرويين التقليدية، بعدما كان التوقيت مقتصرا على أوقات الصلاة، أو ميعاد الذهاب للعمل.

لك أن تتخيل عندما تعود للمنزل، مقدار الأفكار الجديدة التي سيحملها الخارجون من المنزل للقاطنين به، لكن في إطاره القديم، ويبقى قديما بالطبع التكوين المختلف المقدم من طرف الآباء، وهنا يمكن أن نرى أحد جوانب الدراما.

ليس هذا فقط وإنما الدراما الحقيقية عندما يترك المغربي الآن منزل العائلة، أو المدينة القديمة، للمدينة الأوربية المجاورة، يجد نفسه داخل عالم آخر، لا علاقة له بحياته الاجتماعية والاقتصادية والدينية، كل شيء بها مغاير ومعكوس عما ألفه، شوارع واسعة مضاءة بالكهرباء، صفت عليها مقاه ومتاجر واسعة، ساطعة الإضاءة ومتعددة الألوان والبضائع الخارجية، منازل بواجهات فخمة، وأحينا بطوابق متعددة، ومعامل منتشرة هنا وهناك، وورش إصلاح الآليات الحديثة، وأسواق بلدية ممنوعة عن الأهالي غير العاملين بها في حمل البضائع ونقلها، حافلات سريعة وشاحنات للنقل وسيارات خاصة متعددة الأشكال والألوان، عالم متنوع غريب بالمقارنة لما في المدينة المغربية القديمة، ناهيك عن المدارس والمعاهد والمؤسسات الصحية.

– القضاء على التراتيب المحلية

لقد شكلت المعامل الصناعية الجديدة نمطا مغايرا لما كانت عليه الصناعة اليدوية بالمغرب طيلة قرون، لاعتمادها على الجهد البشري والتدريب المتوارث أبا عن جد، بينما المعامل الجديدة تعتمد على الآلة التي رفعت من الإنتاج، وشغلت يدا عاملة كبيرة بأجر معين وفق ساعات معينة للعمل، متبعة طرقا رأسمالية غير إنسانية، تجعل من الربح أساسا للعمل، دون مراعاة مكونات العمل وظروف اشتغال العامل الذي كونت كثرته ظهور طبقة البروليتاريا، التي لم تكن موجودة بالمغرب.

وبذلك تكون المعامل قد ساهمت بقوة في تحطيم الأطر الاجتماعية والعائلية من خلال استدعاء قوة عاملة كبيرة، ذكورا وإناثا، للمدينة، وجدت نفسها قد تحولت بين عشية وضحاها لطبقة جدية، غير مفهومة الهوية، بلا قبيلة ولا عائلة، ولا أرض، عمل دائم لا يعرف الموسمية، ولا الأيام الفاضلة التي لا يجمل الاشتغال فيها، ولا يعرف المشاركة في المحصول، كما كان الأمر بالنسبة للخماس والرباع، بل فقط عمل وأجر، لا يدري العامل كيفية احتسابه، وسكن يضمن النوم ولا يضمن الراحة.

بل حتى في البادية حولنا طرق الزراعة باعتماد الآلات، للوصول لمردود أعلى، وصار الخماس والرباع أجيرا يعمل باستمرار، ولا يهتم به إن كان صائما أو مفطرا، شبعانا أو جائعا، ولا إن كان ملتزما بالقيام بشعائر الإسلام أم لا، لأن العمل لا يراعي تدين الشخص من عدمه يستوي في ذلك عامل المصنع في المدينة، وخادمات البيوت الأوربية، اللواتي يهيئن الطعام ويقدمنه في رمضان وهن صائمات، لمشغليهم الذين لا يشعرون بأي حرج.

(بل إن حاكم الرباط العسكري سنة 1911 أرسل من يخبر باشا سلا أنه سيتناول طعام الفطور عنده صحبة ابنه على الساعة العاشرة صباحا، وكان اليوم الأول من رمضان، وبالفعل أعد الباشا الفطور للضابط من قبل أسرة في حالة صيام).

واقعة أخرى حدثت بين قائد ومراقب مدني (بعث القائد للمراقب يقول: إني أفكر في… فأجابه المراقب: لا حاجة لنا بقائد يفكر) مع العلم أن دور المراقب تنفيذ ما يأمر به القائد!!

بماذا يمكن وصف هذه التصرفات الفجة؟ وإلى ماذا ستؤدي؟ ستؤدي لـ: انشطار، اقتلاع، دوس لا واعي لحضارة ألفية -كأنها تبدو بجانب بعض النجاحات غير الطوعية لحضورنا بالمغرب والأساليب التي استعملناها- يجعلنا نقول بأن حضارتنا صنعت عذابا حقيقيا للمغاربة.

– الحضارة الفرنسية عذاب حقيقي للمغاربة

هذه الوضعية تفاقمت بسبب الأخطاء الخطيرة لتقنوقراطيينا، إنهم تقنيون متميزون لكنهم فاقدون للحس الإنساني، ليس أي انسان كما كان، لكنه إحساس بإنسان يسمى المغربي كيفما كان بعيوبه ونوعيته، حيثما تشكل في الأرض التي عمل بها، وتحت أي مناخ عاش، والدين الذي لقن من قبل النبي الذي حمله له، الحضارة التي انغمس فيها، والثقافة الروحية أو الوثنية الباقية أيضا في البادية.

أمثلة على هذه الأخطاء نجدها في كل مكان صغيرا كان أو كبيرا، وكلها تؤدي لتجاهل الإنسان الحقيقي.

نحن لا نحمل أحدا هذه الأخطاء مجتمعة أو متفرقة، لكن علينا مراجعة كل حركاتنا وإعادة للتفكير في سلوكنا، بدء من هذه المعطيات الأساسية التي سلطت السوسيولوجية الحديثة الضوء عليها.

في المجتمع التقليدي لا يجب إدخال أشياء جديدة للنسيج الاجتماعي فجأة، ولكن دائما يجب البدء بتحسين الواقع الحقيقي تدريجيا، كلما كانت هذه المجتمعات قديمة كلما كان أعضاؤها أكثر محافظة، بيد أن هؤلاء الأعضاء قادرون على استيعاب المستجدات ما دامت لا تتعارض مع المعطيات الفطرية عندهم، وعند وجود تناقض ما يجب المضي في تدليله تباعا إذا كنا لا نريد خلق اختلال خطير في توازن الفرد أو مجموعته، وتجنب عودتهم للأساليب القديمة في أول فرصة.

النجاحات القليلة التي يمكن الاستشهاد بها لا تلغي هذه القاعدة،

في كثير من الأحيان علاوة على ذلك، يتخيل المرء أن المستجدات قد تم استيعابها، ولكن سرعان ما يدرك أن ترك الفرد لنفسه يتفاعل بطريقة تبدو غير متماسكة بالنسبة لنا، مما يدل على أن ذلك الاستيعاب كان سطحيا فقط، ولم يؤثر في الشخصية الأساسية.

دعونا لا نتفاجأ اليوم ببعض مواقف المغاربة، فبدلا من الحديث عن الجحود، من الأفضل أن نسأل أنفسنا من أين تأتي ردود الفعل التي تبدو لنا غير مفهومة، لا شك أنها تتأصل إلى حد ما من الاضطراب العميق المعتلج في صدورهم، نتيجة الانكسار الذي أحدثناه فجأة في نسقهم التقليدي، والذي أتاحت له الظروف الظهور فجأة في أسلوب حياتهم التقليدي الذي اعتقدنا أننا قتلناه.

والأمر متروك لنا لإدراك ذلك، واستخلاص النتائج الضرورية من ذلك.

(بول بيتان؛ ص:87-97 Le drame du maroc)

تعليق:

تلك بعض الجرائم الفرنسة الباردة التي ما يزال المغاربة يعانون من أضرارها، لاستعصاء مكافحتها وتواصل إنكائها والتفنن في توليدها وتدوير تفلتها.

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M